قطار غزْة - بيت لحم
07-06-2021

 

(قصصُ أطفال للكبار: إلى أطفال غزّة الذين ارتقوْا إلى السماء)

 

عندما تُغلَق المدرسة

كان الأمرُ سيئًا جدًّا. فقد ماتت سجى تحت ركام شقّتهم قبل أسبوعٍ واحدٍ فقط من ظهور البراعم على الأغصان. لكنّني أعتقد أنّ الأغصان لا تعرف ذلك لأنّ المدرسة كانت مغلقةً منذ أربعة أيّام بسبب القصف.

الواقع أنّه حتى لو كانت هناك مدرسة، فأهالي الأولاد لن يسمحوا لهم بالمجيء لأنّهم يخافون عليهم من القصف العشوائيّ. لذلك عندما بدأت البراعمُ تظهر على الأغصان لأوّل مرّة، لم نكن مضطربين كثيرًا. كما أنّ الجروَ الصغيرَ الذي عَثرتْ عليه سجى تحت الخزّان ما زال ينمو، ويمرح فوق العشب؛ فهو الآخر لا يعلم أنّها ماتت بسبب القصف، لأنّ المدرسة - ببساطة - كانت مغلقةً آنذاك.

 

القميص رقم عشرة

وقعت المأساةُ عندما كان سعد وعزّام يلعبان فوق المكان الذي يقومان فيه بالتنقيب عن بقايا مَتْجر التجهيزات الرياضيّة. كانت العوارضُ الكونكريتيّة الكبيرة مكدّسةً بشكلٍ متقاطع تحت الركام. دُمى العرض المحطَّمة، على الرغم من عضلاتها المفتولة، كانت أذرعُها وسيقانُها متناثرةً في كلّ مكان. وكانت حزَمُ القمصان الملوّنة تقبع تحت الرمل والحجارة.

من فتحةٍ صغيرةٍ في الجدار المُطلّ على الشقّة المجاورة، تمكّن سعد من رؤية صديقهم نوفل، يرتدي القميصَ رقم عشرة، باللونيْن الأحمر والأزرق، وينام بعمق.

سعد لا يعلم لِمَ ينام نوفل حتى هذا الوقتِ المتأخّرِ من النّهار.

 

رائحة الآنسة آية

كان السؤالُ المحيَّرُ بالنسبة إلينا جميعًا هو:

كيف يمكن أن تكون شفتا الآنسة آية، معلِّمتِنا المحجَّبة، حمراويْن إلى هذا الحدّ، على الرغم من أنّها في فترة حِدادٍ ولا تضع أحمرَ شفاه؟

كانت مثلُ تلك المناقشات تنعقد في الصفّ كلَّ يوم تقريبًا. سألني الأولاد: "أين يذهب الشهداءُ عندما يموتون؟" "وكيف يُضْفون جمالًا وكرامةً على أحبّائهم الأحياء؟"

قلت لا أعْلم. قالوا "مَن يعْلم إذًا؟ هل نسأل الآنسة آية؟" قلت لا أحد يعلم؛ ربّما الموت هو الذي يعطي الحياةَ معنًى. قالوا: "لكنّهم ليسوا موتى! فمنذ أن استُشهد خطيبُ الآنسة آية ورائحتُها تشبه رائحةَ المصحف!" قلتُ ربّما. قالوا: "ماذا تعني بقولك ربّما؟ نحن يجب أن نعرف! أسأل الآنسة آية. نحن نعرف أنّكَ تحبُّها كثيرًا." قلت إنّ ذلك لن يحدث أبدًا.

نظرت الآنسة آية من النافذة وقالت:

- لا تخافوا يا أولاد. لتكن ثقتُكم بالله كبيرة.

قلت لا ينبغي أن نكون خائفين؛ فهناك دروسٌ تركها لنا الشهداءُ وعلينا تعلّمُها.

جاءت الآنسة آية واحتضنتني. قبّلتُها بضعَ مرّات على خدّها ويديْها. ثم قُرع جرسُ الفسحة، فهلّل الأطفالُ بشدّة.

 

الأضواء البلّوريّة الزرقاء

لستُ متأكّدًا من المدّة التي مرّتْ عندما بدأ القصف. كنتُ أفكّر بسامر وسليم وأخته رانية وهم يحاولون نقلَ صفائح الماء إلى بيت السلّم، قبل أن يهبطوا إلى الطابق الأرضيّ بطريقةٍ وامضة.

كان من المفترَض أن اصطحبَ رانية إلى بيت جدّتها في حيّ التفّاح عندما يهدأ القصف. لكنْ لا أحد يعرف حالَ هذه الجدّة الآن وهي تتكوّم فوق كرسيّها المدوْلب وتتلو الصلوات. كانت عشر ثوانٍ فقط، لكنّها كانت كافيةً لهبوط الجميع إلى الطابق الأرضيّ، بما في ذلك: أصصُ الزهور، والستائرُ، وصورُ ريال مدريد، ونسخةُ المصحف الضخمة، ودبُّ أختي سارة المحشوُّ بالقطن، وطبقُ الفول، ورغيفُ العيش الأسمر.

لا أعرف ما حصل بالضبط. كلُّ ما أتذكّرُه هو جبيرةُ الجبْس الكبيرة التي حصلتُ عليها من قصف الأيّام الماضية، والرسومُ المضحكة التي وضعها الأولادُ عليها بالقلم الجافّ. يقول بعضُ الجيران إنّني نمتُ مباشرةً بعد وصول الصاروخ الذي مزّق سقفَ منزلنا. لكنّ الأضواءَ البلّوريّة الزرقاء في الأعلى ما تزال تومض وتخفت. تومض وتخفت، ببطء. كما لو كانت نبضاتِ قلبٍ صغير.

 

قبل أن يبردَ الهواء

كان وجهي قريبًا جدًّا من الزجاج، إلى درجة أنّي شعرتُ بالهواء البارد يتسلّل من خلال الفتحات الخشبيّة الصغيرة.

في الخارج رجالٌ يَحفرون قبرًا. استطعتُ تمييزَ معطف أبي الرماديّ السميك، وحطّتِه المنسدلةِ على كتفيْه. كانت أمّي تقف خلفهم، وعمّتي فضلة تحوم حولهم وتهوّم بذراعيْها وتشير إلى السماء. كانت ترتدي فستانًا أسودَ طويلًا يخط على الأرض الموحلة.

فجأةً، بدأ الجميع يركضون باتّجاهي. وقبل أن يتحوّلوا إلى أشباحٍ سود، رأيتُ أبي حاسرًا، وشعره الأشيب منفوشًا، وأمّي وعمّتي فضلة تبكيان وتضربان رأسيْهما، قبل أن يبردَ الهواءُ وتبهتَ الأصواتُ من حولي.

 

قطار غزّة - بيت لحم

كان القطار متّجهًا من غزّة إلى بيت لحم. وكانت السكّة محطّمةً، وقضبانُها ملتوية. "لا يهمّ. سأصلحُها حالما أجدُ اللونَ البنّيّ،" قالت سالي.

كان ثمّة عدد قليل من الناس يستعدّون للركوب، أحدُهم يحمل قفصًا للطيور، وآخرُ يحمل حقيبةً كبيرةً على رأسه. وكانت ثمّة امرأةٌ تجرّ طفلَها الصغير، العابثَ بطائرةٍ ورقيّة. كان اسمُه قطار غزّة-بيت لحم.

والدي حذّرني من ركوبه؛ فربما يحمل الناسَ إلى المقبرة. لكنّ منظرَ مزارع الفراولة وأشجارِ الزيتون التي بدت من نوافذه، ومنظرَ رجال المقاومة الملوِّحين لنا من بعيد وهم يحتضنون مدافعَهم ويبتسمون، أغراني بالركوب.

كان ذلك قبل أن يميدَ المبنى الذي نسكن فيه وينكفئَ قدحُ القهوة، ليمحوَ تلك النوافذَ الملوّنة. وعلى الرغم من أنّه كان مرسومًا بألوانٍ مائية، فقد بدأ الناس يتدحرجون إلى الأسفل تحت الحطام، بينما صعد بعضُهم إلى السماء.

هولندا

 

محمد حيّاوي

وُلد في العراق. عمل محرِّرًا في القسم الثقافيّ لجريدة الجمهورية، ثم سكرتيرًا للتحرير. غادر العراق سنة 1992 إلى الإردن، ومن ثمّ إلى هولندا كلاجئ سياسيّ في العام 1996. درس اللغة الهولنديّة وتخصّص فيها؛ كما درس التصميمَ الطباعيّ والغرافيك، ونال الدبلوم العالي والماجستير في البنية المعماريّة للحرف اللاتينيّ. عمل مصمِّمًا ومحرِّرًا للسينما في جريدة De Telegraaf الهولنديّة (2000 ــــ 2010). ترأّس تحرير مجلة سينما عالميّة الصادرة باللغتين الهولنديّة والعربيّة حتّى العام 2010. أسّس، بالتعاون مع جريدة طريق الشعب، جريدة الطريق الثقافيّ وأدار تحريرها حتّى العام 2014. عضو اتحاد الكتّاب الهولنديين. يعمل أستاذًا لمادّة الغرافيك والصحافة الجديدة في معهد غرافيك ليزيوم أمسترادم منذ العام 2010، ومدرِّبًا للتصميم والصحافة الجديدة (الكروس ميديا) في الأكاديميّة الألمانيّة للتطوير الإعلاميّ. له: ثغور الماء (رواية، 1983، بغداد)، فاطمة الخضراء (فازت بجائزة أفضل رواية عراقيّة، 1985)، غرفة مُضاءة لفاطمة (مجموعة قصص، 1986، بغداد)، طواف مُتَّصل (جائزة الرواية العراقيّة، 1988، بغداد)، سلسلة ألف ليلة وليلة للأطفال (1990، بغداد)، شكرًا يا أُيّها الفيل للأطفال (بالهولنديّة، 2010، أمستردام)، خان الشّابندر (رواية، 2015، دار الآداب، بيروت)، لا عذارى في حلب (رواية)،  بيت السودان (رواية).