وهل تنتحر الحروف؟
26-04-2020

 

سعلتُ. خرجتْ رئتي اليمنى من فمي كما يخرج جنينٌ من رحمِ أمّه. لم تكن حرارتي عاليةً، إلّا أنّني رحتُ أتعرّقُ بسبب فقداني إحدى رئتيّ. حاولتُ مرارًا ملءَ صدري بالهواء البارد، لكنّي لم أفلحْ. توقّف السائقُ حين رأى رئتي على أرضيّة الحافلة. تدافع الراكبون، كلٌّ يريد أخذَها - - فقد كان لونُها ورديًّا، والورودُ تزيِّن غلافَها الخارجيّ. كانوا يرتدون كمّاماتٍ تقيهم شرَّ الهواء النقيّ. أمّا أنا، فلا أرتدي كمّامةً لأنّي أحتاج إلى إطلاق الشتائم كلّما خرجتُ. فقدتُ في السابق قلبي ثم عقلي، ومنذ ذلك الحين أحاول أن أحافظَ على ما تبقّى من جسدي.

استعدتُ رئتي بعد أن قتلتُ كلَّ الركّاب، بمن فيهم السائق. قتلتُهم من دون عناءٍ يُذكر؛ فقد رميتُ إليهم أوراقًا ماليّةً مكانَ رئتي، فتقاتلوا عليها حتى الموت.

توجّهتُ إلى المقبرة التي سبق أن دفنتُ فيها أجزائي التي فقدتُها. كانت الطريقُ طويلةً، والحافلةُ تعجّ بالجثث. توقّفتُ لشراء علبة سجائر وبعض المأكولات، إلّا أنّ المحلّات كانت مغلقة. قطعتُ إصبعَ شابٍّ كان يمسك عضوَه لأنّ امرأةً جميلةً كانت أمامه، ودخّنتُه. وكي أكبحَ الجوعَ الذي ينتابني، أكلتُ كبدَ شيخٍ أدمنَ الكحولَ منذ عقود.

الطريق نحو المقبرة أشدُّ إقفارًا من المقبرة. أردتُ استغلالَ هذا الوضع للتجوّل في الطرق المزدحمة عادةً. توجّهتُ نحو الساعة التي تزيِّن الشارعَ الأكبرَ في العاصمة. كانت عقاربُها قد سقطتْ وانغرستْ في جمجمة رجلٍ يمتطي حصانًا ويلقي تحيّةً بلهاء. حاولتُ أن أساعدَه بانتزاع العقارب، إلّا أني اقتلعتُ رأسَه. حملتُه إلى آخر الشارع تقريبًا، حيث ينتصب رجلٌ آخر قُطع رأسُه أيضًا ووُضِع مكانَه كتابٌ كبير. وضعتُ الرأسَ بين يديه فوق الكتاب القديم. تطايرتْ حروفٌ كثيرةٌ من الكتاب نحو المسرح والحانات ودُور الثقافة التي تملأ هذه العاصمةَ الكئيبة. من الغريب أنّ الكنيسة لم يتوجّهْ نحوها أيُّ حرف. المطاعم والمقاهي والمتاجر والبنوك والسفارات كانت، هي أيضًا، خاليةً من الحروف. بعد دقائق، توجّه آخرُ حرف، وهو الـ "ك،" نحوي وقبّلني، ثم انتحر أمامي، وفُصلت الهمزةُ عن جسده.

لم يمضِ على وفاة صديقي الـ "ك" غيرُ ثوانٍ حتى بدأت الجثثُ من الحافلة تزحف نحو الأماكن التي تحوي حروفًا وأرقامًا. أخذ زحفُها يخلِّف دمًا وقيئًا وسوائلَ لزجةً وروائحَ كريهة. تحاول الجثث، بكلِّ ما تبقى لها من موت، أن تصل إلى مكانٍ آهلٍ بالحروف. فما إنْ تلمس أحدَ الجدران حتى تعود إليها الروحُ. جثثٌ كثيرةٌ بدأتْ تتوافد نحو الشارع الرئيس زحفًا، مخلّفةً أطنانًا من الموادّ الكريهة والديدان الصغيرة. كلّما لمستْ جدارًا يحتوي حرفًا تحوّلتْ إلى إنسان. كلُّ متساكني هذه الأرض تجمّعوا في شوارع العاصمة وتوجّهوا نحو المباني التي توشّمها الحروف. عادت الحياةُ الطبيعيّة، وعاد البشرُ إلى طبيعتهم، إلّا أنهم خلّفوا وراءهم كمًّا هائلًا من القاذورات والديدان والدماء والجثث التي لم تستطع الوصولَ إلى حروف النجاة ومنازلها.

حملتُ صديقي "ك" لأرميَه في ماء البحر. نزعتُ كلَّ ملابسي، وخضتُ فيه بخطواتٍ ثابتةٍ، إلى أن تجاوزَ الماءُ رأسي. كلُّ الحروف التي انتحرتْ واختارت ألّا تكون زينةً لمبانٍ تُنقذ البشرَ وجدتُها هناك، تسبح في سكونٍ جميل.

بدأ الماءُ بالدخول من فمي ليملأ بطني ورئتي اليسرى ويأخذَ مكان رئتي اليمنى. انزلق صديقي "ك" من فمي نحو حلقي، واستقرّ مكانَ قلبي الذي سبق أن فقدتُه. انزلق حرف "ن" أيضًا. وكان آخر الداخلين حرف "ت."

بعد أن متُّ غرقًا، تحلّل جسدي، ولم يبقَ سوى كلمة واحدة: " كنت".

تونس

صابر المنتصر

كاتب وناشط تونسيّ.