من الذاكرة المنسيّة: توثيق اللوحات الدلاليّة في مدينة اللاذقيّة
17-07-2017

 

 

تموت المدنُ كما يموت ساكنوها: هذه حالُ اللاذقيّة اليوم. فهي مدينةٌ تَفقد كلَّ يوم مقوِّماتِ العيش، وترزح تحت تراكماتِ الفوضى والفسادِ والإهمال. مدينةٌ تقع على شاطئ البحر، ولكنّها لا تمسُّ مياهَه. مدينة ساحليّة سياحيّة، ولكنْ يَسكنها رُهابُ الغرباء وكراهيةُ الأقرباء. لقد ابتعدتِ اللاذقيّةُ عن بحرها، فتصحّرتْ وجفّت، وجفّت معها وجوهُ أهليها وأطباعُهم. ولئن شاع في ثقافة اللاذقيّة الشعبيّة تعبير: "رحْ بلِّطِ البحر" للتعبير عن التحدّي، فبإمكان اللاذقيّة أن تَفْخر بين الأمم بأنّها بلّطت البحرَ من دون أن يرفَّ لها جفن؛ لتخسرَ بذلك واجهتَها البحريّةَ، وكورنيشَها التقليديَّ، لحساب مرفأٍ مَنَحَ المدينةَ مزيدًا من القبح والتلوّثِ والضجيجِ والاختناقاتِ المروريّة!

وبعد أن بلّطت اللاذقيّةُ البحرَ، استساغت تحدّي المستحيل؛ فلم تُبْقِ مساحةً خضراءَ، أو مبنًى أثريًّا، إلّا "وبلّطتْهما." أمّا دائرةُ حماية المدينة القديمة فقد أصبحتْ مجرّدَ نكتةٍ سمجة. اللاذقيّة اليوم مدينةٌ لا هويّةٌ لها ولا طابع: مجرّدُ كتلةٍ متنافرةٍ من الإسمنت والضجيج والأوساخ، في مثالٍ صارخٍ عن المدينة الفاشلة عمرانيًّا ومدينيًّا ومجتمعيًّا؛ وهي التي كانت، يومًا، مدينةً متوسّطيّةً صغيرةً تشبه الكثيرَ غيرَها من البلدات والمدن على امتداد البحر المتوسّط، بصيّاديها ومقاهيها ومينائها وأزقّتها وبيوتِها الحجريّة وأسواقِها ودكاكينِها ومُناخها. لم تكن يومًا مدينةً مثاليّةً أو متكاملة، ولكنّها امتلكتْ إمكانيّاتٍ كامنةً كي تصبح كذلك، قبل أن ينالَ منها "التطوّرُ" (العكسيّ) الذي حولّها إلى مباءة إخفاقٍ تلو الآخر، وتشوّهٍ لا يدانيه مثيل.

على مرّ السنوات، شهدنا ــــ بحزنٍ ــــ اختفاءَ الكثير من معالم المدينة. اللاذقيّة اليوم مجرّدُ نسخةٍ مشوَّهةٍ عن تلك التي عشتُ فيها طفولتي ومراهقتي. ولمّا كان التصويرُ الفوتوغرافيُّ شغفي الخاصَّ، فقد أردتُ على الدوام ــــ شأن العديد من أبناء هذه المدينة المنهَكة ــــ أن أوثّقَ ما تيسّرَ لي من جوانب الحياة والنشاطِ البشريّ فيها، وأن أبحثَ في عمق وجودها وعمرِها قدر المستطاع.*

تفخر جميعُ المطبوعات الترويجيّة والتوثيقيّة التي تتناول اللاذقيّةَ بتاريخها الحافل والطويل، وبكونها واحدةً من أقدم المدن السوريّة. ولكنْ، مَن ينظر إلى اللاذقيّة اليوم لن يرى سوى شبهِ مدينة، قد لا يتجاوز عمرُ شوارعها وأبنيتها الثلاثين عامًا. من هنا عزمتُ على البدء بمشروع توثيقٍ فوتوغرافيّ لمدينتي الأمّ، عبر رؤيةٍ مختلفةٍ لناحية غير مطروقةٍ من قبل، ألا وهي: تصويرُ اللوحات الدلاليّة والاسمّية والتجاريّة للشوارع والمؤسّسات والمحالّ. فلطالما شعرتُ أنّ هذه اللوحات تشكّل جزءًا لا يتجزّأ من ذاكرة المدينة، وهويّتِها البصريّة، ومن ذاكرتي الخاصّة على مرّ السنين. ولقد شهدتُ أيضًا اندثارَ العديد منها بسبب الهدم الجائر للمباني أو الأزقّة، أو بسبب إغلاق نشاطٍ تجاريّ أو مؤسّسةٍ ما، أو بسبب رغبة البعض من مالكي المحالّ التجاريّة في "مواكبة العصر" وتحديثِ لوحات المحالّ؛ وهو ما تأتي نتيجتُه ــــ في غالب الأمر ــــ فاقدةً لأيّ معنًى أو هويّةٍ بصريّةٍ مميّزة.

الأوضاعُ الاقتصاديّة المتردّية في المدينة، ورغبةُ أصحاب المحالّ في خفض النفقات قدر الإمكان، ودخولُ العديد من غير المختصّين إلى عالم الإعلان، وتردّي الذوق العامّ: كلُّ ذلك تضافر وساهم في إنتاج لوحاتٍ تجاريّةٍ نمطيّةٍ وغير متمايزة. معظمُ لافتات المحالّ التجاريّة، اليوم، لوحاتٌ بسيطةٌ بألوانٍ صارخةٍ ومشبعةٍ وذاتِ خطوطٍ يُعْوِزها التناسقُ، وتصاميمُ غير حِرفيّة (مطبوعة على قِطَعٍ من الفليكس "البولي فينيل كلورايد") تُظهر لاعبَ كرةِ قدمٍ متأنّقًا (لمحلّات الثياب الرجاليّة)، أو فتاةً سيليكونيّةً (لمحلّات التجميل). ولا ننسى صورةَ أطفالٍ شقرٍ سعداءَ، ببشرتهم البيضاء وعيونِهم الزرق، لحضانات الأطفال. وهكذا دواليك.

من الجوانب التي أردتُ إظهارَها في مشروعي هذا تلك الروحُ الخلّاقةُ التي سادت صناعةَ تصميم اللوحات التجاريّة، قبل دخول غير المختصّين إلى هذا المجال، متأبّطين حواسبيَهم وبرامجَهم وتصاميمَهم المقولبةَ والمكرَّرة. كان ذلك زمانًا أتقنَ فيه صانعُ اللوحة رسمَ الخطّ العربيّ، وشاع فيه استخدامُ اللوحات الحجريّة المنقوشة الأنيقة. وأبرزُ مثالٍ باقٍ على ذلك: لوحةُ مبنى بلديّة اللاذقيّة القديم. كما استُخدمتْ شتّى الموادّ المعدنيّة والخشبيّة لصناعة اللوحات. وشكّل، يومها، دخولُ البلاستيك وإضاءةُ النيون قفزةً نوعيّةً سمحتْ بالمزيد من الخيارات. ولكنْ بقيَت اللوحاتُ التجاريّةُ تُظهر تمايزًا في الأسواق التجاريّة الرئيسة؛ فكانت، لكلّ متجرٍ، لوحتُه الدلاليّة الخاصّة بخطوطها وتصميمها. كان ذلك بالفعل زمنَ الصانع الراغبِ في التميّز، وزمنَ الانتباه إلى التفاصيل، قبل شيوع الاستنساخ النمطيّ، وتفضيلِ الكمِّ على الكيف. كانت للأبنية شخصيّاتُها، وللمتاجر شخصيّاتُها.

أحدُ الجمالات الصغيرة الأخرى التي يمكن أن نراها هنا وهناك، في شوارع اللاذقيّة، تلك اللوحاتُ المعدنيّةُ الأنيقة التي تبيِّن أسماءَ الشوارع وأرقامَ العمارات. ولكنْ يبقى من اللافت خلوُّ شوارع اللاذقيّة ــــ كما هي الحال في جميع المدن السوريّة ــــ من أسماءِ أبنائها، أو من أسماءٍ سوريّةٍ بشكل عامّ، إلّا في ما ندر. يعيش أبناءُ هذه المدينة في لاذقيّتهم المألوفة حيث يعرفون، على سبيل المثال، أنّ أقدمَ الأسواق الشعبيّة اسمها "سوق الصفن." بينما تعيش بلديّتُهم في لاذقيّتها الخاصّة التي تسمّي ذلك الشارعَ بـ"الطبقجلي،" وهو عالمُ لغويّاتٍ بغداديّ توفّي قبل قرنين من الزمن، ولم يسمع أيٌّ من تجّار السوق وساكنيه باسمه إلّا بفضل بلديّة اللاذقيّة.

أمّا المدينة التي حوت، يومًا، أكثرَ من عشر دُور سينما تَعرض الأفلامَ الأجنبيّةَ والمصريّة، وتقام فيها الحفلاتُ الغنائيّة، فلم يعد فيها أيُّ سينما عاملةٍ اليوم. ودُور السينما التي نجت من الهدم تحوّلتْ إلى أطلالٍ تحكي صورتُها قصصَ ازدهارٍ غابر. وقد خيّم ذلك الموتُ على جميع مناحي النشاطات الثقافيّة في اللاذقيّة: من مطابعَ توقّفتْ عن العمل، إلى مكتباتٍ تحوّلتْ في معظمها إلى متاجر قرطاسيّة أو متاجر ألبسةٍ أو أطعمة. ويُكمل الهدمُ الجائرُ المهمّةَ، ويُخفي كلَّ مَعلَمٍ جميلٍ أو مفيدٍ باقٍ في المدينة. وحدها الأبنيةُ الوقفيّة نجت من الهدم، وهذه تشمل الجوامعَ والكنائسَ وبعضَ المباني الأخرى الموقوفة لطائفةٍ ما.

كان مشروعي هذا أشبهَ بالتنقيب عن الآثار. وبعدما عملتُ عليه، بحثًا وتصويرًا وأرشفةً، طوال سنتين، اخترتُ بعضَ صوره ونشرتُها على صفحتي الشخصيّة على موقع "فيسبوك،" مع تعريف عن هدف المشروع ورسالته. وقد وددتُ أن يرى أصدقائي هذه الصورَ، ويعطوني رأيَهم في ذلك الشكل من التوثيق. إلّا أنّني تفاجأتُ، على مدى بضعة أيّام، بردّة الفعل الهائلة والمشجِّعة عند انتشار ألبوم الصور، عبر مشاركته على صفحات الأصدقاء، أو على صفحات أناسٍ لا أعرفُهم شخصيًّا. وتَرافق ذلك الانتشارُ مع كمٍّ كبيرٍ من التعليقات المليئة بالحنين والأسف على مدينةٍ تضمحلّ الحياةُ فيها، يومًا بعد يوم؛ وقد جاءت هذه التعليقاتُ من أناسٍ ما زالوا يعيشون فيها، أو من آخرين في بلاد الشتات السوريّ. لقد أرجعتْ لهم تلك الصورُ ذكرى أماكنَ عاشوا فيها وجاورتْهم، وأماكنَ درسوا أو عاشوا قصصَ حبّهم فيها، كما سهروا فيها مع الأصدقاء. ولا يزال هناك مَن يحبّ هذه المدينة وينتمي إليها، إلّا أنّه بعيدٌ عنها وعن مواقع صُنع القرار فيها. ولا تزال هذه المدينة على قيد الموت، إنْ لم توجد إرادةٌ حقيقيّةٌ لبعثها من الركام وإعادتِها إلى الحياة.

اللاذقيّة

* يمكن الاطّلاع على المزيد من صور التوثيق في المادّة المنشورة في الآداب: "في اللهاث وراء ذاكرة تنضب: اللاذقيّة."

يامن صابور

كاتب ومترجم من سوريا. حاصل على ماجستير النقد الأدبيّ في اللغة الإنكليزيّة. له عدد من المقالات والترجمات المنشورة في مجلات ومواقع إلكترونية.