هذه قصّتي
09-07-2016

 

لكلّ امرأة قصّة. ولياسمينة التي ظهرتْ أمامي من العدم قصّة.

كنتُ قد خسرتُ حبيبتي قبل أسابيع قليلة من لقائي بياسمينة لأوّل مرّة. كانت اكتمالَ الأنثى البهيَّ، وكنتُ مجرّدَ حطامٍ لرجلٍ تجاوز الثلاثين.

حدث ذلك حين كنتُ في المصعد الكهربائيّ لإحدى المؤسّسات الحكوميّة التي قصدتُها بغاية توقيع بعض الأوراق. رأيتُها تطفو هناك فوق بلاط البهو المزركش، ووجدتُني أحدِّثُ نفسي من دون انتباه: "يا لَلْجمال! يا لَلْجمال!" من تحت إبطها الأيمن ظهرتْ حقيبةٌ جلديّةٌ منتفخة، تكاد تتساقط منها الأوراق، وهي تُداري سقوطَها بيسراها، بالتناوب مع حركةٍ سريعةٍ تلملم فيها خصلاتِ شعرها المتطايرِ بفعل حركاتها، مخترقةً هواءَ هذا الفضاء الحكوميّ الرصين. وقد هُيّئ لي أنّ نسمات هذا الهواء لفحتْ وجهي، حاملةً معها رائحةَ عطرٍ أنثويّ، ولمستْ مفاتيحَ قلبي الحزين.

بإيماءة لطيفة، أشارت إليّ أن أوقف المصعد، متمتمةً بما لم أفهمه؛ في حين كان الباب ينزلق أمامي بهدوء، طاردًا الضوءَ من المكان، وطاردًا معه احتمالَ مشاركتي هذا الحيّزَ الضيّقَ مع امرأة غريبة كحلم جميل في ساعات الفجر الأولى. في تلك اللحظة انتابتني رغبةٌ غيرُ مفهومة في التصرّف على غير ما أريد، وتركِ الباب ينهي مشواره ليفصلني عن هذا الكائن الجميل الذي بدأتْ تظهر على محيّاه علاماتُ اليأس والإحباط.

غريب أمر العقل! لماذا نشعر أحيانًا أنّه مستقلّ عنّ ذواتنا، يفرض علينا أوامره فننفذّها من دون اعتراض أو فهم؟ سنتمترات قليلة كانت تفصل البابَ عن الإغلاق التامّ، وكنتُ ما أزال في حالة الجمود. ومن خلال الشقّ الذي ضاق أكثرَ وأكثرَ لمحتُ شفتيها الراجيتَيْن: "إذا بتريد..." كلمتان حرّرتا إرادتي، فمددتُ يدي بحركة آليّة وضغطتُ أحد الأزرار. توقّف الباب، ثمّ انزلق بهدوء عائدًا إلى مستقرّه، ما أعطى الكائنَ الجميلَ الوقتَ الكافي للوصول والارتماء داخله مع كلمة "شكرًا" مختلطةٍ باللهاث. رددتُ عليها همسًا: "العفو،" وعرفتُ فيما بعد أنّها لم تسمعْها. أضافت مازحةً، وهي تضغط زرّ الطابق العاشر: "ظننتك تمثالًا." ابتسمتُ هذه المرّة بوضوح، وأجبتُها: "لا أحبّ التماثيل." هزّت رأسها هزّةً خفيفةً وهي تقول: "معك حقّ." ثمّ انتهى الحوار.

كنّا وحيدين في المصعد الذي انطلق بنا وتوقّف بعد ثوانٍ في الطابق الثالث حيث يُفترض أن أنزل. لكنّني لم أفعل، وبقيتُ واقفًا مع عدّة شياطين صغيرة خرجتْ من مساماتي وبدأتْ تدغدغني بخبث. فرحتُ أصلّي كي يتعطّل المصعد ونعْلق فيه لساعات، أو أيّام. لكنّ دعواتي ذهبتْ أدراج الرياح، وانطلقَ من جديد ليضيء بعد ثوان الرقم 10 في لوحة مفاتيحه، وليخرج الكائنُ الجميل مع شياطيني المقهورة. للحظاتٍ شعرتُ بالنشوة وأنا أتنشّق رائحة العطر التي خلّفتْها، ونسيت سبب وجودي في هذا المكان. لكنّ الواقع اللعين لا يتركك؛ إذ لا تلبث أن تسمع صوت أجراس تُقرع في رأسك لتوقظك من الحلم وتعودَ إنسانًا من لحمٍ وهمّ، ثمّ تتنهّد بعمق قبل أن ترمي بنفسك إلى نهر الصخب والواجبات.

***

أنهيتُ عملي خلال نصف ساعة. وقبل خروجي من المبنى شاءت المصادفات أن ألتقيها ثانيةً كما تمنيّتُ ـــــــ ـوهذا لا يحصل معي عادةً. وجدتُها تتقدّم نحوي مع ابتسامةٍ جعلتني أحسدُ نفسي. انتظرتُها إلى أن حاذتني، وقلت: "هناك مَن يبتسم لتمثال." فأجابتني بعفويّة: "إنْ كان ناطقًا، فلِمَ لا؟!" وبعد حديثٍ قصيرٍ عن الأوراق والتواقيع والرشاوى والفساد، عرّفتُها بنفسي، وعرفتُ أنّها ياسمينة المحامية التي تدافع عن الحقّ أينما كان. وقبل أن نفترق تجرّأتُ وطلبتُ رقمَ جوّالها، وكانت سعادتي لا توصف حين قالت بعد تردّد بسيط: "لكنْ عِدْني ألّا تتّصل بي قبل أسبوع من الآن." فوافقتُ، ولم أسأل عن الأسباب.

بعد أسبوع بالتمام والكمال اتّصلتُ بياسمينة. وكانت على الطرف الآخر بصوتها الشجيّ الذي سحرني وجعلني أتلعثم. أكاد أقسم أنّني شممتُ رائحة عطرها عبر سمّاعة الجوّال. بعد عدّة كلمات مرتبكة من كلينا اتّفقنا على موعد. وها أنا تكاد تنقطع أنفاسي من الإثارة واللهفة حين رأيتُها تلوّح لي بيدها من خلف زجاج المقهى حيث اتّفقنا على اللقاء. وما هي إلّا لحظات حتّى كنتُ أصافحها، ويغمرني شذا عطرها السحريّ، ونظراتُها المليئةُ بالكلام.

بمجرّد جلوسنا، وبعد أخذ رشفة من فنجان القهوة الذي وجدته بانتظاري على الطاولة، قلت: "من منّا سيبدأ الكلام؟" لم تتردّد ياسمينة: "ابدأ أنت." قالتها، ومدّت يدها مدّعيةً أنّها تحمل مايكروفونًا. جاريتها في اللعبة، وسألتُها وأنا أشعل سيجارةً وأقدّم لها أخرى: "من أين؟" فقالت ضاحكةً: "من لحظة تكوينك في رحم أمّك،" قبل أن تضيف: "لا أدخّن." فصل بيننا جدارٌ من الصمت للحظات، ملأه دخانُ سيجارتي ونظراتي الحائرة. لكنّ ياسمينة قدّمتْ إليّ العون، وسألتني: "هل تتحرّش دائمًا بالنساء؟" صدمني سؤالُها، لكنّني اخترتُ الابتعاد عن الجديّة، وقلت: "ماذا أفعل؟! هذا طبعُ التماثيل." انفجرتْ ضاحكةً وهي تقول: "دعنا من المناكفات، واحكِ لي عن نفسك." فتنحنحتُ، وسوّيتُ جلستي، ثمّ بدأتُ الكلام:

"أنا ابنُ الريف الجميل، ابنُ الغابة والنهر والسهل الممتدّ من شاطئ البحر إلى أطراف الجبال السامقة. ولدتُ في حقلِ قمحٍ فوق سنابل الحنطة الذهبيّة، وشاركتُ عصافيرَ الدوريّ ماءَ النبع المتفجّر من أطراف حقلتنا. تنشّقتُ عبيرَ زهرة الخزامى، ورضعتُ من أثداء عنزتنا. لعبتُ في زواريب القرية، وزرعتُ أمام بيتنا أرزًّا وسكّرًا وشايًا.

"تعلّقتُ بأمّي، ونمتُ في حضنها إلى أن تجاوزتُ الخامسة عشرة. ساعدتُ ذاتَ مرّة قطّتنا "بيسة" في ولادتها، وسحبتُ من فرجها جِراءها الملطّخة بالدماء، وأطلقتُ عليها أسماءً غريبةً (كيرو وبينو وسيسون وعمقيق) ثمّ نسيتُها في اليوم التالي وصرتُ أنادي عليها كلّها "بِسْت." قتلتُ كلبًا صغيرًا بطلقة بندقيّة من دون قصد، وندمتُ أشدّ الندم فيما بعد. تعلّمتُ السباحة في النهر بعد أن جرّبتُ الغرقَ فيه. مشيتُ في الجبال من دون هدف. ثمّ انتقلتُ إلى زواريب المدينة وساحاتها. حفرتُ اسمي فوق مقاعد الدرس، ودهنتُ كفيّ بدم السحالي كي لا أتألّم حين أتلقّى ضربات العصا من معلّمتي الخرقاء. قفزتُ عن أسوار مدرستي، ولويتُ كاحلي ذاتَ مرّة، ثمّ كسرتُ يدي عندما سقطّت عن شجرةَ تين. وقبل أن أُشفى صدمتني درّاجةٌ ناريّة وكدتُ أفارق الحياة. سقطتُ عن سطح بيتنا وفججتُ رأسي، ولا تزال آثارُ القطَب ظاهرةً إلى اليوم، أشبهَ بجنازيرِ دبّابةٍ فوق الإسفلت. سرقتُ من دكّان جارنا بعضَ قطع البسكويت، بتشجيعٍ من الرفاق، ولم أتذوّقْ طعمَها خوفًا من العقاب الإلهيّ. كذلك سرقتُ مرّةً سيجارةً من درج أبي ودخّنتُها في الخزانة، وكدت أختنق بعد أن تسبّبتُ بحريقٍ صغيرٍ استطعتُ إطفاءه. قرأتُ كلّ ما وقع بين يديّ، بما في ذلك كتب الدين. كتبتُ الشعر، وأخفقتُ في التعبير عمّا أريد فتركته، وكتبتُ أشياء أعجب اليوم أنّني كتبتها.

"أحببتُ ابنة الجيران، ثمّ أحببتُ السينما. ثمّ عدتُ وأحببتُ ابنةَ الجيران الأخرى، وتعلّمنا معًا ماذا يعني الجسد، وتعلّمنا أنْ لا معنى للعيب. خدمتُ لسنواتٍ علمَ البلاد، ثمّ عدتُ إلى دياري وخدمتُ حبّي للحياة، فعشقتُ رفيقتي في العمل، وعشنا معًا أيّامًا ولا أحلى، إلى أن فرّقَنا عقلُ أهلها الطائفيّ، إذ هدّدوها بالذبح إنِ ارتبطتْ بي، وكنتُ ضعيفًا لا حول ولا قوّة، فخذلتُها وبكيتُ. عشتُ أيامًا جميلة وأخرى صعبة. ثمّ التقيتُ بـ"أروى" التي نفرتْ منّي حين عرفتْ أنّني لا أقيم وزنًا للدين، لكنّها أقسمتْ أنّها أحبّتني أكثرَ من أيّ أحد آخر، ووعدتْ بأن تحبّني حتّى آخر العمر.

"بعدها جاءتْ دينيز الرائعة، فعشقتُها حتّى الموت. وكانت المرأة الوحيدة التي طبعتُ قبلةً فوق كلّ سنتيمتر من جسدها الشهيّ. وكنتُ أضع علامة "سمايلي" بقلم حبر أسود أين وصلتُ، وخلال أربع جلساتٍ أنهيتُ الأمر. أحبّتني كما أحببتُها، لكنّها لم تملك الجنون الكافي لتقابلني بالمثل. وكدنا ندخل في مشروع خطبة وزواج، لكنّ الحرب حملتْها مع أهلها إلى البعيد، وبقيتُ وحيدًا كقمرٍ في سماء صحراء. ثمّ وجدتُ نفسي في ذلك المصعد، وأنتِ هناك فراشة جميلة اقتحمتْ حياتي من دون دعوة."

ثمّ حدّثتُها عن مشاعري حين رأيتها أوّل مرّة وبماذا فكّرتُ. وإذ بالدموع تترقرق في عينيها. فأنهيتُ حديثي بأن قلت: "وها أنا اليوم أجلس قبالتكِ، أراقب الدموعَ تطفر من عينيكِ الجميلتين. وها أنا أمدّ يدي؛ أرجوكِ اتركيني أمسحها." فلم تمانع. فمددتُ يدي بالفعل لتلامس بشرتها الحريريّة. ثمّ سحبتُ أصابعي المبلّلة وقرّبتها من شفتيّ، وتذوّقتُها وأنا مغمضُ العينين أتلذّذ لأوّل مرّةٍ في حياتي بطعم الملح الأنثويّ.

احتقنتْ عينا ياسمينة بالدموع، وظهرتْ على قسمات وجهها علاماتُ الأسى، فعضّت على شفتها السفلى، وهزّت رأسَها بهدوء وهي تنظر إليّ نظراتِ عتبٍ ولوم، ثمّ غطّت وجهها بكفيها وبدأت تشهق.

شعرتُ بالذنب وفكّرتُ في الاعتذار. لكنّي لم أعرف عن أيّ شيء سأعتذر: أأعتذر عن مشاعري، أمْ عن حديثي الذي أثار شجونها؟ هل أخطأتُ في فهمي لما يحصل بيننا؟ وإن كنتُ على خطأ، فأين أخطأتُ، وهل أتحمّل مسؤوليّة هذا الخطأ وحدي؟ لم أفهم لماذا تبكي امرأة من حديث كهذا! كان سردًا بسيطًا لحياةٍ عشتُها، وأخرى لم أعشها. كان كلامًا في مهبّ الريح قلتُه لأجذبَ انتباهَها، وكنتُ صادقًا في كلّ حرفٍ فيه.

عندما لم أجد جوابًا عن تساؤلاتي، قررتُ الصمت وإعطاءها الفرصة للتعامل مع الوضع. إلى أن رفعت رأسها أخيرًا ومسحتْ دموعها بمنديل ورقيّ أخرجتْه من حقيبتها، ثمّ وضعت السيجارة التي قدّمتُها لها منذ قليل بين شفتيها. وقالت: "أشعلْها." مددتُ يدي بالولّاعة وأخذتْ ألسنةُ اللهب تأكل مقدّمة السيجارة، فمجّت منها مجّة عميقةً، ثمّ نفثت دخانها في وجهي قائلةً بغصّة: "أنت مجرم." أحببتُ العودة إلى المزاح في محاولة للخروج من هذا الجوّ الحزين، فقلت: "والآن حان دورُكِ لتكوني مجرمةً أنتِ أيضًا." لكنّها بقيت صامتة وفي عينيها بقايا الدمع. كانت تحدّق فيّ كمَن يحدّق في شخصٍ يعرفه ولكنّه لا يتذكّر اسمَه أو درجة معرفته له. قطعتُ عليها تأمّلاتِها وقلت: "جميلة هي الحياة، انظري كيف نجلس هكذا بكلّ بساطة ونتكلّم كصديقين..." قاطعتني بصوتها المبحوح مردّدة: "كصديقين؟!"

ــــــــــ مَن يرانا لن يخطر في باله أنّنا نلتقي لأوّل مرّة.

ـــــــــ هل تصدّق؟! أنا أيضًا أشعر أنّها ليست المرّة الأولى.

ثمّ سألتني بكامل الجديّة: "هل التقينا قبل اليوم؟"

ـــــــــ هل تظنّين أنّنا التقينا؟

ـــــــــ أكاد أجزم أنّنا التقينا.

ـــــــــــ هل تحبّين ذلك؟

ـــــــــــ ما هو؟

ــــــــــ أن نكون قد التقينا.

ـــــــــــ لا أعلم. ما أعرفه أنّني الآن مضطربة بطريقةٍ لم أعهدها من قبل. عندما خرجتُ من بيتي في ذلك اليوم لم يخطرْ في بالي أنّني سألتقي بأحدٍ يؤثّر فيّ ببضع كلمات، ويجعلني أقدّم له رقمَ جوّالي بكلِّ خفّة! أنا محامية كما تعلم، وعندي مناعةٌ ضدّ الكلمات، ولطالما وقفتُ أمام القضاة والمتّهمين ومحامي الدفاع وبارزتُهم كلمةً بكلمة وحرفًا بحرف. كنتُ أعتقد أنّني محصّنة في هذا المجال. لكنْ يا لَلغرابة! ها أنا أقع تحت تأثير كلمات قليلة خرجت من فم "تمثال" في مصعد صغير.

هلّلتُ للفكرة، وتذكّرتُ أمنيتي في أن يتعطّل المصعدُ وأعلق معها هناك. "أيّ سعادة!" قلتُ لنفسي، وابتسامتي تتّسع لتلفت انتباهها وتسألني: "لماذا تبتسم؟" فذكرتُ لها ما فكّرتُ به. ابتسمتْ بدورها وقالتْ متأسّفة: "لم أفكّرْ حينها سوى في الوصول إلى مكتب الموظف الذي أقصده قبل هروبه من مكتبه؛ فتلك كانت المرّة الرابعة التي أقصده فيها ولا أراه. كنتُ في عجلة من أمري لأنّني عرفتُ، من زميلته التي التقيتُها في الطريق، أنّه في المكتب وقد يختفي في أيّ لحظة كالمعتاد. هكذا وجدتُ نفسي أركض وأسابق الدقائق. كم كرهتك في تلك اللحظة وأنت واقف داخل المصعد تحدّق بي كالأهبل. وكم شعرتُ بالامتنان حين رأيتُ باب المصعد يُفتح من جديد. لم أسمعك تجيب على كلمة "شكرًا" التي خرجت من فمي بصعوبة، وقلتُ في سرّي: "قليل أدب أيضًا." وأحببتُ أن أخزكَ في خاصرتك عقابًا لك، فوصفتك بالتمثال. ولفت انتباهي جوابُكَ الذكي، فأنا أحبّ الأذكياء..."

شعرتُ بالإطراء فقاطعتُها قائلًا: "لستُ ذكيًّا ولكنّ جمالك جعل التمثالَ ينطق." هزّت رأسَها وهرستْ سيجارتها في المنفضة قبل أن تنهيها. ثمّ شربت الرشفة الأخيرة من فنجان قهوتها، وبدا أنّها تتحضّر للانصراف. خفق قلبي بسرعة وحرتُ ماذا أفعل كي أبقيها لفترةٍ أطول. قلت: "لم أسمع قصّتك."

ــــــــ لا قصّة لديّ.

ــــــــ هذه خيانة.

تغيّرتْ ملامحُ وجهها فجأةً، ونظرت إليّ مستاءة. وبقيتْ تحدّق فيّ، وفي المكان حولنا، قبل أن تستقرّ فوق كرسيّها، ثمّ تطالبني بسيجارة. قدّمت لها السيجارة وحمدتُ الله على نجاحي باستبقائها. لكنّها فاجأتني بالبكاء من جديد، لكنه كان هذه المرة بكاءً صامتً رزينًا؛ حتّى إنّها لم تكلّف نفسها مسح الدموع عن خدّيْها، ولم أفعل ذلك بدوري لأنني حدستُ أنّ تصرفًا كهذا الآن قد يكلّفني صفعة أو صراخًا يلفت الأنظار.

كانت تبكي وتدخّن وتنظر في عينيّ مباشرة، فشعرتُ أنّها تخترق جمجمتي بحثًا عن أيّ فكرة سيّئة أو نوايا لئيمة تبيح لها طعني بسكّين تُخرجها من حقيبتها على حين غرّة. شعرتُ بالخوف. وبدأتُ أشعر بالندم: لماذا لم أتركها تذهب؟ لماذا استبقيتُها؟ أهي مجنونة؟ أيمكن أن تتصرّف بطريقة هستيريّة تجعلنا فرجةً للناس؟ كانت دموعها تتساقط فوق صدرها وتبلّل بلوزتها الحمراء المخرّمة عند قبّتها الدائريّة. عجبتُ من نفسي كيف تحوّلتُ إلى فأر مذعور أمام مخالب قطّة تتريّث لالتقاط فريستها. هكذا تبادلنا الأدوار؛ فمنذ أسبوع فقط، كنتُ الأسد الهصور وكانت الغزالة الغافلة في ذلك الصندوق الحديديّ الصغير. ما الذي حصل يا ياسمينة الجميلة؟ ما هو المفتاح الذي ضغطتُ عليه بغير قصد؟ ماذا تقول دموعك؟

مضت عدّة دقائق وأنا صامتٌ أراقب عينيها الحزينتين اللتين لم تتوقّفا عن ذرف الدمع. احترمتُ ضعفها. احترمت أنّها بكت في حضوري، ولا أعلم لماذا اعتبرتُه امتيازًا. احترمتُ ذاكرتها التي لا بدّ أنّها فرضتْ نفسها عليها في هذه اللحظات. فجأةً تنهّدتْ بعمق، فبدت تنهيدتها كصوت مسمار أمانٍ سُحب من رمّانة يدويّة قبل أن تُرمى على العدوّ. هيّأتُ نفسي لتقبّل أيّ تصرّف قد يبدر منها. وما هي إلّا لحظات حتّى قالت بصوتٍ مكسور كاد يبكيني: "هذه قصّتي؛ هل فهمت؟" ثمّ أضافت وهي تلملم أغراضها بعجالة وسط دهشتي: "يجب أن أذهب. فزوجي وطفلي ينتظراني في البيت."

اللاذقيّة

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).