في الذكرى 43 لاستشهاد وديع: فلسطين والمسار الثوري البديل
27-03-2021

 

في نهاية هذا الشهر (مارس/آذار)، تحلّ الذكرى الثالثة والأربعون على استشهاد القائد الفلسطينيّ العربي د. وديع حدّاد (أبي هاني)، أحدِ أبرز مؤسِّسي حركة القوميّين العرب والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، و" القائد الاستثنائيّ" كما وصفه رفيقُ دربه الحكيم د. جورج حبش. سوف يتذكّره - دونما شكّ - بعضُ أنصار اليسار الثوريّ في فلسطين المحتلّة والوطن العربيّ والعالم، وقد تُنشر بعضُ صوره النادرة وبضعُ سطورٍ على صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ، ثم نودِّعه في أسًى لا يخلو من الأمل والحنين، كما نفعل في كلّ عام، إلى أن نلقاه في العام القادم. لكنّ الحقيقة الباردة تقول: لم يتغيّرْ واقعُنا ثوريًّا، ولم نتقدّمْ سنتمترًا واحدًا. لا، بل إنّ وضعنا يزداد سوءًا!

دليلُنا على ذلك لا ينقصه الوضوح:

فذكرى استشهاد حدّاد اليوم تأتي في وقتٍ تنشغل فيه قيادةُ الجبهة الشعبيّة وقوًى يساريّة فلسطينيّة أخرى في انتخابات مجلس الحكم الذاتيّ في الضفّة والقطاع، وتُستنفر قوًى فلسطينيّة أخرى داخل "الخطّ الأخضر" للمشاركة في انتخابات برلمان العدوّ، ويهيمن النفطُ على الثقافة والإعلام والسياسة، وينغلق الأفقُ الفلسطينيّ-العربيّ أمام حركة التغيير والتجديد، ويخطو معكسرُ التطبيع الرسميّ في ثقةٍ ووقاحةٍ أكبر نحو تحالفٍ علنيٍّ مع الكيان الصهيونيّ.

لقد حاولنا في مجلة الآداب قبل أربع سنوات أن نتأمّل تجربةَ هذا القائد الثوريّ، وأن نقولَ شيئًا مُغايرًا عن المناسبة، وذلك من خلال الإطلالة على تجربةٍ ثوريّةٍ لا تزال محفورةً في الذاكرة الشعبيّة الفلسطينيّة والعربيّة، على الرغم من محاولات محوها وشطبها.[1] وكانت محاولةً أردنا من خلالها تقديمَ قراءةٍ أكثرَ عُمقًا في معنى "العنف الثوريّ" وجدواه، كسلاحٍ وضرورةٍ للشعوب المستعمَرة. وقدّمت الآداب حينها مجموعةً من الدراسات والمقالات والنصوص الجديرة بإعادة النشر والقراءة، لكونها تناولتْ حقبةً ثوريّةً مهمّةً من حياة الشعب الفلسطينيّ، وفصلًا مشرقًا في كتاب ثورته المسلّحة في عقدَي الستينيّات والسبعينيّات من القرن المنصرم.

جوهرُ ما أرادت الآداب قولَه هو الآتي:

إنّ المسارَ الثوريّ الجديد، أو مشروعَ التغيير الذي أراده الشهيد وديع، لم يصنعْه شخصٌ واحد، وإنْ كنّا "في حاجةٍ ماسّةٍ إلى خلْطةِ وديع" كما يقول الرفيق سماح إدريس في افتتاحيّة الملفّ المذكور.[2] نعم، ثمّة قائدٌ ورمزٌ كان اسمُه وديع حدّاد، من الخيانة والخسارة أن ننساه. غير أنّنا، في نهاية الامر، يجب ألّا ننسى أيضًا شروطَ الواقع الذي نبتتْ فيه تجربةٌ ومدرسةٌ شاملة، وكيف وُلد مئاتٌ أو الآفٌ من المناضلين والمناضلات الذين صنعوا حركةَ التغيير الثوريّ حين قرّروا السيرَ في هذا الطريق وحوّلوا بإرادتهم الجماعيّة الفكرةَ-الهدفَ إلى مشروعٍ سياسيّ تحرّريّ تحتضنه الجماهيرُ الشعبيّة باعتباره مشروعًا ثوريًّا وبديلًا.

وحاولنا وقتَها أن نقولَ أيضًا : إنّ ظاهرةَ وديع حدّاد كانت أعمقَ من "فشّة الخلق،" على ما حاول البعضُ تصويرَها في زمنه، وأبعدَ من "خطف الطائرات،" وأشملَ من العمليّات الفدائيّة الخاصّة (على فرادتها وبطولةِ صُنّاعها). فاختزالُ هذه التجربة في صور "الأحداث" و"الماضي" يبقيها رهينةَ الشكل على حساب جوهرِها ومضمونِها، وينتقصُ من قيمةِ ما جرى؛ فضلًا عن أنّه لن يفيدَنا في فهمه، ولن يسعفَنا في البحث عن الطريق الجديد أو طرح السؤالِ الراهن الصحيح.

الرفيق جورج عبد الله أصاب الهدفَ حين كتب عن الشهيد باسل الأعرج من سجنه الفرنسيّ في ذكرى استشهاد أبي هاني، وفي العدد ذاته من الآداب، إذ قال:

"يكفي أن نُمعنَ النظرَ في كلّ البربريّة الماثلة أمام أعين الجميع: هذه المجازر اليوميّة؛ وهذا القصف المسمّى ’جراحيّ‘؛ وهذه الحملات العسكريّة في أفريقيا والشرق الأوسط وغيرها من البلدان، والتي أصبحت اعتياديّةً لدرجةٍ بالكاد نسمع ببعض مآثرها حينما تحصدُ جموعًا تحتفي بعرسٍ أو بمأتم؛ وهذا القتل اليوميّ لأطفالٍ يواجهون الاحتلالَ بالحجر أو بالسكّين أمام عدسات التلفزة جهارًا نهارًا. يكفي أن ننظرَ إلى جموعِ الناس، إلى جموع النساء والرجال والأطفال، الذين يرمون بأنفسهم في البحر هربًا من المذابح والخوف والجوع. يكفي أن ننظرَ إلى أكوام القُمامة المرميّة في كلّ مكان (وليس حصرًا في شوارع بيروت)، وما يقابلُها من أكوامِ حيتان المال الذين يفوقون الأولى نتانةً."[3]

***

انتمى وديع إلى مدرسةٍ ثوريّةٍ عربيّةٍ ترى في الإمبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة معسكرًا واحدًا مُعاديًا ونقيضًا للشعب الفلسطينيّ والأمّةِ العربيّة وللإنسانيّة كلّها. لذلك استهدف وديع كلَّ أطراف هذا المعسكر، وبالتحديد: الكيان الصهيونيّ، ورأس الأفعى، أي الولايات المتحدة . ضرب المصالحَ الأمريكيّةَ والغربيّة، والقوى التي أسّست الكيانَ الصهيونيّ وظلّت ترعاه وتتواطأ معه حتى يومنا هذا.

إنّ كلّ عمليّة فدائيّة نُفِّذتْ في تلك الفترة واستهدفتْ تلك المصالح كانت تؤكّد فهمًا علميًّا للصراع، وتشدّد على الترابط العضويّ بين المشروع الصهيونيّ وقوى الاستعمار، وتَكْشف تورّطَ القوى المُعادية - بما في ذلك الشركاتُ والمصارفُ - في صنع معاناة الشعب الفلسطينيّ، وتشير إلى إصرارٍ فلسطينيّ-عربي على مواصلة القتال بأدواتٍ جديدةٍ وعصريّةٍ في ساحاتٍ أبعدَ من فلسطين نفسها.

الشهيد غسّان كنفاني، الذي ربطتْه علاقةٌ خاصّةٌ برفيقه وديع حدّاد، كان المُنظِّرَ الأوّلَ للعنف الثوريّ الفلسطينيّ في مواجهة الإمبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة. ارتباطُ غسّان بـ"العمليّات الخاصّة" لم يكن بدواعي الثأر، وإنّما كان ارتباطًا بالنهج العلميّ الثوريّ الذي دافع عن تماسكه المنطقيّ والأخلاقيّ حتى لحظةِ استشهاده. بل إنّ هذا الارتباط كان، في رأينا، أحدَ أهمّ أسبابِ اغتياله. 

وفي حين كان وديع ورفاقُه يقومون بدورهم العمليّ، خاض غسّان صراعًا فكريًّا لا هوادةَ فيه في مواجهة مَن وقفوا ضدّ العمليّات الفدائيّة "الخارجيّة" التي كانت تمارسها الجبهةُ الشعبيّةُ في سنواتها الأولى. وهو لم يرُدَّ على منتقدي تلك العمليّات بالردْح، بل بالحجّة والبرهان، فاعتبرها عمليّاتٍ فدائيّةً من طرازٍ خاصّ، ليست خارج قوانين الصراع، بل جزءٌ لا ينفصل عن الاستراتيجية السياسيّة والعسكريّة لتحرير فلسطين:

"إنّ ضربات الجبهة الشعبيّة هي الإعلامُ الثوريُّ الذي نجح في نزع الشمع عن الآذان الغربيّة التي لم تَسْمعْ في الماضي، ومَسَحَ القذى عن العيون الأوروبيّة التي لم تستطعْ أن ترى الحقيقةَ في السابق. وهذا هو بالذات التفسيرُ الوحيدُ الكامنُ وراء ظهور مقالاتٍ مثل مقالات أرنولد تويْنبي، المؤرِّخِ البريطانيِّ العالميّ، أو [لظهور] لجانٍ عفويّةٍ شُكّلتْ طوعًا لدعم الجبهة الشعبيّة وقضيّةِ العرب في فلسطين، كما حصل في إيطاليا وسويسرا والسويد وباكستان، أو برقيّاتِ ورسائل التأييد التي تصلنا من أمريكا الشماليّة وأمريكا اللاتينيّة وغيرهما."[4]

ويتوجّه غسان إلى منتقدي هذه العمليّات بالكلمات الآتية:

"أمّا القول بأنّ مثل هذه الضربات أدّت، أو ستؤدّي، إلى استنفارِ أو استعداءِ أمريكا أو ألمانيا أو بريطانيا أو غيرها، فإنّه قولٌ يبلغ قمّةَ المهزلة. إنّه قولٌ يُلغي، ببساطةٍ ساذجة، تاريخًا كاملًا عن معاناة شعب فلسطين والأمّة العربيّة على يد هذه الدول."[5]

***

واليوم، في ذكرى استشهاد وديع، نسأل مُجدّدًا:

هل نحن في حاجة إلى فدائيّ فلسطينيّ-عربيّ-أمميّ جديد؟ هل تُمْكن إعادةُ خلق تجربةٍ مضت، واستخدامُ القواعدِ ذاتِها؟ هل يولد الفدائيّ/ـة خارج أرض الثورة، والتمرّد على شروط الواقع؟ هل مهمّةُ العمل الفدائيّ إصلاحُ ما أفسدتْه قياداتُ الصدْفة وزواحفُ السلطة والهزيمة، أمْ تقديمُ مشروعٍ سياسيّ-ثقافيّ تحرّريّ بديل؟ هل تكفي الرغبةُ وحدها لانطلاقة عصرٍ ثوريٍّ جديد؟ كيف يمكن تكرارُ تجربةٍ كانت وليدةَ عصرها وزمانها ومكانها، وتحقّقتْ في عالمٍ آخر وفي ظلّ موازينِ قوًى مغايرةٍ لِما هو واقعُنا اليوم، وعالمٍ لا يشبه عالمَنا؟ ما هي الأدواتُ والحواملُ الفكريّة والسياسيّة والعسكريّة والثقافيّة الجديدة التي يمكنها أن تؤسِّس لمسارٍ ثوريٍّ عربيٍّ بديل، حتى يستأنفَ طريقَ وديع حدّاد ورفاقِه لتحرير فلسطين؟

إنّ الأسئلة الحارقة أعلاه هي ذاتُها التي وقف أمامها، في لحظةٍ تاريخيّةٍ فارقة، جيلٌ كاملٌ بعد الخامس من حزيران 1967، وكان من بينهم غسّان كنفاني وباسل الكبيسي وهاني الهندي ومحمد بوديا وجيفارا غزّة... ومعهم طليعةٌ ثوريّةٌ أمميّةٌ أخرى قرّرتْ عبورَ الجسر والذهابَ إلى ساحات قتالٍ جديدة لم يتصوّرْها العدوّ في أسوإ كوابيسه.

والآن، بعد استشهاد وديع حداد، وبعد استشهاد روّاد تلك المدرسة الثوريّة أيضًا، ماذا تغيّر؟

لم يتغيّرْ معسكرُ العدوّ، بل ازداد صَلفًا وهمجيّة. ولم يتراجع الكيانُ الصهيونيّ عن أهدافه واستراتيجيّته قيدَ أنملة، بل تقدّم واحتلّ المزيدَ من الأرض العربيّة، واجتاحت قوّاتُه بيروت، وقصفتْ طائراتُه تونس والسودانَ والعراق، ولا تزال طائراتُه تقصف سوريا حتّى يومنا هذا. وقامت الولاياتُ المتحدة باحتلال عواصمَ ومدنٍ عربيّةٍ عدّة وتدميرها. وقضى ملايينُ العرب تحت الأنقاض والركام بسبب قنابل أمريكا وبريطانيا و"إسرائيل" والسعوديّة والإمارات وغيرها من قوًى معادية. ولم يحاكَمْ مجرمُ حربٍ واحد!

إنّ استعادةَ نهج وديع والتأسيسَ عليه لن يأتيا باجترار اللغو و"الأحداث" في المناسبات الوطنيّة، بل ببناء قوّة الردع الفلسطينيّة والعربيّة الشعبيّة-المسلحة وحاضنتِها الأمميّة وفق معطيات العصر، وبالتراكم الكمّيّ، والتنظيمِ الواعي، وإطلاقِ حركاتٍ شعبيّةٍ ومنظّمة، وتشكيلِ طلائعَ مسلّحةٍ للمقاومة؛ طلائعَ تَمنع قوى الاستعمار والصهيونيّة والرجعيّة من التغوّل على شعوبنا ومنطقتنا، وتعْزل الكيانَ الصهيونيّ والحركةَ الصهيونيّة على كلّ المستويات وفي كلّ الساحات.

إنّ تجديد العمل الفدائيّ يستوجب تجاوزَ حصرَه في صورة "الكفاح المسلّح،" وإنْ كان السلاحُ ضرورةً قصوى وأداتَه الرئيسة. وصار لا بدّ من إعادة تعريف العمل الفدائيّ كما فهمه وديع حدّاد وغسّان كنفاني: إنّه الجهدُ الجماعيّ الذي يشمل الثقافةَ والإعلامَ والعملَ الجماهيريّ والماليّ والسياسيّ والتضامنيّ، ويرسّخ قيمةَ العمل التطوّعيّ، ويكون في خدمة النضال الشامل الذي يحرّر العقلَ والإنسانَ والأرض.

وهذا الهدف لا يمكن تحقيقُه بضربةٍ واحدة، ولا بعِدّة ضربات، بل من خلال رؤيةٍ نضاليّةٍ شاملة وحربٍ طويلةٍ ومفتوحة، تعرف كيف تُفرّق بين العدوّ والصديق، وبين الموت المجّانيّ والتضحية، وبين فشّةِ الخلق والغضب الواعي، وتشترط بناءَ المسار الثوريّ الجديد المنظّم – هذا المسار الذي يُعدّ ويستعدّ للنضال والمقاومة المسلّحة، ويخوض العصيانَ الشعبيّ، وينظر إلى مقاطعة الكيان الصهيونيّ باعتبارها جزءًا لا يتجزّأ من العمل الفدائيّ، بل هي في قلب استراتيجيّة العودة والتحرير.

 


[4]كتاب الهدف 2، مناقشات حول العمليّات الخارجيّة، 1970، ص 4.

[5]المصدر ذاته

خالد بركات

كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.

كلمات مفتاحية