الاستعمار في زمن الانفلونزا: حين حمل الجنرال اللنبي الوباءَ إلى بلادنا!
28-04-2020

 

"إنّ الاحتياجات الحربيّة التي لا هوادةَ فيها تبرِّر المخاطرةَ بانتشار العدوى وما سيرتبط بها من خلق نوعٍ من المرض أكثر ضراوةً" - - آرثور نيوزولم، رئيس الخدمات الطبّيّة البريطانيّة عام 1918

The relentless needs of warfare justify the risks of spreading infection and the associated creation of a more virulent type of disease -- Arthur Newsholme, Britain’s senior medical officer 1918

 

في كتاب The Pandemic Century، يُعيد المؤرِّخُ الطبّيّ مارك هونغسباوم شعارَ "Carry on" الشهير إلى نهايات الحرب العالميّة الأولى، وتحديدًا إلى توصيات رئيس الخدمات الطبيّة في المملكة آنذاك، آرثور نيوزولم، إلى مؤتمر المجمع الملكيّ للطبّ. وفحوى هذا الشعار أنّ من واجب بريطانيا مواصلةَ العمل وتشغيلَ المعامل في خضمّ الحرب الكبرى وأيّامها الحاسمة، "حتى حين يكون هناك خطرٌ على الصحّة والحياة."(1)

أكثرُ من مئة عامٍ مرّت على أكبر جائحةٍ عرفتْها البشريّةُ في القرن العشرين: إنفلونزا العام 1918، أو فيروس H1N1، الذي أصاب بين العاميْن 1918 و1920 حوالى 500 مليون شخص (ثلث سكّان كوكب الأرض آنذاك)، وقَتل ما بين 20 إلى 50 مليونًا منهم خلال أقلّ من 36 شهرًا؛ ما يجعل هذه الإنفلونزا إحدى أكثر الجائحات فتكًا في عموم البشريّة، وفق التاريخ المدوَّن على الأقلّ. وما يزيد من شهرة هذه الإنفلونزا أنّها لم تُلحَظْ عمومًا في البحث العلميّ والتدوين الطبّيّ والتغطية الإعلاميّة خلال عصفِها بالبشريّة. بل إنّ هذا الوباء، الذي نعرِّفه اليوم - خطأً - بـ "الإنفلونزا الإسبانية،" اشتُهِر بعد عقودٍ من حدوثه.

 

أكثرُ من مئة عامٍ مرّت على أكبر جائحةٍ في القرن العشرين

 

لقد ساعدتْ ظروفُ الحرب الكبرى (1914-1918)، أو الحرب العالميّة الأولى كما ستُعرف لاحقًا، في طمس أخبار جائحةٍ عُظمى فَتكتْ خلال أشهرٍ قليلةٍ بكلّ القارات على ثلاث موجاتٍ متتالية. لم تسمح المصلحةُ العسكريّة، وظروفُ التعبئة الإعلاميّة والوطنيّة، بنشر أيّ خبرٍ في أوروبا يُعكِّر الجبهةَ الداخليةّ في بلادها المنخرطةِ في الحرب. لكنّ المملكةَ الإسبانيّة كانت خارج الصراع، ما أعطى صحافتَها هامشًا أوسعَ من الحرية،(3) لتكون صحيفةُ ABC المدريديّة أوّلَ صحيفةٍ تَنشر عنوانًا رئيسًا عن مرضٍ يُشبه الإنفلونزا يَضرب المدينةَ في 22 مايو (أيّار) 1918.(4) بعدها بأيّام، في 28 مايو، انتشر خبرُ إصابة الملك الإسبانيّ ألفونسو الثالث عشر ورئيسُ الحكومة وكاملُ وزرائها، ليتحوّلَ خبرُ المرض الذي يتفشّى بسرعةٍ ويُعطِّل البلادَ إلى مادّةٍ إعلاميّةٍ يوميّة. هذه الإنفلونزا، التي ستُعْرف لاحقًا (ظُلمًا)، بسبب هذه الضجّة الإعلاميّة في إسبانيا، بـ"الإنفلونزا الإسبانيّة" كما قلنا، عُرفتْ سنة 1918 في مدريد باسم "جنديّ نابولي،" نسبةً إلى مقطعٍ غنائيّ، بالعنوان نفسه، في عملٍ أوبراليّ اشتُهر بموسيقاه المُعْدية التي تَعْلق في ذهنِ مَن يسمعها، تمامًا كحدّة عدوى هذا المرض وانتشارِه.

إذًا، لم تكن "الإنفلونزا الإسبانيّة" إسبانيّةً أبدًا. النَّسَب علِق في الأذهان حين أُصيب الملكُ الإسبانيُّ وحكومتُه به وذاع النبأُ عالميًّا. وفي حين عُرف في مدريد بـ"جنديّ نابولي" كما ذكرنا، فقد عُرِف في الجيش الفرنسيّ بـ"المرض 11،" وسمّاه السنغاليّون "المرضَ البرازيليّ،" وسمّاه البرازيليّون "المرضَ الألمانيّ." أمّا البولنديّون، فسمَّوْه تهكّمًا "المرضَ البلشفيّ." وأمّا الفُرس فنسبوه إلى المحتلّين الإنكليز.(5)

مع انتشار خبر الوباء في مدريد، اضطرّت صحافةُ الحلفاء إلى الالتفات إلى موضوع المرض. فنشرتْ Daily Express وDaily Mail البريطانيّتان في مايو (أيّار) 1918 تقريرًا قصيرًا عن "مرضٍ غامضٍ" في مدريد. إلا أنّ BMG، أو المجلّة الطبّيّة البريطانيّة، سارعتْ إلى التهرّب منه، وتجاهلتْه The Lancet تجاهلًا تامًّا.(6) الوباء، الذي قضى في بريطانيا وحدها على ربع مليون مواطن، معظمُهم خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام 1918، عُتِّم على خطرِه في المملكة البريطانيّة، كما في معظم العالم، بقرار. ولعلّ الإجراءاتِ الصحّيّةَ الرسميّةَ القصوى التي اتُّخذتْ في بعض دول العرش البريطانيّ نفسه مثل أستراليا، وفي فرنسا والولايات الأميركية في الفترة ذاتها،(7) يُناقض حجّةَ بعض المبرّرين عن "الجهل العلميّ والسياسيّ بالوباء."

 

لكنْ، لماذا تهمُّنا اليوم الممارساتُ البريطانيّةُ آنذاك؟

أوّلًا، إنّ مراجعةً تاريخيّةً لسلوك صحافة المملكة، وللتعامل الحكوميّ مع وباء الانفلونزا سنة 1918، تُمكّننا بسهولةٍ من أن نطابقَهما مع خطاب رئيس الحكومة البريطانيّ الحاليّ بوريس جونسون خلال محنة كوفيد19. فهذا الخطاب "تحلّى" بروحيّة توصيات نيوزولم إلى مجمع الطبّ الملكيّ سنة 1918: "Keep calm and carry on" (حافِظوا على هدوئكم وواصِلوا العملَ!)

لقد فضّلتْ بريطانيا آنذاك عدمَ الإضاءة على وباءٍ قد يعطِّل العملَ الصناعيَّ أو المشاعرَ الوطنيّة، أو يشوِّش على خطاب الكراهية الإعلاميّ اليوميّ تجاه الأعداء - الألمان، أو يحفِّز على إنهاء العمليّات القتالية ضدّهم بحججٍ إنسانيّة. ومع بداية التغطية الخجولة لأخبار المرض وأعدادِ الإصابات، استمرّ الإنكارُ الصحافيُّ البريطانيّ للخطر العالميّ الداهم: فنشرتْ جريدة The Times في 25 يونيو (حزيران) 1918 مقالًا يروِّج لنظريّة المؤامرة البيولوجيّة الألمانيّة!

التعتيمُ البريطانيّ، وتفضيلُ المصلحة الحربيّة على المصلحة الصحّيّة، لم يقتصرا على أضرار محدودةٍ داخل بريطانيا، التي تكلّفتْ ربعَ مليون وفاة بسبب الانفلونزا، بل يجب أن نتذكّر أن الأمبراطوريّة البريطانيّة كانت تحتلّ مساحةً تترواح بين 23 و25% من برّ خريطة العالم ومساحتِه السياسيّة. وهذا يعني مسؤوليّةَ المملكة عن فاتورةٍ بشريّةٍ هائلةٍ بسبب ذيْنك التعتيم الإخباريّ والتفضيل المصلحيّ. ولعلّ الهند، التي كانت خاضعةً للاحتلال البريطانيّ، وتقدِّر بعضُ المراجع خسائرَها البشريّةَ جرّاء الانفلونزا بـ17 مليون وفاة، دليلٌ دامغٌ على جريمة الاستعمار، حين قرّر أن لا يتحرّكَ ضدّ الوباء كي لا يعطِّل عمليّاتِه الحربيّة!

ثانيًا، لمّا كانت الموجةُ الأولى لإنفلونزا 1918 خفيفةً عمومًا ومحدودةَ الخسائر، فقد خَفتَ الحديثُ (النادرُ أصلًا) عن هذا المرض في الصحافة الإنكليزيّة حتى نهاية آب (أغسطس) 1918، حين هبّت الموجةُ الثانية - والأقسى - التي ستُحْدث أكبرَ الخسائر، وذلك عبر نسخةٍ أكثرَ ضراوةً، متحوِّرةٍ من المرض المجهول، كما توقّع نيوزولم نفسُه سابقًا. وفي 12 أيلول (سبتمبر)، أصيب رئيسُ الحكومة البريطانيّ لويْد جورج بالإنفلونزا، وعانى قبل شفائه.

تشير البياناتُ الطبّيّةُ العسكريّةُ الأميركيّةُ في سبتمبر 1918 إلى تسجيل آلاف الإصابات في معسكرات الحلفاء في فرنسا، خصوصًا بين الجنود الأميركيين الذين يُعتقد اليوم أنّهم حملوا معهم المرضَ. وانتشرت العدوى بين الجنود المتكدِّسين من عموم الدول المُستعمِرة المتحاربة، وانتقلتْ معهم إلى مختلف الجبهات، بل عادت معهم إلى بلادهم لاحقًا بعد انتهاء الحرب. وهو ما يعني أنّ استمرارَ الحملات العسكريّة، خصوصًا في الربع الأخير من العام 1918، قد يكون السببَ الأهمَّ لانتشار الوباء، ولا سيّما في ما يعنينا في هذا المقال: بلادنا.

 

كيف حمل الاستعمارُ "الانفلونزا الإسبانيّةَ" إلى بلادنا؟

في ورقةٍ بحثيّةٍ بعنوان "أثر وباء إنفلونزا 1918 في سوريا الكبرى،"(8) يشير كييل ليند إلى قناة السويْس كمَعْبرٍ استراتيجيّ خلال الحرب الأولى لجنود التاج البريطاني، المجلوبين من الهند باتجاه الغرب الأوروبيّ، أو من أوروبا باتجاه المشرق العربيّ، وكمَدْخلٍ مرجَّحٍ للإنفلونزا إلى مصر وسوريا. ويستند ليند إلى مدوَّنات الكولونيل البريطانيّ كاثكارت غارنر، رئيسِ الخدمات الطبّيّة في "إدارة أراضي العدوّ المحتلّة،" الذي أكّد أنّ "الإنفلونزا الإسبانيّة" جاءت من البحر مع الغُزاة عبر الإسكندريّة، وأنّ جنودَ "قوّة الاستطلاع المصريّة" في جيش الاحتلال البريطانيّ نقلوها إلى المدنيّين المصريّين بحكم احتكاك العسكر البريطانيّ بـ"الفلّاحين" المصريّين الذين كانوا يُستقدَمون للعمل في منشآت الاستعمار. وبحلول تشرين الثاني (نوفمبر) 1918، كانت الإنفلونزا، وفق غارنر، قد "اقتحمتْ كلَّ زاويةٍ ورُكنٍ في مصر."

فهل أدخل الجيشُ البريطانيّ "الإنفلونزا الإسبانيّة" إلى المشرق (فلسطين فسوريا ولبنان ضمنًا)؟

وفق ليند، هذا أمرٌ مؤكّد. وهو يَرْصد أوّلَ ذِكرٍ للـ"إنفلونزا الإسبانيّة" في 15 أيلول (سبتمبر) 1918 في مدوَّنات القنصل الإسبانيّ في القدس، وهو كونت بلديّة بالّوبار، أنطونيو دي لا سييرفا واي ليويثا، الذي يسجِّل ظهورَ المرض في المدينة. وهذا التاريخ يتوافق مع مرحلة بدء حملة الجنرال اللنبي الثانية على فلسطين وسورية انطلاقًا من يافا في 12 أيلول (سبتمبر) 1918 بعد استجلاب الجيوش عبر سكّة الحديد (التي أنشئتْ بين السويس ورفح فالداخل الفلسطينيّ) أو عبر البحر (من الإسكندريّة أو بور سعيد).

 

لم تكن سرعةُ احتلال اللنبي لبلادنا بسبب التفوّق العسكريّ وحده، بل بسبب انتشار الأوبئة أيضًا 

 

استمرّت حملةُ اللنبي الاحتلاليّة حتى 30 تشرين الأوّل (أكتوبر). وخلال حوالى ستة أسابيع، استطاع اللنبي إحكامَ السيطرة على المساحة الممتدّة بين يافا وحلب. ويبدو أنّ هذه السرعة لم تكن بسبب التفوّق العسكريّ وحده، بل أيضًا بسبب انتشار الأوبئة والأمراض وسوء التغذية في منطقة "الأعداء،" أيْ في منطقتنا.

غيابُ التوثيق المحلّيّ لظروف بلادنا خلال جائحة إنفلونزا 1918 قد يكون مفهومًا: فقد عصفتْ الحربُ العالميّةُ ببلادنا بشدّة، وشغَلَها الموتُ بغيرِ طريقةٍ، وحصدت المجاعةُ عشراتِ الآلاف حتى شغلتْ بالَ المؤرِّخين، وكانت الملاريا والكوليرا وجباتٍ يوميّةً في مناطق الأطراف. وتَرافقَ ذلك مع هجرة الطبقة العلميّة - القليلةِ والمحصورةِ في المدن - بحكم الأداء العسكريّ التركيّ القمعيّ، أو بحكم جرِّها إلى جبهات القتال أسوةً بالعسكر.

إنّ كثرةَ أسباب الموت، والجهلَ بطبيعة المرض الجديد، والتعتيمَ الحربيّ الإعلاميّ في صحافة الدول التي احتلّتْ بلادَنا: كلّ ذلك ساعد في غياب توثيق حجم الموت بسبب جائحة العام 1918 في سورية الطبيعيّة. لكنّ ليند يقدِّر أن يكون عددُ ضحايا النصف الثاني من الحرب العالميّة في سورية ولبنان وفلسطين قد بلغ 500 ألف خلال عاميْن فقط (1916-1918)، ضاعت سجلّاتُ مَن قُتل منهم بالجوع أو بالرصاص أو بالمرض الجديد، الذي كان يُشخَّص غالبًا على أنّه ملاريا أو كوليرا أو حُمّى، وذلك بسبب تشابه بعضِ أعراضِه مع هذه الأمراض التي كانت معروفةً سابقًا ومنتشرةً حتى زمنٍ قريب (لبنان مثلًا لم يعلَنْ بلدًا خاليًا من الملاريا حتى العام 1963).(9)

وللتذكير، فإنّ الوباء القاتل آنذاك لم يُعْفِ الهاربين إلى الغربة. فنحن نعرف، من خلال دراسة ليند، أنّ آلافَ المهاجرين السوريين واللبنانيين وافتْهم المنيّةُ بسبب هذا الوباء في شمال أميركا. كما نعرف من كارولين موغليا مثلًا أنّ 91 % من الوَفَيات في الجالية اللبنانيّة في ولاية فيرمونت الأميركيّة سنة 1918 كان بسبب "الإنفلونزا الإسبانيّة"(10) - - وهذا أمرٌ متوقّعٌ لأنّ جلَّ الجالية المغتربة كانوا من الفئة الشبابيّة الأكثر تأثّرًا بالنسخة القاتلة من هذا الوباء. ولعلّ هذا النموذج قد يكون دليلًا على حجم الكارثة، غيرِِ المدوَّنة، التي حلّت بالمجمَّعات البشريّة عمومًا، والعربيّةِ خصوصًا، ودليلًا على فداحة الخسارة المفقودة من تاريخنا المعاصر مع الأوبئة.

 

الإنفلونزا الإسبانيّة في الجزيرة العربيّة وبلاد الشام

في كانون الأوّل (ديسمبر) 1918، وصل المرضُ إلى الجزيرة العربيّة، التي نغل فيها الاحتلالُ الإنكليزيُّ أيضًا، وافدًا بشكلٍ خاصٍّ من مقرّاته في الهند، حيث سجّلتْ مومباي وقوعَ إصاباتٍ في الموجة الأولى في أيّار (مايو) 1918، ثم في الموجة الثانية في أيلول (سبتمبر). في مدينة الرياض الصغيرة آنذاك، نَعْرف من الطبيب الأميركيّ بول هاريسون، الذي استدعاه ابنُ سعود على عجَل، أنّ الإنفلونزا قتلتْ عُشْرَ سكّان المدينة حتى كانون الأوّل (ديسمبر)، وأنّ الجثث كانت تُنقل اثنتيْن اثنتيْن على كلّ دابّةٍ بسبب ارتفاع عدد الوَفَيات يوميًّا. ونعرف أيضًا، بفضل هاريسون،(11) أنّ عبد العزيز آل سعود، المؤسِّس نفسَه، خسر ولدَه البكْرَ تركي الأوّل، ويُرجَّح أنه خسر بالمرض ولدًا آخرَ اسمُه فهد، وزوجةً اسمُها الجوهرة، بسبب "الوافدة الإسبانيوليّة" كما ستُعْرف في التدوين الخليجيّ لاحقًا، وذلك أثناء ما عُرف بـ"سنة الرحمة" (1919) نسبةً إلى كثرة عدد وفَياتها.

لكنّ أثرَ الإنفلونزا الوافدة على الجزيرة العربيّة لم ينحصرْ في الخسائر البشريّة المدنيّة فقط. ففي الشهر نفسه (ديسمبر 1918)، ضربتْ حُمّى غريبةٌ المدينةَ المنوَّرة، حيث تحصَّنَ فخري باشا رافضًا تسليمَ المدينة إلى أعوان الاحتلال الإنكليزيّ. وبعد صمودٍ تاريخيٍّ دام شهورًا، وما يزال الأتراكُ يتباهوْن به إلى اليوم، انهارت آخرُ الحاميات العثمانيّة - - ليس بسبب الحصار في ذاته، بل بسبب تفشّي مرضٍ قَتل 850 جنديًّا من أصل 11000 خلال ذلك الشهر وحده. وفي كانون الثاني (يناير) 1919، مات 450 جنديًّا آخر بسبب الحمّى التي يُرجَّح أنّها الانفلونزا عينُها.(12) فانهارت معنويّاتُ الجنود الأتراك، وسلّم قائدُهم المدينةَ إلى القوّة المحاصِرة.

وبالعودة إلى بلاد الشام، فإنّ من المؤكّد أنّ إنفلونزا العام 1918 كان لها أثرٌ سياسيٌّ غيرُ مباشر أيضًا على بلادنا. فمارك سايكس، أحدُ طرفَي اتفاق سايكس-بيكو، توفّي في غرفة فندقه خلال مفاوضات السلام في فرنسا، فاستُكمل العملُ بالمشروع من دون مهندسه الرئيس. ومن المؤكّد أنّ الفترة الزمنيّة التي اختارها اللنبي للحسم في الشرق كانت خلال الأسابيع الثلاثة عشر الأكثر ضراوةً في الوباء العالميّ (بين سبتمبر وديسمبر 1918)، وخلالها حصد الوباءُ أكثرَ ممّا حصد خلال حرب السنوات الأربع كلِّها.(13) وهو ما يعني أنّ بلادَنا، المجرَّدةَ من أبسط وسائط "الدولة" آنذاك بسبب ظروف الحرب والتجويع والحصار، كان من الطبيعيّ أن تتهاوى صحّيًّا وعمرانيًّا إثر وفود سفن الجنود المصابين بـ"الوافدة الإسبانيوليّة."

 

خاتمة: الصمت... والاستكمال!

هل كانت إنفلونزا 1918 "أثرَ الفراشة" (الذي لا يُرى) في بناء شكل التمدّد الإنكليزيّ والانحسار العثمانيّ السريع عن بلادنا؟ هل كان مشارِكًا ولو "خفيفًا" في مسار الاحتراب في أيّامه الأخيرة، ثم أثناء المفاوضات وتقسيمِ كعكة القرن العشرين تحت رحمة انتشاره؟ هل كان هذا الوباءُ، المنسيُّ في البحث الجدّيّ عالميًّا حتى سبعينيّات القرن العشرين، القشّةَ التي قصمتْ ظهرَ منطقتنا المثقلةِ بالحروب والأمراض وقلّةِ الموارد الطبّيّة والغذائيّة؟

قد تكون الإجابةُ على هذه الأسئلة غيرَ مؤكّدة في ظلّ شحّ الموارد التاريخيّة والمعرفة العلميّة المحلّيّة الضحْلة آنذاك. ولكنّ المواردَ المتوفّرة تؤكّد أنّ الاستعمارَ البريطانيّ اتّخذ عن علمٍ قرارًا بالصمت، وباستكمال نقل مئاتِ آلاف الجنود من جنوب آسيا وجنوب أوروبا باتجاه شمال أفريقيا وغرب آسيا، فحَملوا معهم - فيما حملوا - ما سيُعرف لاحقًا بفيروس H1N1، وهو أكبرُ قاتلٍ بيولوجيّ في تاريخ البشرية عمومًا، وربّما في تاريخنا المحلّيّ أيضًا!

بيروت

 

  1. Luke Mintz, “Coronavirus, Spanish Flu, and the Dark History of 'Keep Calm and Carry On',” The Telegraph, 27 Feb. 2020, https://www.telegraph.co.uk/health-fitness/body/coronavirus-spanish-flu-dark-history-keep-calm-carry-advice/
  2. Centers for Disease Control and Prevention (CDC), “1918 Pandemic (H1N1 virus),” https://www.cdc.gov/flu/pandemic-resources/1918-pandemic-h1n1.html
  3. Ronald G. Shafer, “Spain Hated Being Linked to the Deadly 1918 Flu Pandemic. Trump’s ‘Chinese Virus’ Label Echoes That,” The Washington Post, 23 March 2020. https://www.washingtonpost.com/history/2020/03/23/spanish-flu-chinese-virus-trump/
  4. Antoni Trilla, Guillem Trilla, and Carolyn Daer, “The 1918 “Spanish Flu” in Spain,” Clinical Infectious Diseases, Volume 47, Issue 5, 1 September 2008, https://academic.oup.com/cid/article/47/5/668/296225
  5. Mark Honigsbaum, “Regulating the 1918–19 Pandemic: Flu, Stoicism and the Northcliffe Press,” https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3867839/
  6. “The Naples Soldier and Disease 11,” 28 January 2018, https://www.isegoria.net/2018/01/the-naples-soldier-and-disease-11/
  7. Robert Hume, “Far Too Little, Too Late: What Happened When Spanish Flu Hit Britain a Century Ago?” January 2018 Edition of BBC History Magazinehttps://www.historyextra.com/period/first-world-war/spanish-flu-britain-how-many-died-quarantine-corona-virus-deaths-pandemic/
  8. Kjell Jostein Langfeldt Lind, “The Impact of the 1918 Influenza Pandemic on Greater Syria,” – MA / SOAS - 17 September 2012, https://www.academia.edu/8231875/The_Impact_of_the_1918_Influenza_Pandemic_on_Greater_Syria
  9. Fadi Maassarani, “Will We See Malaria Back in Lebanon?,” 26 May 2016, http://lapsite.org/will-we-see-malaria-back-in-lebanon/
  10. Caroline Muglia, “Spanish Flu Grips Vermont’s Young Lebanese, 1918,” 5 March 2015, https://lebanesestudies.news.chass.ncsu.edu/2015/03/05/spanish-flu-grips-vermonts-young-lebanese-1918/
  11. Alasdair Soussi, “The Spanish Flu Pandemic and its Impact on the Middle East,” The National AE, Feb 2018, https://www.thenational.ae/lifestyle/the-spanish-flu-pandemic-and-its-impact-on-the-middle-east-1.703289
  12. تقرير استخباراتيّ لكيناهان كورنوالّيس، راجع مصدر رقم 8، ص 18.
  13. Toby Saul, “Inside the Swift, Deadly History of the Spanish Flu Pandemic,” National Geographichttps://www.nationalgeographic.com/history/magazine/2018/03-04/history-spanish-flu-pandemic/

 

خضر سلامة

مدوّن لبنانيّ من قرية الدوير في جنوب لبنان. وُلد في العام 1987 في بيروت. أعدّ وقدّم برنامج "#فلسطين_تقاوم" خلال العدوان الإسرائيليّ على غزّة سنة 2014 لرصد الحرب الرقميّة بين المقاومة والعدوّ، فضلًا عن سلسلة "نِت واصل" الإذاعيّة حول الحقوق الرقميّة في الدول العربيّة. نُشر له: أنتظر قوس قزح (بيروت، 2013).