صنميّة الثورة: الاستعمار والرأسماليّة في الخطاب الشيوعيّ
14-12-2017

 

لم يتمكّن االشيوعيون، في نضالهم ضدّ الرأسماليّة، من إنتاج تصوّرٍ بديلٍ لها؛ ذلك لأنّ أجندتَهم السياسيّة لم تكن أحيانًا أكثرَ من منافسة ضمن السباق الرأسماليّ نفسه، ووفقًا لقواعده.

فلقد ركّزت الإيديولوجيا الشيوعيّةُ على المادّيّ بشكله الصنميّ (الحاجة العمليّة، المال،...). وبذلك غدت مجرّدَ قلبٍ للرأسماليّة، غيرَ صالحةٍ لأن تكون رؤيةً لنضالٍ يستحيل فيه تحديدُ مصالحَ وأهدافٍ نفعيّة.

فثوراتُ الشيوعيين كانت تُهزم بأعطيات الأسياد الرأسماليين. والأسسُ التي وضعها الشيوعيون لنضالٍ عالميّ أَسّستْ، في الحقيقة، لعدم التضامن، بل للتفكّك والخيانة والخذلان، بين كادحي الشعوب المختلفة.

يقول بنيدكت أندرسون إنّ الناس لا تريد أن تموتَ من أجل "سلعة."[1] ويبيّن غسّان كنفاني[2] أنّ تركيزَ السوفييت على مبدإ "التجربة والخطأ" فشل في أن يقدِّم إلى الناس القوةَ الدافعةَ اللازمةَ للحفاظ على الثورة: فهذه الأخيرة تحتاج إلى أكثر من مجرّد حوافز مادّيّة تقوم على الحاجات العمليّة، والقوّةُ الدافعة للثورة لا يمكن أن تتحقّق من خلال إعلام الدولة أو دُور النشر أو الاتحادات الأدبيّة. كنفاني لا يفسِّر ما الذي يقصده بالقوّة الدافعة، ولكنّه يقارن القوّةَ الدافعةَ التي امتلكها الإسلامُ عند العرب، أو امتلكتْها الكنيسةُ في روسيا، من جهة، بالدوافع المادّيّة المباشرة التي اعتبرها الشيوعيون أساسيّةً للثورة، من جهةٍ أخرى.

في بلدٍ مثل فلسطين، حالَ التركيزُ على المادّيّ، بمعناه المحدود والمباشر، دون قدرة الشيوعيين على التعامل مع الواقع الاستعماريّ. ففي ظلّ المشروع "الحداثيّ" الذي تبنّته الشيوعيّة، سيكون المستعمِرون هم وحدهم القادرين على تشكيل الحركة الثوريّة التي تقودها الطبقةُ العاملة، لكونهم (أي المستعمِرين) آتين من مجتمعٍ رأسماليّ، وقادرين من ثمّ على أن يكونوا:

"بمثابة البروليتاريا الحديثةِ الوحيدة، البعيدةِ عن أيّ رغبةٍ في التملّك، والمفعمةِ ــــ بالتالي ــــ بروح الوعي الطبقيّ وبإرادة النضال الثوريّ. [أمّا] الجماهير العربيّة التي تعمل فوق أراضي كبار الملّاكين اليهود والأفنديّة العرب، وتملك قسمًا كبيرًا من هذه الأراضي، فلا يمكن اعتبارُها إلّا بمثابة نصف بروليتاريا."[3]

صحيح أنّ هذا الاقتباس يأتي من الفرع الصهيونيّ للحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ (الذي تهيمن عليه الرؤيةُ الصهيونيّةُ فعليًّا!)، إلّا أنّ مبادئَ الخطاب الإيديولوجيّ الشيوعيّ تبقى هي نفسَها حتى في الدعوة إلى "تعريب" الحزب الشيوعيّ. الفرق الوحيد هو أنّ "التعريب" عنى إعطاءَ الشيوعيين الصهاينة في فلسطين دورَهم "الحضاريّ" في تحويل نصف البروليتاريا إلى برولتاريا. فبينما اشترط "الشيوعيون الصهاينة" في الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ أن يكون "الرفاقُ العرب" قد حقّقوا "البلشفة" قبل تسليمهم قيادةَ الحزب، فإنّ موقفَ الأمميّة العالميّة لم يكن مختلفًا بشكلٍ جذريّ؛ فعندما تنبّهتْ إلى أنّ العرب يشكّلون أغلبيّةَ السكّان في فلسطين، وأنّ عليهم من ثمّ أن يقودوا الحزبَ الشيوعيّ الفلسطينيّ، بدأتْ بحملة بلشفةٍ خاصّةٍ بالشيوعيين الفلسطينيين، وذلك من خلال البعثات التعليميّة التي كانت ترسلها إليها. وبشكلٍ عامّ، بقي التركيزُ في التقارير التي يرسلها الشيوعيون الصهاينة والشيوعيون العرب إلى الأمميّة العالميّة على وجود طبقة عاملة في فلسطين، وبالتالي على وجود قضاياها التي يفرضها وجودُ الرأسماليّة ذاتِها.

رأى الشيوعيون أنّ الضرائبَ والأجور هي وحدها التي يمكن أن تشكّلَ عواملَ ثوريّة. ولذا ليس من المصادفة أنّهم كانوا دائمًا سبّاقين إلى إعلان الحاجة إلى حدوث تطوّر رأسماليّ في المجتمعات المستعمَرة؛ فمِن دون الرأسماليّة لا يمكنهم الحصولُ على الصورة التي رسموها للطبقة العاملة. لكنّ ما أغفلوه هو أنّ الرأسماليّة لا تنتج ثوريين، بل ذواتًا مدجّنةً لا يمكنها القيامُ بأيّ فعل من دون وسيط.

تقسيمُ الاستعمار للطبقات العاملة إلى مستعمِرة ومستعمَرة، بحيث يتمّ استغلالُ بؤس الأخيرة من أجل "لجم الطبقة العاملة في البلد الأمّ،"[4] لا يعني أنّ هذا التقسيم ليس حقيقيًّا. واعتبارُ ماركس أنّ العداءَ القوميّ والدينيّ الذي يشعر به العاملُ الإنجليزيّ تجاه الإيرلنديّ يمثّل الحاجةَ العمليّةَ، وقد تسامت على شكلٍ دينيّ وقوميّ، لا يعني أنّه يمكن أن نفصلَ ذلك العداءَ عن هذه الحاجة، بل يعني أنّه ــــ بالنسبة إلى الذات/الموضوع في الرأسماليّة ــــ لا يعود ممكنًا التفكيرُ في القوميّة إلّا من حيث ارتباطها بقيمتها كسلعة. فتنظيمُ قوّة العمل في المجتمعات الصناعيّة يجرِّد العاملَ من قوميّته: "قوميّة العامل ليست فرنسيّة أو إنجليزيّة أو ألمانيّة، بل رأسماليّة. هواؤه الوطنيّ لا يكون فرنسيًّا أو ألمانيًّا أو إنجليزيًّا، بل هواء المصنع. أرضُه ليست فرنسيّة أو إنجليزيّة أو ألمانيّة، بل تقع بضع درجاتٍ تحت الأرض."[5] أمّا لدى الإيرلنديّ المستعمَر، غيرِ الرأسماليّ، فتكون لديه "الروحُ" اللازمةُ للثورة التي ستحرِّره، وتحرِّر العاملَ الذي فقد قدرتَه على الفعل الثوريّ عندما أصبح عاملًا رأسماليًّا. العلاقة بالأرض، التي هي علاقةُ حياة كما يصفها ماركس، هي التي تعطي المستعمَرَ هذه الروحَ الثوريّة، التي سعت الشيوعيّةُ إلى تغييبها من أجل أن تعطي الطبقةَ العاملة الرأسماليّة الدورَ المركزيّ.[6]

الشيوعيون الرسميّون في فلسطين واصلوا التغاضي عن أنّ الصراع في فلسطين صراعٌ على الأرض، على الوجود والحياة، وبقي بالنسبة إليهم صراعًا بين "العرب" و"اليهود،" يؤجِّجه "البرجوازيون والإقطاعيون بالتحالف مع الإمبرياليّة العالميّة،" مغلقين من خلال ذينك التجريد والتعميم إمكانيّاتِ الفعل الثوريّ. فـ"عصبة التحرر" بقيتْ محصورةً­ في الخطاب الشيوعيّ "المثاليّ" عن العلاقة (المنشودة) مع "اليهود،" وتجنّبت التعاملَ مع تفاصيل واقع الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين: فردّت المأساةَ إلى العدوّ المجرّد، "البرجوازيّة والإمبرياليّة،" وأصرّت على أهمّيّة التعايش مع اليهود من دون التنازل عن الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة. أما رؤيتُها إلى انتفاع اليهود من المشروع الصهيونيّ، أيْ انتفاعِهم من سلب هذه الحقوق الفلسطينيّة، فيأتي ضمن استراتيجيّة إنكاريّة ووهميّة تشدِّد على "تعارض مصالح اليهود مع الصهيونيّة،"[7] وتتأمّل خيرًا من عدالةٍ مفترضة عند "الرأي العامّ العالميّ."[8]

التوهان في عالم الخيالات والتفاؤل الطوباويّ، كما يصفه محمد دكروب، هو الذي وَسم خطابَ الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ عن حتميّة انهيار الصهيونيّة، فأتاح إغفالَ حقائق الاستيطان، وتحديدًا: ترحيل الفلسطينيين والسيطرة الصهيونيّة على الأرض.[9] ذلك لأنّ التركيز على هذه الحقائق كان يعني، بالنسبة إلى أولئك الشيوعيين، حرفًا "[لـ]أنظار الجماهير عن النضال ضدّ الإمبرياليّة"![10] أمّا التناقض بين اليهوديّ المستوطِن والعربيّ صاحبِ الأرض، فيتمّ "حلُّه" نظريًّا (أو وهميًّا) من خلال استراتيجيتيْن هما:

ــــ تحويلُه إلى مسمَّيات مجرَّدة وذات عموميّة عالميّة، كما ذكرنا، بحيث يصبح الصراعُ صراعًا قوميًّا ين "يهود وعرب."

ــــ عزلُ النضال ضدّ الاستعمار عن النضال ضدّ الرأسماليّة لكونهما مرحلتين متتابعتيْن، لا متلازمتيْن، ولكون النضال القوميّ "مرحلةً من المراحل اللازمة للتحوّل نحو الاشتراكيّة." وعليه، فسيكون من "مصلحة اليهود" أن يشاركوا في تحقيقه.

وبذلك، وبحسب هذا المنطق، يكون النضالُ الإيديولوجيّ الحقيقي (وهنا عودة إلى الاستراتيجيّة الأولى) هو النضال ضدّ الإمبرياليّة. أما الصهيونيّة فتبقى ظلًّا لهذه الإمبرياليّة؛ كما يبقى اليهوديّ مجرّدَ أداةٍ من أدواتها. وبذلك أيضًا، لا يعود للشيوعيّ الفلسطينيّ ما يناضل ضدّه إلّا طواحينُ الهواء!

غير أنّ المشكلة، على ما ألمعنا آنفًا، لم تنحصرْ في رؤية الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ (وهي غيرُ بعيدة عن الرؤية الصهيونيّة)، بل تتعدّى ذلك إلى الرؤية الشيوعيّة نفسها، التي لم تتمكّن من أن تكون رؤيةً إلى الوجود بديلةً للرؤية الرأسماليّة، فاتّبعت الأسسَ نفسَها في التعامل مع الآخرين المستعمَرين، وخصوصًا لجهة سعيها إلى إدارج الآخر، المستعمَر والعامل، في الذات الرأسماليّة. فنضالُ المستعمَرين في الرؤية الشيوعيّة كان يُعتبر مرحلةً انتقاليّة، يتحوّلون فيها من نضالهم "الضيِّق الأفق" ضدّ الاستعمار إلى النضال تحت قيادة البروليتاريا العالميّة ضدّ الرأسماليّة.

لقد تصرّفَ الشيوعيون وكأنّه يمكن القضاءُ على الاستعمار من دون القضاء على الرأسماليّة، ومن ثمّ كان يجب على التحرّر الوطنيّ (وقد صيغ على أنّه "نضالٌ من أجل الدولة القوميّة") أن يسبقَ النضالَ العالميّ ضدّ الرأسماليّة وأن يمهِّدَ له. ومن ثمّ فقد كانت الماركسيّة تعمل على "تجيير" نضالات المستعمَرين في الإطار الذي يتلاءم مع رؤيتها للمسيرة التاريخيّة البشريّة، بحيث يأخذ الشعبُ المستعمَر المكانَ المخصَّصَ له في المسيرة الموحَّدة التي حدّدتها وتحدّدها الرأسماليّةُّ العالميّة. أمّا أن يكون لدى المستعمَر تصوّرٌ آخر لتاريخه ومستقبله، فلا يبدو أنّه كان قضيّةً للنقاش عند الشيوعيين (باستثناء الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ بعد مؤتمره الرابع الذي ترافق مع تغيّر جذريّ في ولاءاته).[11] على العكس؛ تبدو الشيوعيّة وكأنّها تَستخدم مفهومَها عن "الثورة" كما يَستخدم الليبراليون مفهومَهم عن القانون: أداةً لتدجين ثورات المستعمَرين، بحيث تكون "الثورةُ" هي المعيارَ الذي "يَفْصل أشكالَها الجيّدة عن السيّئة، ويحدِّد قوانينَها وتطوّرَها، ويضع شروطَها المسبَّقة وأهدافَها وطرقَ إنجازها."[12]

الشيوعيّ الغربيّ يقوم بعمليّة "تصنيع معرفيّ" لتجارب الشعوب المستعمَرة ونضالاتِها، ويُخْرجها مغلَّفةً بطبعة "الكادح" الذي يكون موضوعَ النضال العالميّ. لكنّ عمليّات التصنيع والتغليف والتسويق والترويج، كما يدرك قارئُ ماركس الجيّدُ، تجرِّد المستعمَر من نضاله وخبراته، وتستبدلها بالقيمة التي يُحمِّلها الشيوعيُّ إيّاها، بما يسمح بتداولها في سوق الأمميّة العالميّة. هكذا، بحسب هذا المنطق الشيوعيّ، يصبح نضالُ المستعمَر "ضرورةً تاريخيّة،" ويتمّ إدراجُه في "المسار العالميّ للتاريخ" بغضّ النظر عن إرادة هذا المستعمَر. وهكذا يُصادَر حقُّه في تقرير مصيره (تحت شعار "حقّ تقرير المصير" لا غير!)، وتصادَر مسؤوليّتُه عن نفسه وقدرتُه على الفعل. وهكذا تصحّ مقولةُ فانون: "لستُ أنا مَن أصنع المعنى لنفسي، بل المعنى موجودٌ من قبل، بشكل مسبَّق، وهو ينتظرني. الشعلة التي سأحرق بها العالمَ لا تأتي من بؤس سوادي السيّئ، من أسنان الأسْود السيّئ، من جوع الأسْود السيّئ، بل الشعلة موجودة من قبل، وهي تنتظر استدارةَ التاريخ [فحسب]."[13]

فانون هنا لا يعطي لونَ البشرة أولويّةً على حساب الأخوّة العالميّة، بل الأولويّة هي لكينونة الأسوَد وتعدّديّتها وتكاملها ـــ ـــ وكلُّها يتمّ اختزالُها ومماثلتُها، أي استعمارُها، في خطاب اليسار الفرنسيّ "المتضامن" مع السود. بالنسبة إلى فانون، لا يمكن أن يكون هناك "مجتمعٌ صالح" يَجْمع بين المستعمَر والطبقةِ العاملةِ المستعمِرة. في الوضع الاستعماريّ لا يكون التمييزُ الطبقيّ صالحًا؛ "فالوضع الاستعماريّ هو أوّلًا غزوٌ عسكري، تعزِّزه الإدارةُ المدنيّة والشرطيّة." "كلّ فرنسيّ في الجزائر يَضطهد ويَحتقر ويسيطر،" بحسب فانون.[14] وإذا كان المستعمَر ينَظر إلى المستعمِرين من دون تمييز، فذلك "ليس نتيجةً لبساطة عقله، أو  كرهِه للأجانب، بل لأنّ لكلّ فرنسيّ في الجزائر علاقاتٍ بالجزائريّ تقوم على القوة."[15]

                                                             (فرانز فانون)

المستعمِر لا يمكنه أن يتخلّى عن كونه مستعمِرًا. والمستعمِر "اليساريّ،" من ثمّ، يمثِّل "التضامنَ" مع المستعمَر في شكل "نصيحةٍ سياسيّة" أو "نقدٍ رفاقيّ" يُخْفيان رغبةً في توجيه حركة التحرّر وقيادتِها، أيْ مصادرتِها والسيطرةِ عليها. هذه الاستعماريّة "اليساريّة" تكشف عن نفسها عندما يقوم المستعمَرون بفعلٍ يتعارض مع "الممارسة الثوريّة الصحيحة" كما يعرِّفها المستعمِرُ اليساريّ، وخصوصًا لجهة انتهاج المستعمَرين العنفَ ضدّ الاستعمار. وفي هذا الصدد فإنّ إدانة الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ للهبّات والانتفاضات الفلسطينيّة (من ثورة البُراق إلى ثورة 1936)، باعتبارها تجسّداتٍ لسيطرة البرجوازيّة الوطنيّة الانتهازيّة،[16] تشير إلى عجز غالبيّة الشيوعيين عن التحرر من الهيمنة الفكريّة للاستعمار اليساري العالميّ والصهيونيّ. وأنا لا أعتقد أنّ الإدانة أعلاه قد قُصدتْ بها "البرجوازيّةُ" كما زُعم، بل الثورةُ نفسُها، التي رفضتْ أن تنصاع إلى ذلك التصوّر الشيوعيّ لـ "الثورة."

***

لقد رفض  الشيوعيون في الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ التعاملَ مع خصوصيّة الحالة الفلسطينيّة وتعقيدها. وبدلًا من التحليل التاريخيّ الماديّ، قاموا بخلق آلهةٍ وشياطينَ جدد: "أمميّة عالميّة" أو مجالس الأمم المتحدة، مقابل "برجوازيّة انتهازيّة متآمرة مع الإمبرياليّة العالميّة..." ووراء الكيانات المجرّدة أخفوْا عجزَهم عن الفعل الثوريّ العنيف ونفورَهم منه.

في فلسطين، أثبت الحزبُ الشيوعيّ الفلسطينيّ عدمَ قدرته على أن يكون ثوريًّا لأنه لم يتمكّن من أن يكون صاحبَ قضيّة. ولذلك لم يصعبْ عليه أن يسلّمَها إلى كيانات عليا يحتاج إلى اعترافها به كي يدرك ذاتَه كذاتٍ ثورية. إنّ الطرح "الشيوعيّ" القائل إنّ استقلالَ فلسطين ينجزه مجلسُ الأمن الدوليّ ليس فقط دليلًا على العداء الذي كان الحزبُ الشيوعيّ الفلسطينيّ يحمله للفعل الثوريّ، بل أيضًا على الانتهازيّة والخيانات المتكرّرة التي وسمتْ هذا الحزبَ. لقد قامت الإمبرياليّة الإنكليزيّة بالجلاء عن فلسطين، وبقي الاحتلالُ الصهيونيّ، لكن الآن كدولة قوميّة مستقلّة، تتمتّع بالاعتراف الدوليّ بشرعيتها. الشيوعيُّ في فلسطين لم يكن قادرًا على الالتزام بالماركسيّة التي يدّعيها، ولم يناضلْ ضدّ التجسّدات الملموسة لنظام إمبرياليّ عالميّ يحتاج إلى دول قوميّة مستقلّة سياسيًّا. على العكس: سمة النظام الإمبرياليّ العالميّ، هذه، مكّنت هذا الشيوعيّ من تبرير الاعتراف بـ"اسرائيل" وشرعيّتها. وبالتالي، فإنّ "ثوريّة" هذا الشيوعيّ عاجزة عن أن تتجاوز الالتزامَ بقرارات الكيان الأعلى، مجلسِ الأمن، الذي أخضع له إرادتَه وقدرتَه، وبات يقرّر بناءً على أحكامه ما هو شرعيّ وما هو غير شرعيّ؛ أمّا أيُّ نظام قيميّ مغاير فليس، بالنسبة إلى ذلك الشيوعيّ، أكثرَ من تعبير عن الرجعيّة الإقطاعيّة!

فلسطين

 

[1] Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of

Nationalism (London and New York: Verso, 2006), p 144.

[2] غسّان كنفاني، معارج الإبداع: ما لم يُنشر من الكتابات الأولى للشهيد الأديب غسّان كنفاني ما بين 1951-1960، تحرير عدنان كنفاني (دمشق: مؤسّسة فلسطين للثقافة، 2009).

[3] ماهر الشريف، "قضيّة فلسطين ومناقشات المؤتمر الثاني للأمميّة الشيوعيّة،" شؤون فلسطينيّة، ع 70، 1977، ص 138.

[4] Karl Marx, “Confidential Communication on Bakunin,” The International Workingmen’s Association, 1870. Web. 19 Apr. 2012.

<https://www.marxists.org/archive/marx/works/1870/03/28.htm>

[5] Karl Marx, “Draft of an Article on Friedrich List’s book: Das Nationale System der Politischen

Oekonomie.” n.p. Web. 19 Apr. 2012.

<http://www.marxists.org/archive/marx/works/1845/03/list.htm>

[6]Outline of a Report on the Irish Question to the Communist Educational Association of

German Workers in London.” n.p. Web. 14 Sep. 2014.

<https://www.marxists.org/archive/marx/works/1867/12/16.htm>

[7] ماهر الشريف، "الحزب الشيوعي الفلسطيني والمسألة القومية العربية في فلسطين 1930-1933،"شؤون فلسطينية ع 113، 1981، ص 21-46.

[8] ماهر الشريف، "عصبة التحرر الوطني والمسألة القومية العربية في فلسطين 1943-1948،" شؤون فلسطينية، ع 108 ،1980، ص 82، 83.

[9] محمّد دكروب، "قراءة راهنة في المسيرة المتعرّجة للحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ: رحلة في دهاليز الأرشيف السرّيّ للكومنترن، مجلة الدراسات الفلسطينيّة، ع 67، 2006، ص 154.

[10] المصدر السابق، ص 157.

[11] نذير جزماتي، تاريخ الأحزاب الشيوعيّة العربيّة: رؤية معاصرة (دمشق: دار نينوى، 2015).

[12] Michel Foucault, Power, Trans. Robert Hurley and Others, James D. Faubion, ed. (New York: The New Press, 2000), p. 450

[13] Frantz Fanon, Black Skin, White Masks, Trans. Charles Lam Markmann (New York: Grove Press, 1967), p. 134

[14] Frantz Fanon, Toward the African Revolution, Trans. Haakon Chevalier (New York: Grove

Press, 1994), p. 81

[15] Ibid, p. 82

[16] الشريف، "عصبة التحرر"؛ "الحزب الشيوعي"؛ دكروب، "قراءة راهنة..."

 

اميرة سلمي

أستاذة مساعدة في معهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت. حصلتْ على شهادة الدكتوارة في الخطابة من جامعة كاليفورنيا ــــ بيركلي، وعلى شهادة الماجستير في النوع الاجتماعيّ والتنمية من جامعة بيرزيت. لها أبحاثٌ في مجال الدراسات الاستعماريّة: الخطاب الاستعماريّ، دراسات ما بعد الاستعمار، الكتابة المناهضة للاستعمار، الكتابة الأدبيّة الثورية في فلسطين وأفريقيا. كما كتبتْ عن الكتابة النسائيّة، والخطابات التنمويّة.