نقدٌ مزدوج لمفهوم "الحريم" عند المرنيسي (ملفّ)
28-02-2016

 

"فَفِي ذرْوةِ الحجْر والحَصانة تَحدُثُ الخيانة"

حين ذهبتْ فاطمة المرنيسي إلى السوسيولوجيا، كانت تُدرك أنّ هذا هو الحقل الذي سيُسعفُها في مقاربة القضايا التي شغلتْها. فهي، في ما نشرتْه من سُرود، كانت تحرص على أن تقولَ ما عاشته أو اختمَر في ذاكرتها من جراحٍ بعيدةٍ، كان فيها للأمّ والجَدّةِ دوْرُ الفَتيل الذي أيْقظَ فيها رغبةً عاتيةً في أن تخرجَ إلى الشارع لتستمعَ إلى النساء ولتراقِبَ ما يصدرُ عنهنّ من ردودٍ تجاه ما يَعِشْنه من مشكلاتٍ فرضتْها عليهنّ الطقوسُ والعاداتُ، التي أصبحت شِبْهَ قوانين، كان فيها للرجال نصيبُ الأسَد، قياسًا بالمرأة التي كانت أسيرةً مُحتجبةً تعيش وضعَ الحريم.

 

لعلّ في ذهاب المرنيسي إلى السوسيولوجيا ما يشِي برغبتها في الانعتاق من ماضيها الذي عاينتْ فيه وضعَ المرأة في البيت والشارع (فاس العتيقة)؛ ويشي برغبتها أيضًا في الكشفِ عن القهر والاستعباد اللذيْن عاشت فيهما، وما أُحيطَ بها منْ خَرَسٍ لأنّها جُرِّدتْ من سلطة الحضور وإعلان الذات ـــ أيْ من الكتابة.

***

كانت عودةُ المرنيسي إلى الماضي، وإلى التراث الدينيّ تحديدًا، نوعًا من "تأصيل الأصول." فقد دَرستْ في جامعةٍ تقليديّة، كان فيها لعلوم الدِّين حضورٌ قويّ، قبل أن تخرجَ إلى رحابة المعرفة في المدارس الحديثة. كما أنّها عاشت في بيئة لم يَغِبْ عنها عَبَقُ الماضي؛ فمعمارُ فاس القديم ـــ بأزقّتِه، وبيوتِه المتجاورة، وبجامعِ القرويين العتيقِ فيه ـــ سَهَّلَ عليها هذه العودة، أو أرْشدَها إلى هذا التأصيل، الذي كان ضرورةً لفهم طبيعة الوضع الذي تعيش فيه المرأة.

هكذا سعت المرنيسي، بما امتلكتْه من أدواتٍ معرفيّةٍ، ومن معايشة دقيقةٍ لوضع المرأة، إلى إزالة الغطاء عن استفراد الذكور بسلطة الكتابة، وبسلطةِ البيت والشارع. وليس مصادفةً أن تَقِف عند المفارقة التي أدركَها مسلمو مكّة من المهاجرين، في ما رأوْه من حضورٍ لنساء "المدينة" في الحياة العامّة، ومن عدمِ خضوعهنّ لهيمنة المجتمع الذكوريّ؛ وهو ما دفع نساءَ مكّة إلى الاقتداء بهنّ.

هذه الواقعة التاريخيّة هي استدراجٌ للحاضر من أجل اختبار صلاحيّته في ضوءِ السياق الدينيّ نفسه، وما حفل به من معطياتٍ كثيرًا ما يتمّ تفاديها أو تبقى ـــ بتعبير فوكو ـــ خارج "تذكيرِ النسيان."

فالماضي، هو الآخر، محجوبٌ ومُصادَر، من خلال القراءات التي فَرضتْ رؤيةً واحدةً مغلقة، وتجاهلتْ دورَ العقل في القراءة والتأويل. وما استحضارُ المرنيسي لمحمد عابد الجابري، في هذا السياق، إلّا لتأكيد المنحى العقليّ للإسلام، لا لنفيِه أو حَجْبِه.

والحال أنّ حَجْب الماضي هو نفسه حَجبُ المرأة، والحجْرُ عليها، ووضعُها تحت سلطة المجتمع الذكوريّ أو الأبويّ، الذي يكون فيه الرجلُ وريثَ الرجل، والإبنُ الذَّكرُ (لا البنتُ) هو مَن سيَحلّ محلَّ أبيه.

إنّ كُلّ عودةٍ إلى هذا الماضي، من أجل مساءلته واختبارِه في ضوء العلوم والمفاهيم الحديثة، هي إزاحةٌ للطبقات المتراكمة من الغبار عليه، وعودةٌ بالدين نفسِه إلى أصلِه، ما دام الأمرُ يتعلّق بيقينٍ يحتاج إلى زعزعةٍ للكَشف عن تناقضاتِه وهشاشته. فكُلُّ شيء، في عرف المرنيسي، قابلٌ للمراجعة، خصوصًا حين يكون سائدًا أو مُسلَّمًا به، ولاسيّما إذا تعلَّق الأمرُ بالماضي أو العائلة؛ ذلك لأنّ هذا الشكّ، في جوهره، دعوةٌ إلى التفكير في أشكالٍ جديدةٍ للعلاقات القائمة.

***

استحضارُ المرنيسي لوقائعَ متصلةٍ بالرسول وببعض القريبين منه في علاقتهم بالمرأة عمومًا، وبنسائهم خصوصًا؛ ومراجعتُها لمصادرَ تاريخيّةٍ ولأحاديثَ تحملُ استهانةً بمكانة المرأة (مثل "لن يُفْلِحَ قومٌ وَلَّوْا أمورَهم امرأةً")؛ كلُّ ذلك "تذكيرٌ للنسيان،" وفضْحٌ (كما فَعَلَتْ في الحريم السياسيّ: النبيّ والنساء) لبعضِ ما سعى المجتمعُ الذكوريُّ إلى تكريسه من امتيازاتٍ ومكتسباتٍ أتاحت للرجل أن يهيمن على المرأة وأن يستعملها باعتبارها حاجةً أو رغبةً.

على أنّ ما تعتبرُه المرنيسي "حريمًا متوهَّمًا" أو "متخيَّلًا" لا يَخصُّ الشرقَ وحده، بل إنّ الغربَ بدوره ابتكر حريمَه المتوهَّم، وأضفى عليه صفاتِه، وحِجابَه هو الآخر، حجابَ الشهوة والجنس. وهذا الحجاب ليس إلّا ذلك "الرباطَ اللّامرئيَّ" بين "المتعة والاستعباد" ـــ أيْ بالنظر إلى الشرق عمومًا لا في وصفه واقعًا وإنّما عالَمًا مُتخيَّلًا مليئًا بالمفارقات وبدهشةِ الغرابة والاكتشاف.

ذهابُ المرنيسي إلى الغرب هو ذهابٌ إلى مكانٍ تمّ فيه إنتاجُ صورةٍ لـ "الحريم،" صورةٍ ستتكرَّسُ عند عددٍ من الذين وَثِقوا بقراءة الغرب، واعتبروها قراءةً عالمةً بما يجري، من دون اختبارِها في ضوء تاريخها نفسِه. وهكذا كانت المرنيسي، بقدْرِ ما تُعْمل مِشْرطَها المعرفيَّ في القراءات على ضوء التاريخ، تَكْشِفُ الغطاءَ عن عَطَبِ الغربِ نفسه؛ الغربِ الذي كان بدورِه مُضلّلًا لأنّه رأى ما رغِبَ في رؤْيته لا بما هو ثاوٍ في النصوص والمعطيات التاريخيّة. هذا الغرب لم يلتفتْ إلى "مؤسّسة الحريم" التي تعود إلى ماضي الغرب نفسِه ـــ بدءًا من الإغريق، وصولًا إلى التراث المسيحيّ في مصادره الدينية، بما في ذلك ما جاء في العهديْن القديم والجديد، خصوصًا في سِفر التكوين، حيث تبدو المرأةُ ـ(بأمْرٍ من الله) خاضعةً للرَّجل.

***

إنّ نقد المرنيسي لـ"الحريم،" وبالنظرِ إلى وضع المرأة في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، هو نقدٌ مزدوِجٌ، أو نقدٌ في اتِّجاهيْن متوازييْن: نقدٌ للذات وللآخر. فالشرق والغرب تكاتفا، كلٌّ من موقعه، لمضاعفة هذا الاستعباد والاستبعاد، وتشييءِ المرأة، بتحويلها إلى "قُنْيَة" (بتعبير علّال الفاسي)، أو إلى "حريمٍ" لا يُدْنى منه، أو يُمْنَعُ الدُّنُوُّ منه؛ حريمٍ مُتاحٍ في عرائه وفي ما يَحْفَل به من فِتَنٍ، كما في رؤية بعضِ الفلاسفة (مثل كانط) إلى المرأة في وصفها جسدًا بلا عقل، أو جمالًا من دون بديهة (خصوصًا في أعمال فنّانين غربيِّين).

إنّ الرؤية النمطيّة إلى المرأة هي رؤيةٌ في اتجاهيْن؛ أو هي رؤيةٌ واحدةٌ كرَّسَها الغربُ عن الشرق، ليعودَ هذا الأخيرُ إلى تبنّيها، لِما كان له من قابليّةٍ لتبنّي مثل هذه الأحكام والمواقف، خصوصًا أنّ الأمر يتعلّق بالمرأة، التي كانت تعيش في وضعٍ أقلُّ ما يُقال عنه إنّه وضعُ أسْرٍ وحَجْبٍ وعزلٍ وفصلٍ وحدودٍ وموانع، أو كما تقول المرنيسي في تعريفها لمفهوم الحريم باعتباره "حَدًّا": "[إنّه] مفهومٌ مكانيّ، وحدودٌ تُقسِّم الفضاءَ إلى قسميْن: فضاء داخليّ أُنثويّ مسْتَتِر ومُحرَّم على الرجال، وفضاء خارجيّ مفتوح على كُلّ الرجال..."

***

كان طوقُ الحمامة لابن حزم من أكثر الكتب التي كانت المرنيسي تستعيدُها لتأكيد النظرة المنشرحة إلى الحُبّ. فالحبّ عند ابن حزم ليس مُصادرًا أو محظورًا في الشريعة. وعودةُ الباحثة إلى مصادر أخرى كان الحبُّ موضوعَها، مثل ديوان الصبابة لابن حجلة وروضة المُحبّين ونزهة المشتاقين لابن قيّم الجوزيّة، كانت إحدى حُجَجِها التي أزاحت، من خلالها، ذلك الغبارَ الكثيفَ الذي كان يَحْجب الرؤية، ويُضلِّل القراءةَ، ويعمل على وضع التاريخ خارج سياقاته ومعطياته، سواء عندنا في الشرق بما كرَسْناه، مستخدمين "الدينَ،" من نظرةٍ ازدرائيّةٍ إلى مكانة المرأة في المجتمع؛ أو عند الغربيِّين أنفسهم ممّن نعود إليهم من دون مُساءلتِهم ومن دون نقد فكرهم في مركزيّته... تلك المركزيّة التي تحتاج منّا، اليومَ، أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، إلى تفكيك ومراجعةٍ صارميْن.

المغرب

 

 

صلاح بوسريف

شاعر مغربيّ، وُلِد في الدار البيضاء في العام 1958. حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها، في موضوع الكتابة في الشعر العربيّ المعاصر. درس، إلى جانب الأدب، التاريخَ القديمَ ببغداد. رئيس سابق لاتحاد كتّاب المغرب، فرع الدار البيضاء. عضو مُؤسِّس لـ "بيت الشعر" في المغرب. عضو في المنتدى العالميّ للشعر. من أعماله الشعرية: فاكهة الليل (1994)، على إثر سماء (1997)، ديوان الشعر المغربيّ المعاصر (بالاشتراك مع الشاعر مصطفى النيسابوري، 1998)، شجر النوم (2000)، نتوءات زرقاء (2002)، حامل المرآة (2006)، شهوات العاشق (2006).