من فلسطين المحتلة إلى رئيس المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا*
01-07-2020

 

ترجمة: رفقة العمية

عزيزي رئيس المحكمة الدستوريّة في جنوب أفريقيا الدكتور موغوينغ موغوينغ،

مُحدّثكَ حيدر عيد. أعملُ أستاذًا جامعيًّا. أكتبُ إليكَ هذه الرسالةَ من غزّة المحاصرة في فلسطين المحتلّة. وللصدفة، فإنّني أحملُ الجنسيّةَ الجنوبأفريقيّةَ أيضًا، إذ قضيتُ سبعَ سنوات هناك. وكنتُ قد حصلتُ على درجة الدكتوراه من جامعة جوهانسبرغ، التي عملتُ فيها أيضًا. كما عملتُ في جامعة فيستا في سويتو.

أكتبُ إليك هذه الرسالة بعد أن شاهدتُ الندوةَ السيّئةَ السمعةِ التي نظّمتْها الصحيفةُ الإسرائيليّة اليمينيّة جيروسالِم بوست في 23 حزيران/يونيو، وفيها عبّرتَ عن دعمِك لنظام الأبارثهيد الإسرائيليّ، مستشهدًا بالكتاب المقدَّس. وقد أصابني الرعبُ من قراءتها، فضلًا عن رعبنا هنا، في فلسطين، حيث نقاتلُ من أجل بقائنا فقط، جرّاءَ سياسات إسرائيل العنصريّة. لم تقلْ أيَّ كلمةِ تعاطفٍ مع الضحايا، مع النساء والأطفالِ الفلسطينيّين المضطهَدين. بل ذهبتَ أبعدَ من ذلك؛ فعن طريق لوْمِ الضحيّة، طلبتَ من حكومتك، حكومةِ جنوب افريقيا ما بعد الأبارثهيد، أن تَدعمَ "إسرائيل"! ويعود ذلك، كما تقول، إلى "أنك مُلزَمٌ، كمسيحيّ، بأن تحبَّ إسرائيل، وأن تصلّيَ من أجل سلام القدس ، وهو ما يعني في الواقع سلامَ إسرائيل." وتُكْمل: "لا أستطيع، كمسيحيّ، أن أفعلَ أيَّ شيءٍ آخر غيرَ الحبّ والصلاة من أجل إسرائيل، لأنّني أعرفُ أنّ كراهيتي لإسرائيل وكراهية وطني لإسرائيل لا تمْكن إلّا أن تجلبَ اللعناتِ غيرَ المسبوقة على أمّتنا."

إذ نقرأ هذه الكلمات، فإنّه لا يسعُنا إلّا التساؤلُ عمّا إذا كان الرجلُ الذي نطق بها أخًا أسودَ من جنوبِ أفريقيا؛ البلدِ الذي تعلّمْنا منه دروسًا في مكافحة جميع أشكال العنصريّة والإقصائيّة، بلدِ نيلسون مانديلا وستيف بيكو وديزموند توتو على سبيل المثال لا الحصر - - وهم بعضُ الأبطال المناهضين للفصل العنصريّ، وتعرفهم بيوتٌ فلسطينيّةٌ كثيرة.

اسمحْ لي أن أقولَ، مع احترامي، إنّ تصريحاتِكَ تنمُّ عن جهلٍ كامل. وهي تأتي من رجلٍ يُفترض أنّه لا يَعرف الفصلَ العنصريَّ فحسب، بل يعرف مفاهيمَ العدالة أيضًا. فالعدالة هي الكلمة التي ترتبط باسمِكَ، سيّدي، كرئيس قضاةِ أعلى محكمةٍ في جمهوريّة جنوب أفريقيا.

أكتبُ إليكَ من أكبرِ سجنٍ مفتوحٍ على سطح الكرة الأرضيّة، من تحت حصارٍ قروسطيّ مروِّع. حدودُنا البريّةُ والجوّيّةُ والبحريّةُ يسيطر عليها، ويحاصرُها، رابعُ أقوى جيشٍ في العالم، هو جيشُ الدولة التي قرّرتَ أن تدعمَها. وقد عانيتُ شخصيًّا، بشكلٍ مباشرٍ، هجماتِ إسرائيل وجرائمَ الإبادة الجماعيّة المخطَّط لها بشكلٍ تدريجيّ في غزّة في الأعوام 2009 و2012 و2014، وأودت بحياة أكثر من 4000 شخص، بمن في ذلك أكثرُ من 1500 طفل - - وهي جرائمُ حربٍ مذكورةٌ في تقرير غولدستون للأمم المتحدة.

في يوليو 2008، قام وفدٌ من حزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ، وضمنَه أعضاء سابقون في "حركة الوعي الأسود،" بزيارة فلسطين المحتلّة. وخلصوا بالإجماع إلى أنّ معاملةَ "إسرائيل" للفلسطينيّين أسوأُ بكثيرٍ من سياسة نظام الأبارثهيد في جنوب أفريقيا. وقال السياسيُّ ونائبُ وزير الصحّة السابق، نوزوي مادالالا روتليدج: "ما أراه هنا هو أسوأُ ممّا شهدناه: السيطرةُ المطلقة على حياة الناس، وغيابُ حريّة الحركة، ووجودُ الجيش في كلّ مكان، والانفصالُ التامّ، والدمارُ الممتدُّ بشكلٍ واسعِ النطاق. كما يُستخدم الدينُ هنا لتعزيز الإيديولوجيا العنصريّة، وهذا ما لم يكن كذلك في جنوب أفريقيا [نفسها]." وقال محرِّرُ صحيفة صنداي تايمز، موندلي ماخانيا: "إنه أسوأ، أسوأ، أسوأ من كلِّ ما عانيناه! مستوى الفصل العنصريّ والعنصريّة والوحشيّة أسوأُ من أسوإ فترةٍ من عهد الأبارثهيد!"

إنّ ظهورَكَ في ندوة جيروسالم بوست يعني أنّكَ قرّرتَ أن تديرَ ظهرَكَ لنا، نحن الفلسطينيّين الذين عانيْنا أكثرَ من 71 عامًا سياساتِ الفصل العنصريّ والتطهيرِ العرقيّ الإسرائيليّةَ المروِّعة. إنّه أيضًا، واسمحْ لي أن أقول ذلك، مثالٌ مأساويٌّ على الذاكرةِ القصيرةِ للأشخاص الذين ظلمهم القمعُ العنصريُّ في الماضي وذاقوا مرارةَ الاضطهاد والتمييز.

 

بدلًا من أن تُظْهر التضامنَ مع المسجونين، وقفتَ مع دولة الفصل العنصريّ "إسرائيل"

 

لقد سمعنا أنّكَ شاركتَ في "حركة الوعي الأسود" في الثمانينيّات من القرن الماضي، فماذا حدث لروح المقاومة الآن؟ وما الذي يمكن أن يكون أكثرَ سلميّةً من مقاطعة دولة استعمارٍ استيطانيّ، وسيلةً لمحاربة الظلم والاضطهاد؟ لقد وصف المقرِّرُ الخاصُّ السابق للأمم المتحدة، جون دوغارد، الحالةَ الإسرائيليّةَ بأنّها "الحالةُ المتبقّيةُ الوحيدةُ من هذا النوع من التمييز العنصريّ بعد جنوب أفريقيا، يمارسه نظامٌ مرتبطٌ بالغرب، يُنْكر حقَّ تقرير المصير وحقوقَ الإنسان لشعبٍ أصلانيٍّ منذ فترةٍ طويلة."

حضرةَ رئيس القضاة،

إنْ لم تكن تعرف، فإنّنا، نحن الفلسطينيين، "المجموعةُ العرقيّةُ" غيرُ المرغوبِ فيها لدى نظام الأبارثهيد الإسرائيليّ. ونحن ضحايا ما وصفه الأكاديميُّ والمؤرِّخُ الإسرائيليّ إيلان بابِه بأنّه "إبادةٌ جماعيّةٌ متدرّجة." أمّا الباقون في الأراضي البانتوستانيّة الصغيرة التي لم تطردْهم منها "إسرائيلُ" بعدُ، فهم يواجهون الاحتلالَ، والهجماتِ العسكريّةَ، ومضايقاتِ المستوطنين المستمرّةَ، والتمييزَ العنصريَّ الذي يرجِّع أسوأَ سماتِ الأبارثهيد. ولا يزال معظمُ اللاجئين الفلسطينيين، البالغ عددُهم 7 ملايين لاجئ في جميع أنحاء العالم، يسكنون في "غيتوهات" مخيّمات اللاجئين البائسة، التي تذكّرنا بالمعسكرات السوداءِ والملوَّنة، محرومين حقَّ العودة إلى أراضيهم، في انتهاكٍ كاملٍ لقرار الأمم المتّحدة رقم 194، الذي ينصّ على حقّهم في العودة إلى ديارهم.

لا بدّ أنّكَ عرفتَ كلَّ ذلك، يا حضرةَ رئيس القضاة، عندما قرّرتَ أن تشاركَ في هذا اللقاء. لكنْ، بدلًا من أن تُظْهر التضامنَ مع المسجونين الذين لا صوتَ لهم، وقفتَ مع دولة الفصل العنصريّ "إسرائيل" - - وهي كذلك فعلًا بحكم تعريفها: إنّها دولةُ أبارثهيد، لا دولةُ مواطنيها؛ دولةُ اليهود الذين وُلِدوا لأمّهاتٍ يهوديّاتٍ فقط.

كما أودُّ لفتَ نظرك إلى الشريحة المسيحيّة من السكّان الأصليّين، ماذا عنهم؟ إنّهم إمّا تحت الاحتلال العسكريّ المباشر، أو مواطنون من الدرجة الثالثة في الدولة التي لا ترغب في وجودهم! ألا يذكرّك هذا بشيء، يا دكتور موغوينغ؟

أتفضِّلُ دعمَ مَن أهانوا أمّهاتِنا الفلسطينيّات على نقاط التفتيش في الضفّة الغربيّة، وألقوْا بالقنابل والفوسفورِ الأبيضِ على سكّاننا المدنيّين في غزّة، وجرفوا قُرانا وبساتينَ الزيتون والأراضي الزراعيّة منذ تأسيس دولتهم على أنقاض بيوت اللاجئين الفلسطينيين ومزارعهم عام 1948؟ الحقيقة أنّ "إسرائيل" انتهكتْ قرارات الأمم المتحدة أكثر من أيّ دولةٍ أخرى.

كنّا نتوقّع منكَ دعمَ "نداء المقاطعة" الذي أصدرتْه، سنة 2005، مئة وإحدى وسبعون منظّمةَ مجتمع مدنيّ فلسطينيّة تدعو فيه إلى "مقاطعةِ إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها" (BDS) حتى تمتثلَ إلى القانون الدوليّ والمبادئ العالميّة لحقوق الإنسان… إلّا إذا كانت لديك مشكلةٌ في هذا التكتيك المستوحَى من نضال إخواننا وأخواتنا السود في جنوب أفريقيا! وكما استُخدِمت المقاطعةُ أسلوبًا نضاليًّا بنجاحٍ ضدّ نظام الأبارثهيد في جنوب إفريقيا، فإنّها آليّةٌ حيويّةٌ أيضًا لمحاسبة "إسرائيل" على الجرائم التي طالما منحها المجتمعُ الدوليُّ الحصانةَ لفترةٍ طويلة.

نحن نحثُّكَ على الوقوف على الضفّة الصحيحة من التاريخ. وتذكَّرْ عددَ الذين دافعوا عن جنوب أفريقيا عندما لم يكن من المألوف القيامُ بذلك. وكما قال الأسقف ديزموند توتو، المُدافعُ عن المقاطعة، "أنا لا أتعبُ من الحديث عن الكرب الشديد في زياراتي للأرض المقدَّسة. يذكّرونني كثيرًا بما حدث لنا، نحن السود في جنوب أفريقيا. لقد رأيتُ إذلالَ الفلسطينيين عند نقاط التفتيش وحواجزِ الطرق، كما عانينا عندما منعَنا ضبّاطُ الشرطة البِيض من التحرّك. قلبي يؤلمني. أقول، لماذا تكونُ ذاكرتُنا قصيرةً جدًّا؟"

لماذا ذاكرتُكَ قصيرةٌ جدًّا، حضرةَ رئيس القضاة؟

غزّة (فلسطين)

 

* الرسالة الأصلية في تايمز لايفhttps://www.timeslive.co.za/ideas/2020-06-28-in-full-an-open-letter-from-palestine-to-chief-justice-of-sa-mogoeng-mogoeng/?utm_medium=Social&utm_source=Facebook&fbclid=IwAR0Gn99E8T9D-ausDZHgwKgiKQ-XQdyOC2y9JmsYAYjCZtV00X8WvsPPKck#Echobox=1593346941

حيدر عيد

عضو "الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل." مستشار سياساتيّ في "شبكة السياسات الفلسطينيّة" (الشبكة). أستاذ جامعيّ في جامعة الأقصى، غزة. مؤلّف كتاب:

    Worlding (post) Modernism: Interpretive Possibilities of Critical Theory