التعليم الرسميّ اللبنانيّ: بين سندان النزوح ومطرقة الواقع المأزوم
06-10-2020

 

التربية والتعليم هما من أبرز المهامّ التي تضطلع بها الدولةُ الحديثة. ويُعتبر التعليمُ العامُّ ما قبل الجامعيّ من أهمّها، لِما يحمله من أهدافٍ وطنيّةٍ وإنسانيّةٍ وقيميّةٍ تساهم في تشكيل المواطن اللبنانيّ، الذي بدوره سيشكّل مع أقرانه مستقبلَ البلاد.

وتبدو مسؤوليّةُ الدولة هذا العام مضاعفةً واستثنائيّةً، لا سيّما على مستوى التعليم الرسميّ. فمن المتوقَّع أن يَنزحَ إليه، من التعليم الخاصّ، ما يقارب المئة ألف تلميذ، بسبب الوضع الاقتصاديّ شبه المنهار. وهذه الأزمة لم تطاول الأهلَ وحدهم، وإنما طاولتْ أيضًا المدارسَ الخاصّةَ، التي أُقفل عددٌ منها، وعددٌ آخر مهدَّد بالإقفال، إذ إنّ قسمًا من الأهالي لم يتمكّنْ من تسديد الأقساط المدرسيّة المستحقّة.

وما زاد الطينَ بلّةً انتشارُ فيروس كورونا المستجدّ، الذي فرض إقفالَ المدارس من شباط (فبراير) 2019، واستكمالَ العام الدراسيّ عن بُعد، مع ما يتطلّبه ذلك من قدرة تأهيلٍ تكنولوجيّ لدى المعلِّمين، وقدرةٍ اقتصاديّةٍ لتحمُّل كلفته لدى المعلِّمين والتلامذة على حدٍّ سواء. وهذا الإقفال مرشّحٌ للتجديد مع العام الدراسيّ المقبل، وإنْ بشكلٍ جزئيّ، بسبب توقّع اتساع انتشار الوباء في البلاد.

فهل يكون التعليمُ الرسميُّ قادرًا على استيعاب هذا العدد الكبير من التلامذة النازحين؟ هل يتوفّر مقعدٌ لكلٍّ منهم؟ هل يكفي عديدُ الهيئة التعليميّة لتعليمهم؟ وإنْ كان كافيًا نظريًّا، فكيف سيوزَّعون بحسب المناطق والمدارس؟ ألا نجد مدارسَ تحتاج إلى أساتذةٍ من اختصاصاتٍ متنوّعة، ومدارسَ تعاني تخمةً في الأساتذة لا تنسجم مع عدد التلامذة؟ وقبل كلّ شيء، هل هناك سياسة تربويّة عامّة ترسمها الدولةُ في مؤسّساتها كافّةً؟ وهل هي سياسة متطوّرة ومرنة وقادرة على مواكبة تقدّم المجتمع المحلّيّ والعالميّ؟

إنّ الغوص في واقع الحال يكشف أمامنا عددًا كبيرًا من المشاكل في التعليم الرسميّ في لبنان، أبرزها:

 

أوّلًا - غياب السياسات العامّة

تغيب السياساتُ العامّةُ في لبنان. حتى إنّ الموازنات العامّة، التي تُعتبر الإطارَ العامَّ لكلّ السياسات العامّة في الدولة، لا يمكن النظرُ إليها في لبنان على هذا الشكل. فالموازنة العامّة للدولة اللبنانيّة لا تستند إلى أيّ رؤية اقتصاديّة-اجتماعية، بل إنّ أرقامها مشكوكٌ في دقّتها لكونها لا تعتمد على قَطْع حساب السنوات السابقة. ودائمًا ما تُظهر هذه الأرقامُ عجزًا في المداخيل لصالح النفقات (وإنْ عُصرتْ هذه الأخيرةُ في آخر موازنة لتصل إلى حدّ تصفير العجز).

أمّا في ما خصّ الجانبَ التربويَّ والتعليميَّ في الموازنات تحديدًا، فقد بلغتْ نسبةُ الإنفاق المخصَّصةُ لوزارة التربية والتعليم العالي من إجماليّ نفقات الموازنة العامّة للسنوات 1999 و2002 و2013، على التوالي، 12.5% و8.5% و7%، وهي في تراجعٍ مستمرٍّ وكبير. وما يقارب 90% من هذا الإنفاق مخصَّص، أصلًا، للرواتب والأجور والأمور التسييريّة.

وفي مقارنةٍ بسيطةٍ مع الأردن الشقيق، ومع الكيان الصهيونيّ العدوّ، تُمْكننا ملاحظةُ الأرقام والفروق الآتية في التقرير العالميّ لرصد التعليم، الصادر عن اليونسكو عام 2019: [1]

 

 

نلاحظ من هذه العيّنة أنّ الإنفاق الحكوميّ في الموازنات العامّة على التعليم متدنٍّ في لبنان، ولا يمكن إلاّ أن يتركّزَ في تسيير المرفق العامّ، من دون أن يرقى إلى تطويره وتحديثه ومعالجة مشاكله الكثيرة -- من تأهيل المباني وتجهيزها، إلى تطوير المناهج وأتمتتها.

وأمّا في ما خصّ السياسات العامّةَ التربويّة، فإنّ الأمر يقتصر على إدارة الشؤون العامّة التربويّة بما يحفظ وجودَها واستمرارَها، لكنْ من دون أيّ رؤيا مستقبليّة على المدى القصير. ويعود ذلك إلى المحسوبيّات والعقليّة النفعيّة الضيّقة التي يتبنّاها مَن يتولّوْن الشأنَ العامّ، ومن بينها وزارةُ التربية، التي تتحوّل مع كلّ وزيرٍ يعبِّر عن توجّهٍ سياسيٍّ معيّن إلى "محميّةٍ" لحزبه ومَن يدور في فلكه.

 

ثانيًا - مشاكل البناء المدرسيّ وتجهيزه

وفقًا لآخر تحديثٍ (2002) للمعلومات المتعلّقة بملْكيّة مباني المدارس الرسميّة على صفحة المركز التربويّ للبحوث والإنماء، فإنّ عددَ المباني المستأجرة يشكّل ثلثيْ مجموع هذه المدارس.[2] وهذه المباني لم تصمَّمْ بالضرورة لتَشْغلَها مدارس؛ بل إنّ قسمًا منها يفتقر إلى المعايير التربويّة والصحّيّة. ولقد درّستُ في ثلاثةٍ منها، وفيها غرفٌ لا يصلها ضوءُ الشمس، ولا تتمتّع بالتهوئة الملائمة، ومساحتُها لا تتجاوز 16 مترًا مربّعًا. وهذا يطرح الأسئلة الآتية: لماذا لا تبادر وزارةُ التربية إلى إنشاء مبانٍ نموذجيّةٍ تُعْفي الدولةَ من كلفة الإيجار والصيانة؟ وكيف ستواجه الأعدادَ المتزايدةَ من تلامذة المدارس الخاصّة النازحين في العام الدراسيّ القادم بسبب الأزمة الاقتصاديّة والانتشار المتزايد لفيروس كورونا؟ ولِمَ لا تنفق الهِباتِ والمساعداتِ الدوليّةَ المخصّصةَ للقطاع التربويّ وفق أولويّة بناء المدارس وتوسيعِها وتجهيزِها الحديث؟ ولِمَ لا تفعِّل المادة 49 من مرسوم تنظيم وزارة التربية، وهي مادّةٌ تركّز على ضرورة "مشاركة السلطات المحلّيّة والأهالي في العمليّة التعلّميّة من خلال تأمين البناء المدرسيّ"؟[3]

 

ثالثًا - وقف التوظيف والتعاقد العشوائيّ

قد يكون من أكثر ما أثّر سلبًا في القطاع التربويّ الرسميّ هو وقفُ التوظيف المنتظم من خلال دُور المعلِّمين وكلّيّة التربية منذ ما يزيد عن عقديْن. فهذا الوقف دفع في اتجاه سدّ الشواغر الناشئة من تقاعد الأساتذة، وتأمين الحاجة المتزايدة مع تزايد الطلب على التعليم الرسميّ، من خلال التعاقد الذي لم يكن في بدايات اعتماده يَشترط شهادةً أعلى من البكالوريا، قبل أن تصبح الشهادةُ الجامعيّةُ شرطًا لازمًا للتعاقد في جميع مراحل التعليم. ويبدأ الأستاذُ المتعاقد ممارسةَ التعليم من دون أيّ تدريب مهنيّ، أو أدنى فكرةٍ عن كيفيّة تحضير الدرس، أو طرق التدريس، أو الخصائص السيكولوجيّة والمعرفيّة والفيزيولوجيّة للأطفال.

قبل بدعة التعاقد، كان الأساتذة المقبولون للعمل التربويّ يقضون سنتيْن إلى ثلاث سنوات من الإعداد والتدريب في كلّيّة التربية أو دُور المعلّمين. أما التعاقد فأدّى إلى تراجع كبير في الأداء التربويّ بشكلٍ عامّ، الأمرُ الذي دفع الوزارةَ - وبخاصّةٍ مع انطلاق خطّة الإصلاح التربويّ سنة 1994، وتحديثِ المناهج منذ سنة 1997 - إلى إنشاء "مكتب التدريب المستمرّ،" التابعِ للمركز التربويّ للبحوث والإنماء. هذا المكتب ينظِّم دوراتٍ تدريبيّةً لمختلف الاختصاصات والمراحل التعليميّة على مدار السنة الدراسيّة، ويُصْدر مع بداية كلّ عام كتابًا يشمل برنامجًا مفصّلًا لكلّ هذه الدورات. غير أنّ الأساتذة غالبًا ما يحاولون التهرّبَ من الالتحاق بهذه الدورات لأنّها اختياريّة، ولأنّها في رأي بعضهم بلا فائدةٍ عمليّة، بل لمجرد "تنفيع المدرّبين"؛ كما أنّ توقيتَها يتضارب مع برنامج الأساتذة، المتعاقدين خصوصًا، إذ لا تُحتسب الدورةُ يومَ عمل لهم، فيكون يومُهم بلا أجر.

هذه السياسة لا يمكن أن تؤدّي الدَوْرَ الذي تلعبه دُورِ المعلمين وكليّة التربية. وعليه، فلا بدّ من استعادة هذه الأخيرة من أجل تأهيل المعلمين والأساتذة وتدريبهم.

 

رابعًا - تعطيل دور التفتيش المركزيّ

لا تقتصر أزمةُ التفتيش المركزيّ على الجانب التربويّ. فلقد أُفرِغ جهازُ التفتيش المركزيّ من مضمونه، وعُطِّل دورُه على مدى سنوات، حين وُضِعَ تحت سطوة القوى السياسيّة النافذة (الحزبيّة-المذهبيّة). بل وصل الأمرُ إلى حدّ الحديث في وسائل الإعلام عن إخفاء ملفّاتٍ في الأدراج، تبعًا لنفوذِ مَن تطوله. لكنّ ما يعنينا هنا هو مدى فعّاليّة التفتيش التربويّ في مراقبة العمل التربويّ في المدارس الرسميّة، بالشكل الذي يجنِّب العمليّةَ التربويّةَ الجنوحَ نحو الاستهتار بمصلحة التلامذة، ويجنّبها الإمعانَ في المخالفات المسلكيّة والقانونيّة.

 

  عُطِّل دورُ "التفتيش المركزيّ" حين وُضع تحت سطوة القوى السياسيّة النافذة

 

في كلّ عام يتقلّص حجمُ هذا الجهاز بسبب التقاعد، ولا يُفتحُ المجالُ لملء الفراغ. ففي العام 2018 بلغ عددُ المفتّشين التربويّين 23 مفتّشًا يتولّوْن مراقبةَ أكثر من 1400 مدرسة ما بين أكاديميّة ومهنيّة. بل وصل الأمرُ إلى أن يتولّى مفتّشٌ واحدٌ مراقبةَ أوضاع حوالى 170 مدرسةً. فكيف سيتمكّن من إتمام مهامّه بفعّاليّة وإنتاجيّة؟! وقد نتج من ذلك تقليصُ زياراته إلى كلّ مدرسة لتصبح زيارتيْن أو ثلاثًا سنويًّا، وتكون خاطفةً، وتُحْصَر في حدود المراقبة الدفتريّة للشؤون الإداريّة والماليّة، لا المراقبة التربويّة لعمل الهيئة التعليميّة. وهكذا أصبح عملُ المفتّش التربويّ يقتصر على ملء المعلومات وجدولتِها، ومراقبةِ صحّة الأرقام وتطابقِها مع الأنظمة المرعيّة، مع ما يعنيه ذلك من احتمال الغشّ. فكم من مدارس سَجّلتْ تلامذةً في سجلّاتها من دون أن يكون لهم وجودٌ حقيقيّ في المدرسة؟!

تجدر الإشارةُ إلى أنّ مباراةً واحدةً جرت لملء 52 مركزًا شاغرًا في المفتّشيّة العامّة التربويّة في العام 2017، نجح 29 وفق الاختصاصات، وهناك اختصاصات لم ينجحْ فيها أحد، وبقي 23 نجحوا فائضًا عن العدد المطلوب في اختصاصهم. وقد جرى تأخيرُ تعيين الناجحين الـ29 أكثر من سنتيْن بسبب المناكفات والكيْدِ السياسيّ تحت مسمّى "التوازنات الطائفيّة."[4] إلى أن صدر أخيرًا مرسومُ تعيينهم تحت رقم 6495، بتاريخ 19 حزيران 2020. على أمل أن تكون تلك خطوةً في اتجاه استعادة دور جهاز التفتيش المركزيّ، الفاعل في ضبط العمليّة التربويّة، مع أنّ الحاجة تدعو إلى عددٍ يفوق ذلك بكثير.

 

خامسًا - تضارب الصلاحيّات بين دوائر وزارة التربية

وكأنّه لا تكفي التربيةَ كلُّ تلك المشاكل المذكورة آنفًا، حتى تزاحمَها مسألةُ تضارب الصلاحيّات، التي تصل في بعض الأحيان إلى العلاقة بين الوزير والمديريّةِ العامّة للتربية من جهة، والمركزِ التربويّ للبحوث والإنماء من جهةٍ أخرى. وقد ظهر سوءُ العلاقة مؤخّرًا من خلال عدّة إجراءاتٍ قام بها الوزير، إذ أقفل مكاتبَ في الوزارة كان يَشْغلُها موظّفون من "المركز،" واتّخذ قرارًا لاحقًا بإلغاء تكليف رئيسة هذا المركز وإعفائها من مهامّها فيه. والحال أنّ كلًّا من الوزارة و"المركز" يُفترض أن يتكاملا ويتعاونا في خدمة التربية العامة. غير أنّ النتيجة هي تعطيلُ الأهداف التطويريّة التي أُنشئ من أجلها هذا المركز. ويدفع ثمنَ ذلك النظامُ التربويُّ الذي يعاني جمودًا، بل تأخّرًا، في مقابل التطوّر التربويّ العالمي. وهذا ما يفسّر حالةَ التخبّط التي عاشها ولا يزال الجسمُ التربوي في مواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ هناك تضاربَ صلاحيّات ما بين "المفتّشيّة العامّة التربويّة" المسؤولة عن مراقبة العمليّة التربوية في المدارس في جوانبها كافةً؛ في مقابل "مكتب الإرشاد والتوجيه" الذي أنشِئ في وزارة التربية من دون مسوِّغ قانونيّ، ثمّ توسّع خلال السنوات الأخيرة على حساب الكادر التعليميّ في الثانويّات الرسميّة، التي اضطُرّت من أجل تعويض الشغور الناتج إلى التعاقد مع أساتذة غير مدرَّبين. وإذا كانت ثمّة حاجةٌ فعليّةٌ إلى وجود مثل هذا المكتب ليقوم بدور الإرشاد التربويّ، لا الرقابيّ (فهذا حصرًا من مهامّ التفتيش)، فلماذا لا يصار إلى قوننته وضبطِ عمله وفق آليّةٍ لا تحتمل اللبْسَ أو الاستغلالَ السياسيّ؟

كلّ هذه النقاط تتضافر مع غيرها، ممّا لا مجال لذكره هنا، لتُضْعف المدرسةَ الرسميّةَ، ولتضعَها في موقع العاجز عن مواجهة الأزمة الراهنة، التي بدأتْ تظهر نتائجُها مع بدء العام الدراسيّ 2020-2021، على الشكل التالي:

- أزمة نزوح أعدادٍ كبيرةٍ من المدارس الخاصّة، لا مقاعدَ لها في المدارس الرسميّة.

- أزمة صحّيّة مع بلوغنا مرحلةَ الانتشار المجتمعيّ للوباء المستجدّ.

- أزمة تقنيّة مع صعوبة تطبيق التعليم عن بُعد في ظلّ الظروف الاقتصاديّة والكهربائيّة وضعف الانترنت.

- أزمة تطبيق التعليم المدمَج الذي أطلقته الوزارةُ، خصوصًا لجهة ضبط وسائل النقل والاختلاط وقتَ الاستراحة. عدا عن الضغوط الهائلة التي سيتحمّلها الكادرُ الإداريّ والتعليميّ.

أمام كلّ ذلك، يبدو أنّ أمامنا عامًا دراسيًّا صعبًا جدًّا. ومواجهتُه تتطلّب عقليّةً تتخطّى المألوف، وتتمرّد على الواقع، الذي فرضتْه الزبائنيّةُ السياسيّةُ والمصالحُ الضيّقةُ والفسادُ المستشري في جميع مرافق الدولة. وإلاّ فعلى التربية السلام.

منيارة

 


[1]اليونسكو، التقرير العالميّ لرصد التعليم: الهجرة والنزوح والتعليم: بناء الجسور لا الجدران، 2019، ص291.

[2]- المركز التربويّ للبحوث والإنماء، نشرة المؤشِّرات للعام 2001-2002 (بيروت، 2002) http://www.crdp.org/indicators?la=ar

[3]- د. أحمد العمر، "اقتراحات من أجل تطوير التعليم الرسميّ" http://www.crdp.org/mag-description?id=9312

[4]- فاتن الحاج، "تأخير تعيين مفتّشين تربويّين: التوازن الطائفيّ أمْ طعونُ الشورى؟،" الأخبار، https://al-akhbar.com/politics/250471

رولا ميشال بردقان

باحثة في علم اجتماع التربية. نالت الدكتوراه في العام 2017، ونشرت الأطروحة في العام 2019. تعمل في قطاع التعليم الرسميّ الأساسيّ منذ العام 1997.