العبث النقديّ بتاريخ الأديان: محمد آل عيسى نموذجًا*
30-06-2018

 

تكاثرتْ في السنوات الأخيرة الكتاباتُ الرقميّة التي تصف نفسَها بالنقديّة والمشكِّكة بالثوابت التقليديّة في مجال التاريخ والدين. ويمكن اعتبارُ هذه الظاهرة إيجابيّةً من  المبدأ، لو لم تتحوّل في أمثلة عديدة إلى ميدانٍ مفتوحٍ وعشوائيّ، لا يُعنى الداخلُ فيه بأدنى شروط الكتابة المنهجيّة وقواعد التأليف النقديّ.

قبل سنوات قليلة، انتشر كتابٌ رقميّ، لا يحمل اسمَ دار نشر أو سنة صدور، هو تاريخ الإسلام المُبكّر لمؤلِّفٍ غير معروف في ميدان التأليف التاريخيّ يُدعى محمد آل عيسى. وقد تناقل الكثيرون مضامينَ هذا الكتاب، وروّجوا له، ولكنّه لم يحظَ بقراءةٍ رصينة على حدّ علمي. 

وفي غمرة مراجعة مُسوَّدات كتابي الجديد، موجز تاريخ فلسطين القديم منذ فجر التاريخ حتى الفتح العربيّ الإسلاميّ، أرسل لي، قبل أسابيع، أحدُ الأصدقاء نسخة PDF من هذا الكتاب، داعيًا إيّاي إلى الاستفادة منه في تأليف كتابي. ففوجئتُ بأنه تكرارٌ سمجٌ لأقاويل بعض صغار المستشرقين العابثين بتاريخ الإسلام، ويكاد يتحوّل في بعض صفحاته إلى نصّ هجائيّ سطحيّ للإسلام، دينًا وتراثًا ورموزًا. ولهذا اكتفيتُ بتدوين مجموعة من الملاحظات، ثم صغتُها في هذه المقالة.

***

يبدأ المؤلِّف كتابه بطرح كذبة كبيرة: "هناك اتفاق، يكاد يكون عامًّا بين مجموعة من المؤرِّخين، وهي أنّ الإسلام ظهر في بلاد الشام ولم يظهر في مكة، وأنّ هجرة الإسلام وحركته كانت من الشام إلى الحجاز وليس العكس."(ص 6)

هذا الحُكم الخطير جاء من دون أدنى توثيق. فلماذا لم يذكر الكاتب واحدًا من هؤلاء "المؤرّخين"؟ وهل يشفع للمؤلِّف أنه ناقش هذه الفكرة في فصول كتابه ليضعها حكمًا باتًّا في مقدّمة كتابه بهذه الصورة؟

***

ويقول الكاتب في الصفحة ذاتها: "محمّد لم يظهر لا في الشام ولا في الحجاز. وهو ليس شخصًا حقيقيًّا. وهذا هو محورُ الكتاب. محمّد مجرّدُ فكرةٍ جسّدها مَن اختلق تاريخَه وجعل هذا التاريخ في مكّة..."

وهذا حكمٌ مسبّق وجاهزٌ آخر. دع عنك أنّ الكاتب يقول الشيءَ وعكسه: فمرّةً يقول إنّ الإسلام ظهر في الشام لا مكّة، ومرّةً يقول إنّه لم يظهر لا في الشام ولا في المدينة.

***

ويقول: "بما أنّه لم توجد أيُّ موادّ إركيولوجيّة تُنسب إلى العصور الإسلاميّة الأولى فقد أثار هذا الأمرُ شكوكَ العلماء..."[1]

أوّلًا، هذه الموادّ موجودة، ولكنّها قليلة؛ ومنها أجزاء من أقدم مصحفٍ أثبت العلماءُ السويسريون (باستعمالهم الكاربونَ المُشعّ) أنّ تاريخَه يعود إلى أقلّ من عشرين سنةً بعد وفاة محمّد، وهو معروض في مكتبة برلين الحكوميّة.

ثانيًا، ينسى الكاتب أنه يتكلّم على بلادٍ صحراويّة واسعة، فيها مناطقُ جبليّة جرداء ووعرة، لم تقم فيها مدنٌ كبيرة طوال تاريخها القديم، ولا مراكزُ حضاريّة إلّا نادرًا (في اليمن ومكّة ويثرب وتيماء...). وهذه البلاد الصحراويّة لم تعرف الكتابةَ إلّا نادرًا، وعند أشخاص معدودين، أحدُهم ورقة بن نوفل الأسديّ. وكانت الثقافة السائدة هي ثقافة شفاهيّة، ولم يعرف العرب الذين شاركوا في تجربة الإسلام ظاهرةَ الكتابة على الحجر أو غير الحجر كالشعوب القديمة في مصر الفرعونيّة أو بلاد الرافدين.

***

ويقول: "ليس هذا البحث هو الأول من نوعه. هناك الكثير مثله بالعربيّة وبلغاتٍ أخرى. وهي أبحاث شكّلتْ مصادرَ أساسيّة لهذا البحث."[2]

وهنا أيضًا لا نجد أيّ ذكر لعناوين هذه الأبحاث أو لأسماء مؤلِّفيها.

***

ويقول إنّ "أقدم كتاب عن السيرة المحمديّبة كُتب بعد مئتيْ سنة من وفاة محمد المُفترضة (...). فالنصوص الإسلاميّة الأولى لا تذكر محمّدًا بالاسم."[3]

الكاتب يؤكّد هنا أنّه جاهل تمامًا بموضوع التأرخة لدى العرب المسلمين. فلنقرأْ ما كتبه هادي العلوي عن الموضوع:

"بدأ اهتمامُ العرب بالتأرخة مع الإسلام. وأوّلُ كتاب كتبوه هو السيرة النبويّة، وكذلك الحديثُ النبويّ. وقد ظهر الرواةُ الشفهيون أوّلَ الأمر، وكان هؤلاء من الصحابة وتلاميذهم التابعين. ثم ظهر المؤرِّخون في بوّابات القرن الثاني الهجريّ ليدوِّنوا وينْظموا ما سمعوه من الرواة. وأقدمُ المؤرِّخين هو أبو مخنف لوط بن يحيى (المتوفّى سنة 157هـ)، وقد كتب عددًا وفيرًا من التواريخ المبكّرة التي لم تصل إلينا، شأن المبكرات من التصانيف، إلّا أنّها كانت مصادرَ أمٍّ للمؤرِّخين اللاحقين كالطبري واليعقوبي..."[4]

وهذا يعني أنّ هناك آثارًا ووثائق مكتوبة منذ بدايات القرن الثاني الهجري، أيْ بعد 120 عامًا أو أكثر أو أقلّ بقليل على الهجرة. فهل يحقّ لنا، مثلًا، أن نشكّك في وجود شخصيّات تاريخيّة عاشت واشتُهرتْ في بدايات ذلك القرن، أو في القرن الذي سبقه، وإنْ كانت من وزن دينيّ أو سياسيّ أو عسكريّ أقلّ من وزن النبيّ العربيّ محمّد بمائة مرّة؟

ثمّ إنّ فقدان الكتب الأصليّة، على الرغم من وصول اقتباسات مطوّلة منها، ليس مثلبةً في التأليف التاريخيّ عند العرب المسلمين؛ فهذا هو ــــ مثلًا ــــ شأنُ الألواح السومريّة أو البرديّات الفرعونيّة التي لا تتحدّث عن حدث معيّن أو مَلك محدّد، بل تنقل إلينا شيئًا بخصوصهما عن ألواحٍ أخرى وبرديّاتٍ أخرى. أفلا تتمتّع تلك الاقتباساتُ، والحالة هذه، بالصدقيّة العلميّة ذاتها، خصوصًا أنّها كُتبتْ بعد الكتب الأصليّة بقرن واحد وعدة عقود فقط على بدء الدعوة الإسلاميّة في مكّة؟

أمّا قول الكاتب إنّ "اسم محمّد لم يكن يُذكر،" فمضحكٌ حقًا. فعمَّن كتب، إذن، ابنُ هشام السيرةَ النبويّة، نقلًا عن السيرة التي كتبها محمّد بن إسحق (المتوفّى سنة 150هـ)؟[5] هل كتبها عن شخص مجهول، أمْ أنّ هناك "رسولَ الله" آخرَ غير النبيّ محمّد؟! صحيح أنّ هناك شكوكًا حيال بعض محتويات سيرة ابن إسحق، ولكنّها تُطاول بعضَ المرويّات الشفاهيّة التي تعتمد على الذاكرة الجمعيّة المعرَّضة للخطأ بعد أن مرَّ على الأحداث قرن وعشرون عامًا في أدنى تقدير. كما تطاول بعضَ النصوص التي كتبها ابنُ إسحق منحازًا فيها إلى بني العبّاس، الذين كانوا على عداء مع الأمويين. ولكنّها لا تطاول وجودَ النبيّ أو مدينة مكة أو الأحداثَ الكبرى في عهد ابن إسحق والمتحفّظين عن كتابه الأقرب عهدًا إلى عصر النبيّ، إذْ لا يفصلهم عنه كما ذكرنا سوى مائة وعشرين عامًا، وهي الفترة الزمنيّة التي تفصلنا نحن مثلًا عن أحداث بدايات القرن العشرين.

***

 

فقدان الكتب الأصليّة ليس مثلبةً في التأليف التاريخيّ عند العرب، فهذا هو شأنُ الألواح السومريّة أو البرديّات الفرعونيّة

 

ينفي آل عيسى وجود "ما يمكن تسميتُه بالإسلام في القرن السابع في السجلّات التاريخيّة."

أيّ سجلّات يقصد الكاتب؟ وأيّ مكان يقصد؟ إذا كان يقصد بلادَ العرب والمسلمين فالشواهد المدوَّنة كثيرة في المصنَّفات التاريخيّة، وتعود إلى منتصف القرن الهجريّ الثاني، وهو يوافق العام 760م.

أمّا إذا كان يقصد الوثائقَ غير العربيّة، فأقدمُ وثيقةٍ وصلتنا عن الإسلام ومحمّد كُتبتْ بعد مدة وجيزة من وفاة النبيّ (سنة 632 م)، وهي تعليمات يعقوب المعمَّد حديثًا،[6] وفيها موقف سلبيّ جدًّا من النبيّ ومن الدين الجديد، وذلك ضمن حوار بين عدد من اليهود ويهوديٍّ تحوّل إلى المسيحيّة.[7] وهذا يؤكّد أنّ وجود النبيّ كان معروفًا من طرف الجهات الدينيّة المسيحيّة واليهوديّة حين كان النبيّ على قيد الحياة، ولكنّها ذكرتْ صفاتِه لا اسمَه، الذي ربما كانت تجهله، أو هي تجاهلتْه ضمن سياق ذمّها له. وهذا ليس أمرًا جديدًا؛ إذ لم يكن اليهود وأحبارُهم يذْكرون اسمَ يسوع، بل يشيرون إليه بأوصاف سلبيّة عديدة.

كما نسجّل أنّ كتابات البطريرك صوفرونيوس، بطريركِ أورشليم القدس (وُلد سنة 550م)، تُعتبر أقدمَ نصّ غير إسلاميّ يتحدّث عن الفتوحات التي بدأتْ في عهد النبيّ وتواصلتْ بعد وفاته. وفي رسالته إلى المجمع الدينيّ الخلقيدونيّ في روما (كُتبتْ سنة 633 أو مطلع 634 م)، يحرِّض القيادةَ الدينيّةَ في روما على مساندة المسيحيين لمواجهة "البرابرة" القادمين شاهرين سيوفَهم.

هذا وقد كتب المؤرِّخ الأرمنيّ سيبيوس، الذي عاش في عصر النبيّ محمّد، أنّ رجلًا ظهر بين العرب وادّعى النبوّة، وأنّه أعاد الاعتبارَ إلى صلة النسب التي تربطهم بإسماعيل، ابنِ النبيّ إبراهيم، القادمِ من أور الكلدانيّة، بحسب الرواية التوراتيّة.[8]

ولكنّ الاسمَ الأشهر في الغرب في هذا الصدد هو يوحنّا الدمشقيّ، الذي وُلد سنة 676م، أيْ بعد نهاية عصر الخلفاء الراشدين بثلاثة أعوام تقريبًا. وكان ليوحنّا موقف سلبيّ جدًّا من الإسلام ونبيّه، وساق محاورتيْن بين مسيحيّ ومسلم غرضُهما مساعدةُ المسيحيين في مناقشة المسلمين.

***

ويشكّك آل عيسى في وجود مدينة مكّة القديمة، باعتبارها مهدَ الإسلام. فتارةً يُنْكر وجودَها في موضعها الجغرافيّ المعروف، وتارةً يكرّر رأيَ المستشرقة باتريشيا كرونه (في كتابها الهاجريّة)[9] عن وجود موقع آخر مفترض لمكّة قرب البتراء في الأردن الحاليّ.

إنّ آل عيسى يكشف هنا، عبر مقتبسات منتزعة من سياقات مختلفة، عن أنّه يقوم بعمليّة مونتاج لأقوال كلِّ من شكّك في الإسلام وفي وجود مكّة.

والواقع أنّ مكّة لم تكن في صدر الإسلام مدينةً بل قرية كبيرة، ولذا جاء اسمُها القرآنيّ "أمّ القرى." وكانت تقع في وادٍ أجرد، أو بات كذلك بعد انقطاع السيول من الجبال المحيطة به. وهذا ما جعلها غيرَ ذات أهميّة أنثروبولوجيّة ولا تحتضن الكثيرَ من البقايا الأركيولوجيّة.

أمّا إنكارُ وجودها مطلقًا قبل الإسلام، أو إنكارُ كونِها موطنًا لقبيلة كبيرة معروفة هي قريش، فأمرٌ لا يمكن القبولُ به علميًّا. إنّ روايات الإخباريين المسلمين عن مكّة وماضيها لا يمكن الوثوقُ به مائة بالمائة، ولكنْ لا يمكن شطبُه بخفّة وطيش أيضًا. وهذا الموقف النقديّ، وغير العدميّ في الوقت نفسه، هو موقف الباحث العراقيّ جواد علي، صاحب المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام.[10] وخلاصةُ ما قاله هو الآتي: إنّه يتفق مع رأي مَن يقول بانعدام أيّ ذكرٍ لمكّة كمدينة في العهود القديمة قبل الإسلام، ولكنّه لا ينفي وجودَها في ذاته آنذاك.[11]

أمّا بخصوص عدم ورود اسم "مكّة" في الكتابات الجاهليّة (النادرة أصلًا)، فيكتب جواد علي عن مواد تأريخيّة مكتوبة باللغات الأعجميّة، جاء في أحدها، وهو للعالِم اليونانيّ بطلميوس (عاش في القرن الثاني بعد الميلاد)، اسمُ مدينة مكربة (Macoraba)، الذي لا يَستبعد جواد علي وجودَ صلةٍ بينه وبين لفظ مكّة.[12]

وأمّا في الكتاب المقدّس - سفْر المزامير، وفي أشهر ترجماته الإنجليزيّة المنشورة اليوم،[13] فنجد ذكْرًا صريحًا لاسم مكّة القديم، "بكّة،" مرسومًا بحرف B كبير دلالةً على كونه اسمَ أحد الأمكنة، مقرونًا بالتأكيد على كون بكّة "واديًا جافًّا" ــ ــ وهو ما ورد في القرآن أيضًا ("وادٍ غير ذي زرع"). ومعروف أنّ لفظ "بكّة" ورد في القرآن أيضًا (الآية 96 من سورة آل عمران)، وهو ما يعطي الاسمَ التوراتيّ لمكّة (أو بكّة) قوّةً إضافيّة.

ثمّ إنّ هناك أحداثًا لا ينكرها أل عيسى حصلتْ في مكّة في العهد الأمويّ، كثورة بن الزبيْر سنة 73 هـ. فإذا كان الكاتب يعترف بوجود مكّة خلال هذه الثورة، أفلا يعني هذا أنّ الأحياء آنذاك شهدوا انطلاقَ الدعوة الإسلاميّة في مكّة، ومن ثمّ الهجرة إلى المدينة، وشهدوا الأحداثَ التي جرت في سنوات الإسلام الأولى، وبعضُهم شارك فيها أو رأى النبيَّ وصحبَه أو حجّ إلى مكة؟

***

ويشكّك الكاتب في الفتوحات أصلًا لأنه يؤمن أنّ الفرس والبيزنطيين انسحبوا من دون حرب، أو بسبب التعب.[14]

لا أحد ينْكر أنّ الصراع بين الدولتين الفارسيّة والبيزنطيّة قد استنزف الطرفيْن قبل بدء الزحف العربيّ نحو الشمال العراقيّ والشاميّ. بيْد أنّ هذا الصراع لم يصل بهما إلى الانهيار التامّ والانسحاب من التاريخ والجغرافيا، كما يحاول آل عيسى إقناعَنا. بل الأمر يتعلّق بمعارك هائلة، مثل معركة اليرموك، التي يقول المؤرِّخ كلود شينيه، في كتابه اضمحلال الإمبراطورية البيزنطيّة، إنّ القوات البيزنطيّة أبيدتْ فيها. ويمرّ الكاتب بالمعارك على جبهة العراق بين العرب والفرس، ويخرج بخلاصةٍ مفادُها أنّ "العرب قلّصوا الإمبراطوريّة الفارسيّة آنذاك."

كما أنّ المؤرّخ هيو كينيدي يستعرض في كتابه الضخم، الفتوح العربيّة الكبرى، كتابًا قديمًا جدًّا لراهبٍ يدعى حنّا باربنكايا في شمال العراق اليوم، أو جنوب الاناضول، أُلّف في ثمانينيّات القرن السابع الميلاديّ؛ أيْ بينه وبين معركة اليرموك أقلُّ من نصف قرن. يتساءل الراهب:

"كيف يمكن لرجال عراة، يركبون دونما درعٍ أو ترس، أن ينتصروا ويحطّوا من شأن روح الكبرياء الفارسيّة؟ (...) لقد أخضعوا [أي العرب] كلَّ المدن الحصينة، وفرضوا سلطانَهم من البحر إلى البحر، ومن الشرق إلى الغرب (مصر)، ومن كريت إلى قابادوقيا، ومن اليمن إلى آلان في القوقاز..."

ويعلّق كينيدي:

"بالنسبة لباربنكايا، الذي كان راهبًا تقيًّا، كانت الإجابة واضحة (...): إنّها إرادةُ الربّ! لم يكن هناك أمر آخر يمكن أن يفسِّر هذه الثورةَ الخارقةَ للعادة في أمور البشر. والآن، بعد ثلاثة عشر قرنًا، وفي عالمٍ لا يكون التدخّلُ الإلهيُّ تفسيرًا كافيًا للتغييرات التاريخيّة الكبرى بالنسبة لكثير من الناس، تاتي محاولةُ اقتراح أنماط أخرى من الإجابات على السؤال الذي طرحه الراهب حنّا باربنكايا."[15]

***

ويتساءل آل عيسى: "لماذا لم يَثُر المسيحيون في القدس على الغزاة؟ لماذا وُصف العرُب القادمون بأنّهم مؤمنون؟ هل كان دينُهم شكلًا من أشكال المسيحيّة / اليهوديّة؟ فقد بدا الحكامُ العرب أقربَ إلى اليهود...  بل إنّهم قاموا بالصلاة على أطلال المعابد اليهوديّة. وعندما بنى العرب أكبرَ مسجد، وهو قبّة الصخر ، بنوْه على أطلال الهيكل اليهوديّ."

الحقيقة أنّ الأهالي ثاروا فعلًا ورفضوا طوال فترة حصار مدينتهم أن يَدخل مَن يسمّيهم آل عيسى "الغزاة،" وطالبوا أن يأتيهم الخليفةُ عمر بن الخطّاب نفسُه ليتسلّم من قياداتهم الدينيّة مفاتيحَها بموجب "العهدة العمَريّة." والحقيقة أيضًا أنّ العرب المسيحيين كان لهم جيشُهم المستقلّ والمهمّ ضمن قوّات التحالف البيزنطيّ في معركتيْ أجنادين واليرموك، وكان يقود هذا الجيشَ المؤلَّفَ من العرب الغساسنة جبلة بن الأيهم.

أمّا قصة "العهدة العُمَريّة" فوردتْ في كتب التاريخ بأكثر من صيغةٍ ونصّ: عند اليعقوبي وابن البطريق وابن الجوزي... وما يهمّنا هنا هو ورودُها في وثائق البطريركيّة المسيحية، ما يجعل من كلام آل عيسى محضَ مزاعم. ونضيف أنّ مستشرقيْن أوروبيين درسا "العهدة،" وهما الإيطاليّ ليون كايتاني في كتابه حوليّات الإسلام،[16]، والإسباني دي خويه في كتابه أطروحة حول فتح سوريا.[17] وقد اتفقا على وجود أدلّة تؤكّد أنّ القيود ضدّ المسيحيين في شروط العهدة العمريّة قد أضيفت في العصور المتأخّرة، ومع ذلك فقد اعتبر فقهاءُ المسلمين الذين عاشوا في أزمان أقلّ تسامحًا أنّها شروط صحيحة.[18]

 ثمّ ألا يعلم الكاتبُ أنّ الإسلام يوجِب على أتباعه الإيمانَ بالرسالات السماويّة الإبراهيميّة السابقة، وتحديدًا اليهوديّة والمسيحيّة، وبأنبيائها وكتبها المقدّسة، سوى أنه [أي الإسلام] يعتبر أنّ تلك الكتب المقدّسة قد حُرِّفت؟ ألا يعلم أنّ اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام هي تجلّيات ثلاثة لديانة توحيديّة واحدة هي الإبراهيمية؟ هل يجهل أيُّ مسلم عاديّ ذلك، دع عنك المسلم المثقّف أو المتعلّم؟ أمْ أنّ آل عيسى اكتفى بنقل تساؤلات صغار المستشرقين الجهلة بتاريخ الإسلام، وتساؤلات تلامذتهم العرب ممّن يَعتبرون الدينَ الإسلاميّ "مجرّدَ هرطة مسيحيّة أبيونيّة،"[19] وأسندها إلى نفسه، من دون أن يتوقّف عندها ويناقشَها منهجيًّا وعلميًّا؟

***

ثمّ إنّ الكاتب يَعتبر بني أميّة، وتحديدًا عبد الملك بن مروان، المؤسِّسين الحقيقيين للإسلام!

لو أنّ آل عيسى قال إنّ الأمويين مؤسِّسو الإسلام الملكيّ الوراثيّ، لكان كلامه قابلًا للمناقشة والاستيعاب. ولكنّه يكتب شيئَا آخر. فلنقرأ: "إنّ عبد الملك بن مروان يمكن أن يكون مسيحيًّا نسطوريًّا من بلاد فارس، جاء ليحكم بعد أسرة معاوية. فالاسم، بن مروان، يعني القادمَ من مرو، وهي مدينة فارسيّة."[20]

والدليل على هذه الفرضيّة العجيبة أكثر عجبًا من الفرضيّة نفسها، وهي أنّ العُملة التي ضربها عبدُ الملك ثبتتْ عليها "عبارةٌ توحيديّةٌ هامّةٌ مأخوذةٌ من الناموس اليهوديّ: ’اسمعْ يا إسرائيل الربّ إلهنا رب واحد.‘ وترجمتُها كانت: قل هو الله أحد [!]"(21) أما سورة الإخلاص القرآنيّة، التي تبدأ بآية "قل هو الله أحد،" فلا يبدو أنها مرّت بخاطر الكاتب. وربّما يعتقد آل عيسى أنّ دينار عبد الملك بن مروان سُكَّ قبل نزول هذه الآية؛ ولهذا سارع إلى جعل عبد الملك بن مروان الفارسيّ مسيحيًّا نسطوريًّا يقتبس الآيات عن الناموس اليهوديّ. فيا للعجب!

***

إنّ هذه الأدلّة والوثائق التي عرضناها هنا، والتي درسها وتحدّث عنها المؤرِّخون والباحثون الأجانب قبل العرب المسلمين، تجعل مزاعمَ آل عيسى عن وهميّة شخصيّة النبيّ، والتشكيك في وجود مكّة في موضعها المعروف، وفي بدايات قصة الإسلام دينًا وحضارةً، وإنكاره لحدوث حروب الفتح والتحرير للعراق والشام بالتفاصيل التي عرفها العالم، هباءً منثورًا.

جنيف

** خلاصة مركّزة لدراسة مطوّلة ستُنشر ضمن كتاب يصدر قريبًا تحت عنوان: موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربيّ الإسلاميّ.

 

[1] - محمد آل عيسى، تاريخ الإسلام المبكر (نسخة رقميّة بلا تاريخ إصدار أو جهة مُصدرة)، ص 8.

[2] - المصدر السابق، ص 9.

[3] -   م. س، ص 11.

[4] - هادي العلوي، محطّات في التاريخ والتراث (دمشق: دار الطليعة الجديدة)، ص 6.

[5] - من المفيد أن نتذكّر أنّ بن إسحق كتب السيرة النبويّة قبل عدة عقود من وفاته، وبعد استقراره في بغداد برعاية من أبي جعفر المنصور.

[6] - Doctrina Jacobi Nuper Baptizati

[7] - Walter Emil Kaegi, Jr., "Initial Byzantine Reactions to the Arab Conquest," Church History, Vol. 38, No. 2 (Jun., 1969), p. 139-149, quoting from Doctrina Jacobi Nuper Baptizati p. 86-87

[8] حاتم الطحاوي، "فتوح المسلمين لبلاد الشام وأرمينيا: قراءة في مصنَّف المؤرِّخ الأرمنيّ سيبيوس،" موقع عين للدراسات والبحوث السياسيّة والاجتماعيّة.

[9] - Hagarenesنسبةً إلى الشخصيّة التوراتيّة والقرآنيّة هاجَر، زوجةِ النبيّ إبراهيم، وأمِّ النبيّ إسماعيل.

[10] -  صدرت الموسوعة باسم تاريخ العرب قبل الإسلام (ثمانية مجلدات)، أصدرها المجمع العلميّ العراقيّ بين سنتيْ 1956 و1960. ثم صدرتْ موسّعةً باسم المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام (عشرة مجلدات)، وطُبعتْ في بيروت بين سنتيْ 1968 و1974. ونحن هنا نعتمد المفصّل من تاريخ العرب قبل الإسلام ص 400 وما بعدها، نسخة رقميّة.

[11] - م. س، ص 401.

[12] - م. س، ص 402.

[14] - تاريخ الإسلام المبكر، ص 29 .

[15] - الفتوح العربيّة الكبرى، ترجمة قاسم عبده قاسم (القاهرة: المركز القومي للترجمة)، ص 15.

[16] - Annali del l'islam, p.957

[17] -Mémoire sur la conquête de la Syrie, p. 143

[18] - اقتبسه محرِّر مادة "العهدة العُمريّة" في الموسوعة الحرة وموسوعة المعرفة، نسخة رقميّة.

[19] حركة وطائفة مسيحيّة يهوديّة وُجدتْ في العصور الأولى للمسيحيّة، كانت تنكر ألوهيّة يسوع، وتصرّ على اتّباع الشريعة اليهوديّة، ولا تؤمن إلّا بأحد الأناجيل المسيحيّة اليهوديّة، وتبجّل يعقوب البارّ، وتعتبر بولس مرتدًّا.

[20] - تاريخ الإسلام المبكر، ص 45.

[21] -م.س.

علاء اللامي

 

كاتب عراقيّ يقيم في سويسرا. له العديد من المؤلَّفات في الأدب والبحث العلميّ في التاريخ والتراث واللغة، منها: دليل التنشيز، سيرة اليمامة البابليّة (شعر)، قصائد حب باتجاه البحر (شعر أجنبيّ مترجم)، إيجابيّات الطاعون (نصوص مسرحيّة)، نصوص مضادّة دفاعًا عن العراق، نقد المثلّث الأسود (مقالات)، السرطان المقدّس: الظاهرة الطائفيّة في العراق من المتوكّل العباسيّ إلى بوش الأمريكيّ (دراسات)، المبسَّط في النحو والإملاء (لغة)، موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ حتى الفتح العربيّ الإسلاميّ (تاريخ)، نقد الجغرافيا التوراتيّة خارج فلسطين (تاريخ).