في ذكرى استشهاد أبي علي مصطفى: دروس الشغّيل الثوريّ
15-09-2017

 

"إنّنا حزبٌ يملك التاريخَ المجيد، والاحترامَ العالي في صفوف الشعب. لكنّ هذا لا يَشفع ولا يبرِّر حالةَ التراجع أو العجز التي تواجهنا. فالحزب الذي لا يجدِّد ذاتَه، بالمزيد من العطاء والعمل، يتبدّد ويتلاشى..." (الشهيد أبو علي مصطفى، مجلّة الهدف، 31 تمّوز 2000).

ما هي المساهمة التاريخيّة الرئيسة للقائد الشهيد أبي علي مصطفى في حركة المقاومة الفلسطينيّة والعربيّة على نحوٍ عامّ، وفي الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، التي كان أمينَها العامّ قبل اغتياله على يد الصهاينة في 27/8/2001، على نحوٍ خاصّ؟

وما هي عناصرُ قوّة الدفع الذاتيّة التي جعلتْ فتًى شغّيلًا وفقيرًا في مصانع حيفا، لم يُكمل الصفَّ الثالث الابتدائيّ، من قرية عرّابة، في قضاء جنين المحتلّة، واحدًا من أبرز القادة والرموز الفلسطينيّة والعربيّة الثوريّة في عصرِنا الراهن؟

وإذا كان رفاقُه القادة، أمثال "الحكيم" د. جورج حبش والأديب غسّان كنفاني و"المهندس الثوريّ" د. وديع حدّاد وآخرين كُثُر، قد تركوا بصماتٍ مهمّةً في مختلف ميادين الفكر السياسيّ والأدب الثوريّ والصحافة والإعلام والعمل الفدائيّ، فما هي البصمة الكفاحيّة التي طبَعَها أبو علي مصطفى على حركة النضال الوطنيّ والقوميّ عمومًا، وعلى مسيرة حزبه تحديدًا، وجعلتْ منه ذلك القائدَ الاستثنائيَّ الكثيرَ الفعلِ القليلَ الكلام؟

الجواب بكلمة واحدة: التنظيم.

نعم، بناءُ التنظيم كان حِرفةَ هذا المناضل الشغّيل المثابرِ العنيد: بناءُ مداميك "حركة القوميّين العرب،" ثمّ الجبهة الشعبية. وإنّها لمهمّةٌ شاقّةٌ لمن يأخذها على محمل الجِدّ، كما فعل هذا القائدُ الكبير. فالتنظيم جانبٌ من العمل النضاليّ الذي "يتهرّب" منه بعضُ الرفاق مع أنّهم قد لا يتهّربون من الموت نفسه (!)؛ ذلك لأنّه يحتاج إلى إصرار العمّال الأشدّاء وصبرِهم، وإلى حكْمةٍ من طرازٍ خاصّ.

هذا العمل، أيْ بناءُ الأحزاب، قلّما تُسلَّط الأضواءُ عليه. ويعود ذلك إلى ارتباطه الوثيق بالقضايا الداخليّة الحارقة التي تتّصل مباشرةً بحياة الحزب، وأمنه، وعلاقاته، ومهامّه المباشرة. ومَن يمتلكْ تجربةً طويلةً في العمل المسلّح وبناء التنظيمات الثوريّة يدركْ صعوبةَ المهامّ المرتبطة بهذا الجانب من النشاط الحزبيّ والكفاحيّ.

فما هو التنظيم؟

إنّه الورشة اليوميّة التي لا تراها العينُ، بل لا يُسمح لها بأن تراها أصلًا. ومِن دون هذه الورشة، لن ترى أيّةَ نتائج حقيقيّة في الشارع والميدان، وسيَصعب قياسُ مستوى التقدّم والتراجع والوصول إلى معايير التقويم والنقد السليم.

إنّ العمل التنظيميّ الداخليّ لا يَحفُر "الأساسات" لقواعد الحزب وحسب، بل يؤسِّس لقواعدَ نظريّةٍ وفكريّةٍ وأخلاقيّةٍ كذلك. هذا العملُ المضني هو بمثابة الدورة الدمويّة في جسد الحزب، التي تَضمن سلامةَ خطّه، وسيرورةَ الديمقراطيّة في هيئاته، وتعزِّز من قدرته على مواصلة النضال ومراكمة عناصر مناعته، وتعينه على التخلّص من مظاهر الفساد والشلَليّة والتكلّس.

لقد تعامل أبو علي مصطفى مع الجبهة الشعبيّة باعتبارها "ورشتَه اليوميّة" التي لا تهدأ ولا تنام. فإذا كان الحزب تجسيدًا لإرادة أعضائه وأنصاره كافّةً، فإنّ عليهم جميعهم أن يشاركوا في بنائه، وأن يُدلوا بآرائهم في حريّةٍ مطلقة؛ فلا تتغوّلَ هيئةٌ على أخرى، ولا يصادِرَ رفيقٌ حقَّ رفيقٍ آخر.

فكيف تَضمن كلُّ هيئة ومؤسّسة حقَّها وهي تقوم بواجبها في الوقت نفسه؟ وكيف تعرّف دورَها وحدودَ عملها؟ وكيف تَستبق التعارضاتِ قبل وقوعها؟وما هي علاقة منظمة الجبهة الشعبية في الأرض المحتلة ــــ تنظيميًّا ــــ بمركز الحزب وقيادته في الخارج؟ كيف يجري تنظيم هذه العلاقة اليومية مع "فرع السجون"؟ وأسئلة كثيرة غيرها.

كلّ ذلك يحدث داخل هذه الورشة اليوميّة، التي اسمُها التنظيم. ولقد كان أبو علي على قناعةٍ راسخةٍ بأنّ أعضاء حزبه هم خلايا جسدٍ واحد: عمّالٌ مهَرةٌ يشيِّدون البيتَ معًا، تتقدّمُهم كوادرُ ثوريّةٌ هي بمثابة "طواقم العمل" في البيت، من مهندسين وتقنيّين وعمّال صيانة وكهرباء...

إذن، لا بناءَ حقيقيَّا من دون مشاركة حقيقيّة، وانسجامٍ في الرؤية، ومن دون منظومةٍ من القيم الفكريّة والأخلاقيّة تشدّ أعضاءَ الحزب واحدَهم إلى الآخر. أمّا القيادة التي تتابع العملَ، وتجترح الحلولَ، وترسم الرؤيةَ وتضبطها وفق قواعدَ عملٍ بعيدةٍ عن الشخصنة والرياء والتملّق والوصوليّة، فضرورةٌ لازمةٌ كي لا يتوه الأعضاء.

يكتب الشهيد أبو علي في رسالة داخليّة بعد تسلّمه مهامَّ الأمانة العامة في الجبهة الشعبية في أيلول 2000 ما يأتي:

"كيف نفهم التعارضاتِ في عموم الحزب، وخصوصًا في إطار الهيئات القياديّة؟ هل هي جديدة؟ هل هي ظاهرة سلبيّة أمْ ظاهرة طبيعيّة؟ هل الظروف الجديدة التي تعيشها حركةُ التحرُّر الوطنيّ الفلسطينيّ جاءت لتُعمِّق هذه التعارضات وتُفاقمها، أمْ أنّها رفعتها إلى مستوًى جديد؟ ما هي مضامين هذا المستوى؟ هذه بعض الأسئلة التي من الممكن أن تثار في ذهن أيّ رفيق ورفيقة، بل ومن الضروريّ طرحها مع غيرها من الأسئلة لكي نفهم تحرُّكَ المواقف والاجتهادات ضمن إطار سليم وصحيح على المستويين النظريّ والتنظيميّ."

إذن، لم يكن أبو علي يناضل من أجل حقّ شعبه في التحرّر والعودة إلّا بمقدار ما كان يُهلك نفسَه في بناء الأدوات الثوريّة التي تَصنع فعلَ التحرير وتعين الناسَ على انتزاع حقوقهم: من مؤسّسة المرأة، إلى منظّمة الشبيبة، والطلّاب، والعمّال، والعمل الخيريّ، وصولًا إلى العمل العسكريّ. هذه الأدوات هي قاطرة التنظيم الثوريّ.

ومبكّرًا، أدرك أبو علي أنّ الاستعداد الكفاحيّ للبذل والنضال من أجل الوحدة العربيّة وتحرير فلسطين ليس شرطًا كافيًا للمشاركة الفاعلة في التغيير والمواجهة. وعليه، فلو أراد أن يتقدّمَ الصفوفَ وميادينَ التضحية والفداء، فالأحرى به أوّلًا أن "يبني نفسَه بيديه." وهذا يعني أنّ عليه أن يقرأ في الكتب والصحف والمجلّات، وأن يتحاورَ مع رفاقه، وأن يصغيَ إلى ما يقوله الناسُ، وأن يشاركَ في مختلف مجالات العمل: من توزيع نشرات (الثأر، الرأي،…)، وجمعِ تبرّعات، وصولًا إلى الإعداد للكفاح المسلّح. وكان أبو علي مصطفى يسمع أكثرَ ممّا يتحدّث، فيزدادُ علمًا ومعرفةً بنبض الناس وحاجاتهم. وهكذا يأخذ دائمًا بالحكمة الصينيّة: "مَن لا يتجدّد، حتمًا يتبدّد."

ولمزيدٍ من البناء الذاتيّ، التحق الشهيد أبو علي بكليّة "أنشاص" العسكريّة في مصر، وأخضع نفسَه لعمليّات تطوير داخليّ شملتْ صقلَ العقل والجسد والإرادة. وكانت تلك مرحلةً وفّرتْ له المعرفةَ العمليّةَ والمباشرة بالسلاح، والاطّلاعَ النظريَّ على تجارب الشعوب واستراتيجيّاتِ حروب التحرير الشعبيّة وحروبِ العصابات والأغوار. والأهمّ من كلّ ذلك أنّه حاز نصيبَه من ثقافة أنوار مصر الكبرى في زمن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

هكذا خاض هذا الشغّيلُ الثوريُّ المحترف سلسلةَ تجارب نضاليّة، واكتسب مهاراتٍ جديدة. لكنّه ذاق، أيضًا، عسفَ السّلطة، أسوةً بمئات المناضلين والثوّار في الخمسينيّات؛ وتلك ضريبةٌ حتميّةٌ لا بدّ من أن يدفعَها المناضلون إذا ساروا على طريق الوحدة وتحرير فلسطين. ولقد عرف أبو علي هذه التجاربَ قبل تأسيس الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين عام 1967، وقبل انطلاقتها المتجدّدة الحقيقيّة ( كحزبٍ موحَّد) في شباط 1969، فتعرّض للملاحقة والسّجن والإصابة والعَوَز الماليّ وخسارة وظيفته. كما اضطُرّ إلى الصدام مع قوًى صديقةٍ، بل مع رفاق الدرب أحيانًا. وقاسى تجاربَ وتحدّياتٍ كثيرةً أخرى أسّستْ شخصيّة القائد الذي جمع بين الحزم والطيبة والذكاء والمرونة.

***

لم يكن هذا العامل الشابّ في حاجة كبيرة إلى كتب قسطنطين زريق وميشيل عفلق كي يُقْنع نفسَه بأنّه مواطن عربيّ مستعمَر. ولا كان في حاجةٍ كبيرةٍ إلى كارل ماركس ولينين كي يَعلم أنّ العامل الفقير يُضطرّ إلى بيع قوّة عمله من أجل الخبز، ولا إلى ماو تسي تونغ كي يقنعَه بأنّ على الفلاح أن يحمل السلاحَ لتحرير أرضه من الاستعمار ومن أنظمة الوصاية والتبعيّة. لكنّ إخلاصه لشعبه دفعه إلى تجاوز "المدرسة والجامعة" اللتين حُرمَ منها، كي يتّجه إلى القراءة الهادئة العميقة الهادفة. إنّ عبارة "أبو علي اشتغل على حاله وبنى نفسه" عبارةٌ شائعةٌ في الجبهة الشعبيّة، خصوصًا على لسان من عرفوه وعاصروه.

هذا الشابّ الفلّاح القادم من جنين اكتشف أنّ ما يحتاج إليه، هو وكلُّ الشباب العربيّ آنذاك، قد جاء على جناح طليعةٍ ثوريّةٍ من الشباب: مجموعةٍ طلّابيّةٍ يَقظة، درستْ في بيروت، وأعلنتْ عن انطلاقة مشروع عربيّ يبشِّر بالتغيير والوحدة العربيّة. إنّها "حركةُ القوميين العرب،" التي احتضنتْ مختلفَ الفئات، لكنّ عينها تركّزتْ على جموع اللاجئين الذين شُرّدوا من وطنهم، فكانت الردَّ الطبيعيَّ على نكبة العام 1948. هذه الحركة عثر عليها أبو علي مصطفى في عمّان، أوائلَ الخمسينيّات من القرن الماضي، وانتمى إلى صفوفها من دون تردُّد، وصار أحدَ كوادرها، فكلّفه ذلك 5 سنوات من العذاب في زنازين النظام الأردنيّ من دون أيّ سببٍ أو جريمةٍ ارتكبها.

تصدّى أبو علي للمهمّات الفدائيّة الكبيرة: من نقل العتاد والسلاح إلى الأرض المحتلّة، فبناءِ الخلايا، وتوفيرِ المال للمقاتلين، والإشرافِ المباشر على معسكرات التدريب، وبناءِ شبكة علاقات واتصالات سرّيّة، وغيرِها من المهامّ اليوميّة الثقيلة والخطيرة، التي جعلته المسؤولَ العسكريَّ لقوّات الجبهة الشعبيّة في الأردن. وكانت هذه المهامّ تمنحه كلَّ يوم المزيدَ من الخبرة في الميدان؛ فكان كلمّا أغلقوا بابًا أمام رفاقه فتح أمامهم ــــ بالإرادة والصلابة والفطنة ــــ طرقًا وساحاتٍ جديدةً في وطنهم العربيّ الكبير وفي المنافي والمهاجر البعيدة.

هذا الجهد السرّيّ والمضني، الذي أسّس له أبو علي ورفاقُه، هو الذي نقل حركةَ الشعب الفلسطينيّ ونُخَبه الثقافيّةَ والسياسيّةَ من مرحلة التبشير بالثورة إلى مرحلة التطبيق الفعليّ لها، بالنار والكلمة والتنظيم الشعبيّ، وذلك من خلال بناء قواعد الارتكاز حول فلسطين المحتلّة، وخصوصًا بعد هزيمة العام 1967. فانصبّ تركيزُه على السير في طريق حرب التحرير الشعبيّة الطويلة الأمد، من خلال أداتها الثوريّة الممثّلة في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين على ما آمن.

***

لم يكن أبو علي يبحث عن الشهرة. صحيفة الرأي العامّ الكويتيّة أجرتْ مقابلاتٍ مع قادة فلسطينييّن بمناسبة ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينيّة السادسة عشرة، وكان من بينهم أبو علي مصطفى، فقدّمتْه على هذا النحو: "... الرجل الذي لا يحبّ الأضواء، ومعروفٌ عنه في الأوساط الفلسطينيّة العمل الصامت والدؤوب، البعيد عن الصخب والضوضاء." (نقلتها مجلة الهدف، 17/1/1981، ص16) غير أنّ خيارَه الابتعادَ عن الأضواء والضوضاء من أجل بناء التنظيم لم يمنعه من القراءة والبحث من أجل تطوير مداركه وثقافته ولغته العربيّة. وقد أتاحت له فرصةُ وجوده في العراق، حين كان مسؤولًا عن "القيادة الخلفية في بغداد،" أن يقرأ أكثر، وأن يتحاورَ مع قوًى وشخصيّاتٍ عربيّة وازنة في السياسة والثقافة.

في تلك الفترة بالذات كتب دراسة سياسيّة ــــ اقتصاديّة مهمّة في العام 1975 حول "الأسُس الاقتصاديّة لمشروع التسوية القادم،" وقدّمها كندوةٍ سياسيّةٍ في بغداد. في هذه الندوة توقّع أبو علي حتميّةَ انهيار النظام الساداتيّ على حلقات، وأنّ مصرَ السادات لا يمكن أن تكون مصرَ عبد الناصر، بل هي في الطريق حتمًا إلى "صفقة سلام" ستكون لها تداعياتٌ كبيرةٌ وخطيرةٌ على كلّ المنطقة؛ ذلك لأنّ ما يحدّد وجهةَ الأنظمة وعلاقتها بالولايات المتّحدة والكيان الصهيونيّ إنّما هو، في رأيه، طبيعةُ النظام السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ.

أمّا في ما يخصّ النظامَ الأردنيّ فقد اعتبره قوّةً رجعيّةً باطشةً وتابعةً للقوى الاستعماريّة. ورأى أنّ لهذا النظام مهامَّ وظيفيّةً محدّدة: حماية الاحتلال الإسرائيليّ من أجل الحفاظ على سلطة الطبقة الحاكمة، سلطةِ هوامير المال، وسوف يظلّ هذا النظام يعمل من أجل عقد صفقة "سلام" مع الكيان الصهيونيّ وعلى نهج السادات. يقول أبو علي لرفاقه في دفعة تخريج "دورة غسّان كنفاني للضبّاط" في الكليّة العسكريّة للجبهة الشعبيّة في بيروت، ردًّا على مَن يدّعون أنّ النظام الأردنيّ تغيّر وأنّه تجب إعادةُ ترتيب العلاقة بينه وبين منظّمة التحرير الفلسطينيّة كما كانت ترغب قيادةُ المنظّمة وياسر عرفات تحديدًا:

"على ماذا نتّفق مع النظام الأردنيّ؟ هل النظام الأردنيّ شريكٌ في تقرير مصير شعبنا؟ هل سَمح لنا بقاعدة عسكريّة واحدة؟ هل سَمح لنا بعمل ندوة؟ نشاط سياسيّ؟ هل يسمح لنا بالتعبير عن حقوقنا كشعب مقاتل ومضطهَد؟ إنّ النظام الأردنيّ يُعدّ نفسَه لأن يكون الشريكَ الفعليَّ في الحلقة الثانية من مسلسل كامب ديفيد" (مجلة الهدف، 5 نيسان 1980).

بالطبع، لم يتوقّع الرفيق أبو علي في أسوإ كوابيسه أن تُقْدم قيادةُ منظمة التحرير على توقيع اتفاقيات خيانيّة مع الكيان الصهيونيّ و"تَسبقَ" النظامَ الأردنيّ، ولو بالمعنى الشكليّ والعلنيّ. لكنّ هذه الخطوة لم تَكسر روحَ الإرادة في هذا الشغّيل الثوريّ العنيد، ولم تمنعْه من التنبّه إلى آثارها المحتملة في التنظيم. لذا يكتب لنا، نحن رفاقه في الجبهة، في رسالةٍ داخليّة:

"أيّها الرفاق، إنّنا، كشعب وقضيّة وحزب، نواجه ونعيش في خضمّ مرحلة صعبة ومعقّدة، تُملي علينا تحدّياتٍ قاسية. وهذه المرحلة لها إشكاليّاتها وعناصرُها السياسيّة، والفكريّة، والاجتماعيّة، والثقافية، والكفاحيّة، وهي متحرّكة ومتغيّرة بدرجة كبيرة؛ الأمر الذي يعني أنّنا في كلّ يوم سنواجه العديدَ من الأسئلة ذات الطابع التكتيكيّ المتحرّك، ممّا سيثير باستمرار آراءً واجتهاداتٍ متنوّعة. وما لم ندركْ ونتفهّمْ هذا التنوّعَ في الآراء، على قاعدة حفظ الوحدة والتلاحم، فإنّ الهيئات القياديّة ستعاني الاهتزازَ والتوتّرات التي ستضربها وتؤثِّر على عملها."

***

لم يتركْ لنا الشهيد أبو علي مصطفى كتابًا كي نقرأه. بيْد أنّ تجربته النضاليّة هي الكتابُ الحيّ الذي لا يمكن أحدًا أن يصادرَه، بل يجب أن نقرأه مرّةً بعد مرّة. في تجربته تجدون جلّ أفكاره وملاحظاته وقناعاته، التي أكّدها بالدم، ولم يتراجعْ عنها لحظةً واحدة. والحقّ أنّ قراءة تجربة هذا القائد تشكّل مدخلًا صحيحًا لقراءة تجربة تنظيم الجبهة الشعبيّة بأسْره، وواقعِه بين الأمس و اليوم، وتساعدنا على فهم معنى القيادة الثوريّة.

بروكسل

خالد بركات

كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.