لعنة القرن وقلبُ الطاولة!
06-02-2020

 

قد يلخِّص ما صرّح به جاريد كوشنر، الذي يروَّج أنّه واضعُ الخطوط العريضة لِما يسمّى "صفقة القرن،" من أنّه قرأ 25 كتابًا عن "الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ" جوهرَ هذه العملية التصفويّة. فالرجل صهيونيُّ التربية، أمريكيُّ المولد، يمينيُّ الهوى، عنصريُّ النزعة، وأقربُ الرجال - حرْفيًّا ومجازيًّا - إلى صاحب الكلمة في البيت الأبيض. فما الذي يمكن أن يقدِّمَه سليلُ المستعمِرين البيض إلى سكّان فلسطين العرب غيرَ ما قدّمه أولئك المستعمِرون إلى سكّان أمريكا الأصلانيين؟

الإبادة... ولكنْ بشكلٍ مختلفٍ عمّا قام به أجدادُه ابتداءً من كريستوفر كولومبوس!

هذا هو جوهرُ "الصفقة" التي عُقدتْ بين رجليْن أبيضيْن يمثِّلان الاستعمارَ الاستيطانيّ في كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكيّة وربيبتها "إسرائيل." إنّها صفقة تجاريّة بين رأسماليّيْن يمثِّلان مصالحَ الطبقات المهيمنة في بلديْهما، في محاولةٍ لرسم الخطوط العريضة لروايةٍ بدأ فصلُها الأوّلُ رسميًّا بإعلان وعد بلفور سنة 1917. فكأنّ التاريخ يعيد نفسَه تراجيديًّا وهزليًّا معًا.

 والحقيقة أنّ أيّ قراءةٍ موضوعيّةٍ للخطّة المنشورة تقود إلى أوجه التشابه، لا الاختلاف، مع ما سبق توقيعُه - - من كامب ديفيد (1979) إلى أوسلو (1993). أيْ إنّ "الصفقة" لم تشكّل انفصالًا كاملًا عن الاتفاقيّات المبرَمة مع دولة الاحتلال والأبارثهيد والاستعمار الاستيطانيّ، كما يدّعي أصحابُ "حلّ الدولتين" (العنصريّ)، وأصحابُ اتفاقيّاتِ أوسلو، التي سمّاها الراحلُ الكبير إدوارد سعيد "نكبةً ثانية،" وإنّما هي تتويجٌ لتلك الاتفاقيات السابقة، وتكريسٌ لواقعٍ استعماريٍّ مفروضٍ على الأرض: دولة واحدة بين البحر المتوسّط ونهر الأردن، اسمُها "إسرائيل."  

إذًا، لكي نفهمَ "الصفقةَ" حقَّ الفهم، علينا الرجوعُ إلى اتفاقيّات أوسلو، التي لم تكن هي أيضًا قطيعةً مع التاريخ الذي سبقها، بل كانت تنبع من سياقٍ معيّنٍ ونهجٍ محدّدٍ متّبعٍ منذ فترةٍ ليست بالقصيرة. وفي تلك الفترة يبرز العامُ 1993 نقطةَ تحوّلٍ نحو عمليّةٍ تراكميّةٍ أدّتْ إلى ما وصلنا إليه اليوم من وقاحةٍ استعماريّةٍ تسعى إلى التخلّص من القضيّة الفلسطينيّة بالكامل.

ما نشهده منذ العام 1993 هو نهجٌ كان يتنامى بشكلٍ متصاعد؛ نهجٌ أودُّ أنْ أطلقَ عليه اسم "أسْلوة" [من أوسلو]. وهو يتميّز بفسادٍ مطلق، وبـ"أنجزةٍ" [من NGOs]، وبتخلٍّ عن الشعارات الثوريّة التغييريّة التي كانت سائدةً في مرحلة الستينيّات والسبعينيّات والثمانينيّات، بالإضافة إلى نموّ خرافةِ ما يسمَّى "حلّ الدولتين" بأيّ ثمنٍ كان. ما يثير القلقَ، من خلال متابعةٍ دقيقةٍ لتصريحات العديد من القيادات الفلسطينيّة، أنّ الهدف الرئيس للنضال الفلسطينيّ تحوّلَ إلى إقامة دولة فلسطينيّة "مستقلّة" على 22% من أرض فلسطين التاريخيّة، بغضِّ النظر عن شكل هذه الدولة ومضمونها. ولم يَسلمْ من هذا التفكير بعضُ اليسار الستالينيّ، الذي خضع، هو الآخر، لعمليّة "أسْلوةٍ وأنجزة" أفرغتْه من مضمونه الثوريّ التغييريّ.

 

ما نشهده منذ العام 1993 هو نهجٌ كان يتنامى بشكلٍ متصاعد

 

لكي نفهم اتفاقيّاتِ أوسلو والخرابَ الهائلَ الذي سبّبتْه للقضيّة الفلسطينيّة إلى حدّ تحويلها من "نضالٍ من أجل التحرير وتقرير المصير" إلى قضيّة "إحسانٍ" مطروحةٍ على موائد "الرباعيّة الدوليّة،" ونظيرتها العربيّة، وعلى أجندات البنك الدوليّ والبيت الأبيض، فإنّه يتحتّم علينا أنْ نحاولَ فهمَ السياق الذي أحاط بما يُسمّى "عمليّة السلام،" أو ما أطلق عليه بعضُ المفكّرين النقديين، مثل إدوارد سعيد ونومْ تشومسكي، "صناعة السلام." فهذا الفهم سيشكّل، بلا شكَّ، خطوةً غايةً في الأهمّيّة نحو فهمٍ نقديٍّ خلّاق لعمليّة "الأسْلوَة" التي مرَّتْ بها فلسطين، وتُوِّجتْ بانقسامٍ أفقيٍّ وعموديٍّ بين شطرَي "الوطن"- البانتوستان، ووضعتْنا الآن في مأزقٍ تاريخيٍّ غيرِ مسبوق.

لقد قامت أوسلو، بكلّ بساطة، بإنكار وجود الشعب الفلسطينيّ كشعب. بمعنًى آخر، منحتْ هذه الاتفاقيّاتُ الصهيونيّةَ خدمةً غيرَ مسبوقة إذا  قُرئتْ في سياق مقولة غولدا مائير الشهيرة عن "عدم وجود شيء اسمُه شعب فلسطينيّ."

إنّ السلام الأوسلويّ ما هو إلّا خرافةٌ عَشَّشتْ في عقولِ مَن وقّعوا هذه الاتفاقيّات، التي كانت محصّلتُها حروبَ إبادةٍ همجيَّة على غزّة، بعد تحويلها إلى "معسكر اعتقال" (على ما وصفها العديدُ من منظّمات حقوق الإنسان). لم يكن من الممكن أنْ يحصل ذلك لولا هذه الاتفاقيّات، التي أعطت الانطباعَ الخاطئ أنّ هناك طرفيْن متساوييْن في القوّة... بل في الحقّ أيضًا!

ومع ذلك فإنّ هذه الاتفاقيّات لم تؤدِّ إلى إقامة دولةٍ فلسطينيّة على 22% من أرض فلسطين التاريخيّة، كما وُعدْنا، ولا إلى عودة اللاجئين الفلسطينيّين، تبعًا لقرار الأمم المتحدة 194، ولا حتى إلى إزالة المستعمرات الصهيونيّة.

والآن، واستنادًا إلى القبول الفلسطينيّ الرسميّ بهذه الشروط، قرّرتْ كلٌّ من الولايات المتّحدة والكيان الصهيونيّ طرحَ "الصفقة" التصفوويّة و"السماح" بإقامةِ ما هو أقلّ من بانتوستان على أجزاءٍ من  الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. ويا له من كيان غريب الشكل والمضمون!

إنّ انتصارات "إسرائيل" في عدّة حروب، وحصولَها على اعتراف فلسطينيّ وعربيّ ودوليّ بـ"حقّها" في ممارسة سياستها كدولة استعمار استيطانيّ، شجّعتْها على الدخول في مرحلةٍ جديدةٍ تتميّز بتشكيل وعي جديد لدى الشعب الفلسطينيّ الخاضع للاحتلال. وهنا بالضبط يكمن خطرُ أوسلو  و"الصفقة" الوجوديّة.

إنّ عمليّة "الأسلوَة" في هذا الإطار الصهيونيّ الجديد تعني خلقَ خطاب إيديولوجيّ جديد يؤدّي إلى إزاحةٍ كاملةٍ لوعي "الآخر" (ابن البلد الأصليّ)، وإلى إحلالِ عقليّةٍ أحاديّة الجانب محلّه، من خلال خلق خرافةٍ أسطوريّةٍ جديدة، ودائمةِ الانزلاق، ولا يمكن تحقيقُها، على نمط "حلّ الدولتين."

إنّ العمل على خلقِ ما أسماه رئيسُ وزراء السلطة الوطنيّة الأسبق، سلام فياض، "الفلسطينيَّ الجديدَ،" المُدافعَ باستماتةٍ عن "حلّ الدولتين،" هو في الوقت نفسه محاولةٌ لخلق وعيٍ زائفٍ توجِّهه "إنتلجنتسيا" جرى تهجينُها في إطار الخطاب الأوسلويّ. هذه الإنتلجنتسيا تتميَّز بسجلٍّ أو ماضٍ ثوريٍّ، تمّ تطويعُه من خلال عمليّة متشابكة من الأسْلوة والأنجزة. وهكذا تصبح شعاراتٌ مثل "حلّ الدولتين" و"دولتين لشعبين" و"العودة إلى حدود 67،" بل ما تطرحه حركةُ حماس الإسلامويّة أيضًا من "هدنة لمدّة 10 أو 20 عامًّا،" تعبيرًا عن نهجٍ يَضمن رضوخَ الفلسطينيّين، أصحابِ الأرض الأصلانيين. وفي حمّى هذه الشعارات الزائفة، التي تتردّد بطريقةٍ روبوتيّةٍ وببغاويّة، يجري غضُّ النظر عن حقّ عودة 7 ملايين لاجئ، وعن تعويضهم، وعن الحقوق الثقافيّة والقوميّة لأكثر من 1.4 مليون فلسطينيّ يعامَلون مواطني درجة ثالثة في فلسطين المحتلّة عام 48.

 

العمل على خلقِ "الفلسطينيّ الجديد" هو محاولة لخلق وعي زائف

 

لا شكّ في أنّ الصهيونيّة ستناور على أساس أنّ "الصفقة"  أكبرُ "تضحية وتنازل" قُدِّما إلى "الآخر" الفلسطينيّ بعد نفي وجوده لأكثر من قرن، وبعد أنْ أثبت هذا الآخرُ أنّه إنسانٌ "جديرٌ" باعتراف السيّد الأبيض. ولكنْ، لضمان استمراريّة المشروع الصهيونيّ في فلسطين، يجب احتواءُ هذا الآخر واستعبادُه بطريقةٍ لا يعي فيها أنّه مُستعبَد! وهذا ما يبرِّر منحَ مناطق "حكم ذاتيّ إداريّ" في أكثر المدن الفلسطينيّة اكتظاظًا بأبناء البلد.

إنّ رفعَ العلم الفلسطينيّ، وعزفَ النشيد الوطنيّ، وفرشَ البساط الأحمر، وتسميةَ أجزاء من الضفة الغربيّة المقسّمة باسم "فلسطين،"... كلّ ذلك يعني أمرًا واحدًا: العبوديّة... لكنْ بموافقة "عبد المنزل" ومشاركته في الدفاع عن السيِّد الأبيض! هذا هو المطلوب من الفلسطينيّ الآن.

 

المطلوب لمواجهة الصفقة

هناك شروطٌ رئيسةٌ مطلوبٌ توفّرُها فلسطينيًّا لتمكين المواجهة الخلّاقة مِن فرض نفسها. وهذه الشروط تبدأ بالوفاء لكلّ القيم الوطنيّة الأصيلة، لا لجزءٍ منها فقط، من خلال التصدّي بشكلٍ لا لبسَ به للصهيونيّة ولمشروعِ الاستعمار الاستيطانيّ المقام على أنقاض الشعب الفلسطينيّ. وذلك يتطلّب ما يأتي:

- محاربةَ كلَّ أشكال التطبيع.

- التخلّي عن خرافة "المرحليّة،" وذلك يبدأ بالتخلّص من صنميّة "الاستقلال."

- الدفاع عن كلِّ مكوِّنات الشعب الفلسطينيّ الثلاثة (48، 67، شتات)، وعدم تفضيل مكوِّنٍ على آخر.

- تطوير أساليب مقاومةٍ تأخذ في الاعتبار كلَّ قوى الشعب الفلسطينيّ وقطاعاته.

- إعادةَ تقويم العلاقة مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة على أسسٍ تأخذ في الحسبان التحالفاتِ المقطعيّةَ التي بنتْها حركةُ المقاطعة مع السود والحركات النسويّة واليهودِ التقدميّين والحركات الطلّابيّة.. إلخ.

وعليه، فإنّنا إنْ أردنا أنْ نصبح قوّةً فعّالةً قادرةً على تحدّي المرحلة التصفويّة التي تمرّ بها القضيّة، فيجب أنْ نبدأ بدراسة خارطة تحالفاتنا، عربيًّا وأمميًّا، على أسسٍ تحرّريّةٍ وتقدّميّة. وفي هذا المجال يجدر أن نأخذ في الاعتبار الدراسةَ التي أصدرها مركزُ أبحاث الأمن القوميّ الإسرائيليّ حديثًا عن قيام جيش الاحتلال الإسرائيليّ بتطبيق استراتيجيّةٍ تهدف إلى التأثير في الوعي الجمعيّ للشعوب العربيّة لإقناعها بقبول شرعيّة "إسرائيل،" وذلك بعد تضعضع هذه الشرعيّة على صعيد المجتمع المدنيّ الدوليّ، وبعد الامتداد المتنامي لحركة المقاطعة الفلسطينيّة.

باختصار، المطلوب  شحذُ كلّ الهمم في دعم/تطوير حركة المقاطعة العالميّة (BDS) والمقاومة الشعبيّة، والإعلانُ الواضح عن التخلّي عن سراب "حلّ الدولتين" العنصريّ (خصوصًا أنّ أوسلو ومُلحَقاتِها، من "تنسيق أمنيّ" ومفاوضات وبروتوكولات، أصبحتْ من الماضي!)، والانتقالُ إلى مرحلة المطالبة بدولة ديمقراطيّة على كامل التراب الفلسطينيّ - - دولةٍ لكلِّ سكّانها، بغضِّ النظر عن الدين والعِرق والجنس. وهذا بالضّبط ما تعنيه المطالبةُ بقلب الطاولة بشكلٍ يتناسب مع الخطر الوجوديّ الذي تشكّله لعنةُ القرن!

غزّة

حيدر عيد

عضو "الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل." مستشار سياساتيّ في "شبكة السياسات الفلسطينيّة" (الشبكة). أستاذ جامعيّ في جامعة الأقصى، غزة. مؤلّف كتاب:

    Worlding (post) Modernism: Interpretive Possibilities of Critical Theory