في مواجهة الصفقة: ثقافة جديدة لفدائيّ جديد
08-02-2020

 

على عاتق المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة تقع المهمَّةُ الرئيسةُ في إسقاط مشروع التصفية و"صفقة القرن" الأمريكيّة ـــ الصهيونيّة ـــ الرجعيّة. فالسلاح، في نهاية الأمر، ليس للتخزين أو الاستعراض الشكليّ، بل لحماية الحقوق والكرامة الوطنيّة.

وإلى جانب السلاح، ينبغي تصعيدُ كلّ أشكال الكفاح الشعبيّ الشامل، خصوصًا المؤثِّرة والمُجرَّبة، التي يَحسب لها العدوُّ ألفَ حساب: كالفعل الانتفاضيّ الشعبيّ، وحركةِ المقاطعة.

إنّ عناصر القوّة الموجودة لدى الشعب الفلسطينيّ كثيرة، ومهمّة، وقادرة على التصدّي لمشروع التصفية. لكنّ هذا يفترض شروطًا محدّدة، أبرزُها: القيادةُ الوطنيّةُ الموثوقة، والإرادةُ السياسيّةُ الثوريّة، وخطّةُ العمل الموحّدةُ والواضحة، ومشاركةُ أوسع قطاعات شعبيّة فلسطينيّة في مواجهة مخطَّطات الاحتلال وتيّارِ التفريط والاستسلام الذي تمثّله السلطةُ الفلسطينيّة (وبعضُ الفصائل الهامشيّة التابعة).

بعبارةٍ أدقّ: المواجهة تستلزم، أوّلًا، دفنَ الكيان الفلسطينيّ التابع والمرتهن، وإسقاطَ نهج السلطة.

 

دروس التجربة الماضية

لقد عجزت المقاومةُ الفلسطينيّة في السابق عن منع حصول أوسلو (أيلول 1993 )، وفشلتْ لاحقًا في كبح جماح تيّار الاستسلام والتفريط. فلنذْكرْ كيف أُعلِن عن تأسيس "تحالف الفصائل العشرة" في دمشق (حماس، والجهاد، والشعبيّة، والديموقراطيّة، والقيادة العامّة،...) ونذر نفسَه لإسقاط أوسلو. أين هو اليوم؟

ولنذكرْ أنّه دعا، في منتصف التسعينيّات، إلى إسقاط "الاتفاق الخيانيّ الكارثيّ،" وهو محقٌّ في هذه التسمية، وعَقد العديدَ من اللقاءات والمؤتمرات. لكنّه تلاشى، وبقي كيانُ أوسلو يعمل في خدمة الاحتلال، ويتكرّس يوميًّا ومادّيًّا على الأرض الفلسطينيّة، برعاية معسكر العدوّ الأمريكيِّ والاتحاد الأوروبيِّ والنظام العربيّ في أقطابه الأكثر ظلاميّةً ورجعيّةً.

بل نحن نذكر جيّدًا تلك العبارةَ الرَّديئةَ التي أوردتْها صحيفةُ الحياة اللندنيّة في مقابلةٍ أجرتْها مع محمود عبّاس بعد توقيع أوسلو، حين سألوه عن موقفه من تشكيل ذلك التحالف، فقال حرفيًّا: "هذه الفصائل ستعود إلى بيت الطاعة."

فهل عادت إلى بيت الطاعة... فعلًا؟

إنّ الانتقال، اليوم، من الرفض اللفظيّ لصفقة القرن ومشروع التصفية الأمريكيّة، إلى برنامج المواجهة الفعليّ، يشترط أوّلًا القطْعَ الكاملَ مع أوهام سلطة أوسلو وقيادةِ منظّمة التحرير. وهذا يشمل التخلّي عن الامتيازات الصغيرة التي قدّمتْها أجهزةُ أوسلو لبعض القوى والشخصيّات والكوادر. فإذا كنّا غيرَ قادرين على ردع معسكر الأعداء، فهل نعجز عن تجاوز الكوابح الداخليّة التي تَحُولُ دون اشتقاق استراتيجيّةٍ سياسيّةٍ تحرّريّة؟

لا يُمْكن عاقلًا أنْ يَقْنعَ بأنّ شعبَنا الفلسطينيّ المناضل، صاحبَ التجربة التاريخيّة الطويلة في مقارعة الاستعمار، لا يستطيع التمرُّدَ على نهج السلطة الفلسطينيّة، وقلْبَ الطاولةِ على رؤوس الجميع، إذا أراد حقًّا حمايةَ وجوده وهويّتِه وحقوقه. فأنْ تكون "فلسطينيًّا" ليس امتيازًا، بل مسؤوليّةٌ وطنيّةٌ وقوميّةٌ وإنسانيّةٌ تجاه قضيّةٍ كبرى، لكونك - شئتَ أمْ أبيتَ - رأسَ حربةِ الأمّة جمعاءَ في مواجهة الكيان الصهيونيّ ومشروعِه في فلسطين.

 

الفصائل: ماذا بعد التكرار؟

مع كلِّ كارثةٍ جديدةٍ أو تنازلاتٍ سياسيّةٍ تُقْدِم عليها قيادةُ منظّمة التحرير، نجدُ ما يشبه "فزعةَ الفصائل" التي تتحرّك قياداتُها بين مكاتب الجزيرة والميادين والعربيّة. غير أنّ العدوّ الصهيونيّ لا يكترث بما يقوله هذا المسؤولُ الفلسطينيُّ أو ذاك، ولكنّه يكترث كثيرًا إذا تحرّكتِ الكوادرُ والقواعدُ المقاتلة في قوى المقاومة من أجل إنجاز مهامَّ كفاحيّةٍ محدّدة، هدفُها: كبحُ تيّار الاستسلام في الساحتيْن الفلسطينيّة والعربيّة، وإلحاقُ الهزيمة بمشروعه.

ليس بالضرورة أنْ تأتي المواجهةُ على صيغة سيناريو واحد في كلّ مكانٍ من أماكن وجود شعبنا. المهمُّ هو التأسيسُ لمرحلةٍ جديدةٍ، سمتُها الأولى إطلاقُ الطاقات الفلسطينيّة الشعبيّة الكامنة والهائلة التي تحتجزها "قياداتُ الفصائل." هنا يجب الفصلُ بين قواعد الفصائل من جهة، وقياداتِها التي "تدوِّر الزوايا" مع فريق أوسلو من جهةٍ ثانية. فهذه القيادات لا تبحث عن تغييرٍ جذريٍّ تحمي به حقوقَ شعبنا. والسبب أنّها لا تبحث عن تحقيق النصر، بل تتلطّى خلف شعاراتٍ أبرزُها "المصالحة" و"الوحدة الوطنيّة" وغيرُها من الشعارات التي باتت محطًّا للتندّر الشعبيّ. وهي، في تلطّيها هذا، تذكّرنا بتلطّي السلطة الفلسطينيّة نفسها، لكنْ خلف شعارات "الدولة" و"المشروع الوطنيّ" و"القرار الفلسطينيّ المستقلّ."

كلُّ هذه الشعارات لا معنى ولا قيمة لها، وتُفاقم مشاعرَ التيهِ والقلقِ والإرباكِ لدى جماهيرنا. إنّها مقولاتُ العاجز أو المتواطئ: لا تُغيظ عدوًّا، ولا تسرُّ صديقًا.

نعم، هناك مهامُّ وطنيّةٌ فلسطينيّةٌ عاجلة، ويجب عدمُ الهروب منها، وإلّا كرّرنا طحنَ الهواء ولوْكَه واجترارَه، بينما العدوُّ الصهيونيُّ يواصل مشروعَه ويخلق المزيدَ من "الحقائق على الأرض" الفلسطينيّة. وهو يفعل ذلك بالحديد والنار والبلدوزرات والدبّابات أوّلًا، ثمّ "يناقشكَ" بعد ذلك، ويحصد النتائجَ لاحقًا. وما يحصدُه العدوُّ يَقْبله، ضمنيًّا، فريقُ أوسلو! ألا تسأل نفسَكَ، عزيزي القارئ، لماذا أقلع هذا الفريقُ عن ذكر جدار الضمِّ والنهب مثلًا؟ متى سمعتَ آخرَ مرّة محمود عبّاس يطالب بإزالة الجدار؟

ما العمل إذن؟ كيف نواجه تيّارًا فلسطينيًّا قاد منفردًا "منظّمة التحرير،" وذهب في خياراته إلى تأمين مصالحه فقط؟

هذا تيّارٌ يعلن، نهارًا جهارًا، أنّ "التنسيق الأمنيّ مع إسرائيل مقدّس،" وأنّ أقصى ما يريده هو التزامُ "اسرائيل" باتفاقيّات أوسلو.

 

أحمد سعدات وابطال عمليّة 17 اكتوبر الذين اعتقلتهم السلطة الفلسطينية في يناير 2002 

 

هذا تيّارٌ يقوم، عبر أجهزته الأمنيّة المرتبطة بالكيان الصهيونيّ والمخابرات الأمريكيّة ومخابراتِ الأنظمة الرجعيّة، بتجريم قوى المقاومة المسلّحة، واعتقالِ كوادرها الشبابيّة والطلّابيّة والنقابيّة (وإنْ لم تستخدم السلاحَ)، ويستهدف برنامجَها ومواقفَها، حتّى تظلّ في حالة دفاعٍ عن النفس ولا تنتقلَ إلى حيِّز المبادرة والفعل.

هذا تيّارٌ ينفِّذ برنامجَ العدوّ بحذافيره!

 

ما خلف السلاح والكلام

لقد استطاعت ثلاثُ خلايا سرّيّة في الأرض المحتلّة، في السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي، منعَ العدوّ من تنفيذ مخطّطه المعروف بـ"روابط القرى." ويُنقل عن شمعون بيريز قولُه "إنّ الرصاصات التي أصابت قلبَ ظافر المصري أصابت قلبَ التسوية."

ولكنّ السلطة الحاكمة في الأرض المحتلّة اليوم هي سلطة فلسطينيّة مسلّحة، تقودها شخصيّاتٌ معروفةٌ مرتبطةٌ في عروةٍ وثقى بوكالة المخابرات الأمريكيّة والموساد ومؤسّساتِ الكيان الصهيوني الأمنيّة، ولديها مشروعُها الخاصّ. السلطة الفلسطينيّة، في المحصِّلة النهائيّة، هي تقاسمٌ للنفوذ والمصالح بين الرأسماليّة الفلسطينيّة الكبيرة وهذه الشريحة من "عسكر أمريكا" في الضفّة الغربيّة.

حقائقُ كهذه تتطلّب تكامُلَ عناصر القوّة الفلسطينيّة الشعبيّة من أجل إسقاط نهج السلطة التي تساوقتْ مع المشاريع الصهيونيّة والأمريكيّة، منذ مؤتمر مدريد على أقلِّ تقدير. وهذا يتطلّب، بعد ذلك، تأسيسَ "جبهة المقاومة الفلسطينيّة الموحّدة" التي في وسعها تحريكُ قطاعاتٍ شعبيّةٍ واسعة في الوطن والشتات ضدَّ نهج أوسلو، وإعلانُ موقفٍ صريحٍ يعيد الصراع مع العدوِّ إلى المربّع الأوّل.

لا يخاف العدوُّ من كثرة السلاح أو كثرة الكلام، بقدر ما يخاف من الإرادة الشعبيّة التي تقف خلف السلاح، ومن الوعي الذي يقف خلف الكلمة الصادقة.

 

جبهة مقاومة موحَّدة في مواجهة الكومبرادور العميل

لن تتخلّى الشرائحُ الكومبرادوريّة الفلسطينيّة التي تعتاش على لحم القضيّة الفلسطينيّة عن امتيازاتها إلّا إذا شعرتْ أنّها ستخسر كلَّ شيء: مشاريعَها الاقتصاديّة، وبنوكَها، وشركاتِها، وروحَها إذا اقتضى الأمر. ومن هنا، لا بدَّ من مشروع ثوريّ فلسطينيّ بديل؛ مشروعٍ يرى كلَّ الشعب الفلسطينيّ، ويرتبط بعمقه العربيّ القوميّ وبقوى التغيير الثوريّ في العالم.

فمِن دون التصدّي الشعبيّ لمشروع السلطة الفلسطينيّة، ومن دون الدخول في مجابهة مباشرة مع الاحتلال وأدواته، سنظلّ ندور في حلقةٍ مفرغة، وسيظلُّ العدوُّ يفرض "حقائقَه" الباردةَ في فلسطين والمنطقة.

والسؤال اليوم برسم قوى المقاومة: ما هي الحقائق الفلسطينيّة التي يمكننا نحن فرضُها على الارض؟

 

كلمة أخيرة: عن دور المثقّفين الفلسطينيّين

لقد خان كثيرٌ من المثقّفين الفلسطينيّين دورَهم في خدمة العمل الفدائيِّ، وفي التنظير لمشروعٍ تحرّريّ عروبيّ مقاوم، وأخفقوا في قول الحقيقة. عددٌ منهم التحق بصراع المَحاور، أو ابتعلتْه آليّاتُ السلطة الفلسطينيّة ومؤسّساتُ الاستعمار الجديد التي تسمَّى "المنظّمات غيرَ الحكوميّة." ولذلك صرنا في حاجةٍ ماسّةٍ إلى ثقافةٍ وطنيّةٍ ثوريّةٍ جذريّة، عنوانُها: ثقافةٌ جديدةٌ لفدائيٍّ جديدٍ.

كانت أكثرُ رسوم ناجي العلي، وأكثرُ كتابات غسّان كنفاني، تدور حول الوضع الفلسطينيّ الداخليّ. ولم يكن ذلك صُدفةً، أو ناجمًا عن قِلّة معرفةٍ أو اهتمامٍ بأوضاع كيان العدوّ، وإنّما اعتَبرا التركيزَ على الجبهة الداخليّة أولويّةً من أجل مواجهةِ نتائج الهزيمة والعدوان، ولجمِ التغوُّل على حقوق المخيّمات والطبقات الشعبيّة المفقَرة، واقتراح الحلول. ولقد عرفا أنّه بقدر ما يكون الجسمُ الفلسطينيُّ مُعافًى، يكون الفعلُ الفلسطينيُّ أكثرَ فاعليّةً وقوّةً في مواجهة العدوّ الصهيونيّ.

كلُّ ما أراده ناجي وغسان هو أنْ لا نصلَ إلى هذه "الصفقة،" أكان ذلك من بوّابة العجز أمِ التبريرِ أمِ الخيانة!

كندا

خالد بركات

كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.