"قتال الشوارع" في مواجهة "صِدام الحضارات" و"نهاية التاريخ"
15-10-2015

هناك مَن يدعو الحقبةَ الحاليّة حقبةَ "الميوعة الإستراتيجيّة،" أو حقبة "التغيّر في النظام العالميّ." والمقصود أنّ المرحلة الحاليّة هي مرحلة الانتقال من نمطٍ قديمٍ باتجاه نظامٍ عالميٍّ جديدٍ لم تتبلورْ ملامحُه بعد.

تدور رحى تظهير تلك الملامح وتثبيتِ أركانها على مساحات المنطقة العربيّة، بحيث بدأنا نتحسّس ما عبّر عنه صامويل هنتنغتون في كتابه صراع الحضارات من سقوطٍ للنماذج الإرشاديّة القديمة (البرادايمات) في قراءة الحدث السياسيّ ــ وهي نموذجُ "العالم الأحاديّ القطب،" ونموذجُ "العالم ذي القطبيْن،" ونموذجُ "الدول القوميّة،" ونموذجُ "عالم الفوضى"ـــ التي يرى أنّها لم تعد صالحةً لقراءةِ سياسةِ العصر. وتوقّع هنتنغتون سقوطَ هذه البرادايمات لصالح برادايم جديد، هو برادايم الحضارات، على اعتبار أنّ العالم سينقسم إلى سبع حضاراتٍ أو ثمانٍ، ستَكُون الأرضيّةَ الحاضنةَ للنمط النهائيّ للتاريخ، بحسب ما أعلنه معاصرُه فرانسيس فوكوياما. كما توقّع أن تأتي السياسةُ المستقبليّةُ للنوع الإنسانيّ عبر الصراع بين هذه الحضارات، مصرًّا على أنّ ما يميّز حضارةً من أخرى هو نمطُها الثقافيّ، ولاسيّما الدين. وأشار إلى أنّ الاسلام قد يكون الحلقةَ الأضعف بسبب غياب الدولة المركزيّة؛ وهذا بدوره ناجمٌ عن الصراع على زعامة العالم الإسلاميّ بين إيران والسعوديّة، وما قد يثيره هذا الصراعُ من حروب طائفيّة.

جاءت الحَراكاتُ الشعبيّة في العالم العربيّ على أرضيّة مطالبة شعوب المنطقة بأنظمةٍ سياسيّةٍ أرقى، وبحكوماتٍ ديمقراطيّة، وبالكثير من الإصلاحات الاجتماعيّة الاقتصاديّة. لكنّ أفقَ هذه الحراكات اصطدم بالقبّة الفولاذيّة للنظام العالميّ الجديد الصاعد، الذي أَطلقتْ تلك الحراكاتُ مؤشِّراتِ بداياته أيضًا. ثمّة أفقان متناقضان لتغيّرات المنطقة، إذنْ: حراكاتٌ شعبيّة انطلقتْ تحت شعار "الحريّة" من جهة، وحراكاتٌ إقليميّةٌ ودوليّةٌ لرسم خطوط هيمنةٍ ونفوذٍ وتقاسمٍ جديدة من جهةٍ أخرى.

اللافت أنّ موجة "الديمقراطيّات" لم تضربْ سوى الدول "الجمهوريّة،" التي أطلقت صفّاراتِ الخطر، وبدأتْ تشرح لشعوبها فصول "المؤامرة." إلّا أنّها أخفقتْ في استنهاض شعوبها لتأييدها (وإنّ أفلحتْ في استنهاض الشرائح الاجتماعيّة المرتبطة بها عضويًّا)؛ ذلك لأنّ مفهوم "المؤامرة" فقد مفاعيلَ التأثير الاجتماعيّ منذ زمن طويل، ولأنّ السلطات الحاكمة خلْوٌ من أيّ إرثٍ يعزّز صدقيّتها. وكان سهلًا على التوّاقين إلى التحرّر بأيّ ثمن الهزءُ بهذه السلطات وبمؤامرتها المفترضة؛ لكنّهم أثناء عملهم على إسقاط الأنظمة لم يعيروا انتباهًا خطورةَ ذلك العمل على الأمن القوميّ لدولهم! ثم جاءت مرحلةُ صعود الإسلام السياسيّ، الذي دعمه العالمُ عبر الوكالة القطريّة والنموذج التركيّ؛ وهي مرحلةٌ عَنَتْ أنّ دولةً مركزيّةً للإسلام السياسيّ في مصر ستكون النسخةَ العربيّةَ عن الإسلام التركيّ، بامتداداتها التونسيّة (القائمة) والليبيّة واليمنيّة (الناشئة) والسوريّة (المنتصبة على جبهات القتال).

إنّه "قتالُ شوارع" بكلّ ما في هذا التعبير من معنى: فلا الأنظمةُ تضْبطه، ولا النخبُ تقوده. إنّه الهامشُ المنفلت، المنسلخُ عن المركز، الذي عجز عن نمذجة "الإسلام" قبل التوقيع على الاتفاق النوويّ الإيرانيّ.

هذا المشهد، الذي أفشلتْه النُّخَبُ المصريّةُ والسوريّة بالدرجة الأولى، ترك فراغًا بدأتْ أذرعُ الهيمنة الإيرانيّة بتعبئته، تهيئةً لمركز إسلاميّ شيعيّ يكون جاهزًا عند التوقيع على الاتفاق النوويّ ودخولِ إيران إلى ساحة الدول الكبرى. لكنّ هذا النموذج الإيرانيّ جوبِه بالفصائل الإسلاميّة المسلّحة في سوريا والعراق واليمن، وبرفضٍ مذهبيّ/ طائفيّ يؤازرُه في باقي المناطق. إنّها معركة "كسر عظم" بين المركزيْن المفترضيْن، سقطا كلاهما بنتيجتها، وتُرك المشهدُ العربيّ خاليًا من البدائل، باستثناء "معركة الهوامش."

فالحرب بين المركزيْن، بامتدادها الزمنيّ الذي فاق المتوقّع، أفسحتْ مجالَا لانفلات قوًى اختارت طريقَ السلاح للوصول السريع إلى هدفها، مستوردةً هوامشَ العالم المتقاطعةَ معها، عبر استخدامها ملايينَ المهجّرين والنازحين المسلمين الذين وصلوا شوارعَ الغرب. هذه الهوامش خرجتْ عن المسارات التي شُقّتْ لها، بل عَقّدتْ خطوطَ الحضارات "الصافية" المفترضة. وعليه، فإنّ "صراعَ الحضارات،" الذي سوّقه الغربُ النيوليبراليّ، يجابَه بقتالٍ في شوارع الشام وبغداد؛ وهو قتالٌ بدأ بالانتقال إلى شمال افريقيا، ومن ثمّ عبر المتوسّط إلى بعض البلدان الغربيّة، واضعًا الديمقراطيّة الغربيّة أمام امتحان التعامل مع الوافدين المسلمين الجدد.

غابت عن تلك الشوراع القوى التقدميّةُ والنخبُ الثقافيّة، المأزومةُ شأن الأنظمة الاستبداديّة الفاقدة للشرعيّة والصدقيّة. وسارت الشعوبُ صوب الأطر الدينيّة في سبيل تحرّرها المفترض، جارّةً وراءها نخبَها، وخيّرتْها بين أمرين:

ــ إمّا أن تزيّنَ هذا المسارَ باعتباره "مرحلةً تاريخيّةً موقّتة" أو  تعبيرًا عن "حقّ الإنسان في اختيار  نظامه السياسيّ"؛

ــ  وإمّا أن تصمتَ تمامًا خوفًا من أن تضعها آلةُ الإعلام على القائمة السوداء في وصفها "رجعيّةً" أو "مناصرةً للأنظمة الاستبداديّة."

إنّه "قتالُ شوارع" بكلّ ما في هذا التعبير من معنى: فلا الأنظمةُ تضْبطه، ولا النخبُ تقوده. إنّه الهامشُ المنفلت، المنسلخُ عن المركز، الذي عجز عن نمذجة "الإسلام" قبل التوقيع على الاتفاق النوويّ الإيرانيّ. وهذا الأمر ينبئ بنمطٍ جديدٍ من الصراع في المنطقة العربيّة، يحتاج إلى "برادايم" جديد لوصفه وتحليله والتعاطي معه.

إنّ سقوطَ "النموذج الحضارويّ" في فهم الصراع أنقذنا من حكْم حقبةٍ دينيّةٍ لزمنٍ قد يطول. لكنّ هذا لا يعني أنّنا سنكون أمام نموذجٍ أفضل، ما لم تستعِدِ الجيادُ جرَّ العربة. وإلّا فستكون مقاومةُ الهامش لأجل الانعتاق طريقَنا نحو الجحيم.

دمشق

ناريمان عامر

مدرّسة الفلسفة الأمريكيّة في جامعة دمشق ـ قسم الفلسفة. كاتبة في الصحف والمجلات ومراكز البحث العربيّة.

مقيمة في دمشق.