في التربية الوطنية والتنشئة المدنية والتطبيع
30-06-2020

 

الموضوع الإسرائيليّ في لبنان يُفترض أن يكون موضوعًا جامعًا للمكوِّنات الوطنيّة، لكنّه للأسف من الموضوعات الخلافيّة (وإنْ بشكلٍ غيرِ مُعلن)، ويتمّ التطرّقُ إليه في سنٍّ مبكّرة، بل مبكّرة جدًّا.

تجدر الإشارةُ إلى أنّ دولًا عديدةً تخطّت ذلك على الصعيد التربويّ، مثلما فعلتْ ألمانيا وفرنسا إزاء التعاطي مع مرحلة النازيّة، ومثلما فعلتْ إيطاليا إزاء التعامل مع الفاشيّة. وكلُّنا أملٌ أن يدرِك اللبنانيون يومًا أنّ الصهيونيّة عدوُّ الجميع في لبنان، أرضًا وشعبًا ومؤسَّسات.

 

أوّلًا - في التوصيف

يندرج تدريسُ موضوع الاحتلال الإسرائيليّ في الصفّ الأساسيّ التاسع، الذي ينتهي بنَيل المتعلِّم (14 سنة) الشهادةَ المتوسّطة، وذلك في مادّة التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة، من ضمن محورٍ يحمل عنوان: "الهويّة العربيّة."

يضمّ هذا المحور خمسةَ دروس: "مقوِّمات الهويّة العربيّة ومضامينها،" "الحقوق العربيّة والمطامعُ الإسرائيليّة،" قبل أن يغوصَ في درسٍ ثالثٍ عن جامعة الدول العربيّة، وبعده في درسَيْن (فاتهما التاريخُ، وربّما الجغرافيا، وأشياءُ أخرى لا حاجة إلى أن أوردها)، عنوانُهما: "الاتفاقيّات اللبنانيّة-العربيّة" و"العلاقات المميّزة اللبنانيّة-السوريّة."

صيفَ العام 2016، جرى البحثُ في تعليق بعض المحاور والدروس من أجل تقليص البرامج لتتلاءم مع الكفايات المطلوبة، ومع عدد ساعاتِ التدريس، ومع تطوّر بعض الموادّ علميًّا وزمنيًّا، أو لأنّها ببساطة تُعطى في موادَّ أخرى. فاقترح غالبيّةُ المعنيّين تعليقَ العمل بهذا المحور، أو على الأقلّ ببعض الدروس فيه، لكونه - ما عدا درسَ الهويّة العربيّة - صار أقربَ إلى "التنظير" من الحقيقة، وتحوّل إلى استظهارٍ مدرسيٍّ بعيدًا عن الوقائع المَعِيشة. لكنّ المراجعَ العليا، ولم أعرفْ هويّتَها أو مناصبَها، ارتأت المحافظةَ عليه كاملًا حتى لا يُمسَّ بالدستور وبـ"التوافق الوطنيّ" (ولا أعتقده وطنيًّا ولا ميثاقيًّا وإنّما سياسيًّا).

 

ثانيًا - في الوقائع

في موضوعنا هذا، تختلف المقاربةُ بين العرض العلميّ في العلوم الإنسانيّة والسياسيّة، وبين العرض الإيديولوجيّ أو السياسيّ الأضيق، لأنّ الأخيرَ يحمل مزايداتٍ وبطولاتٍ وربّما تخوينًا.

إذا أخذنا بعضَ الأمثلة والمصطلحات المستخدَمة في الكتاب، نَقعُ مثلًا على عبارة "اغتصاب فلسطين." يا للمصطلح التربويّ!

ثمّ إنّنا نتحدّث عن "مقاومة" وعن "حروبٍ نظاميّة،" من دون أن يدركَ المتعلّمُ، البالغُ من العمر 14 سنةً، الفرقَ بينهما، ومن دون تحديد أنّ الثانية تشمل المعاركَ التي خاضها الجيشُ اللبنانيّ.

في الوقائع أيضًا أنّ بعضَ طلّاب لبنان يَعتبرون أنّ هذه القضايا لا تمتُّ إلى حياتهم بصلة. لماذا؟ فلنكن واقعيّين. كان بعضُ اللبنانيين بعيدين عن هذا الصراع، جغرافيًّا على الأقلّ، والبعضُ الآخر لا يفهمون منه سوى ما قاله لهم بعضُ زعمائهم من أنّ "إسرائيل" عدوُّ حزب الله وحده، وأنّ حربَ 2006 (التي عاصروها وسمعوا عنها) هي بسبب حزب الله أيضًا. هذه وجهةُ نظرٍ، وإنْ لم تكن وجهةَ نظري!

لذلك، وللابتعاد عن المزايدات من كلّ الأطراف، ومن أجل التعرّفِ الحقيقيّ إلى هذه الإشكاليّة، لا بدَّ من تغيير المقاربة برمّتها. كيف؟ من خلال الانتقال من التلقين والحفظ، إلى البحث، فالاكتشاف والتحليل، فالاستنتاج واتخاذِ المواقف.

فمثلًا، وانطلاقًا من تجربتي الشخصيّة، أرى أنّ على درس "الحقوق العربيّة والمطامع الإسرائيليّة" أن يستغرقَ، بدلًا من حصّةٍ واحدة (أيْ 50 دقيقة)، حصّتيْن إلى ثلاثٍ أحيانًا (أيْ 150 دقيقة): فيبدأ بعرضٍ تاريخيّ (عبر أفلام، خرائط، أرقام، صور، أحداث)، ويَقْرن ذلك بدروس التاريخ الذي أعيد فيه "محورُ القضيّة الفلسطينيّة،" فتُستخرَج منطلقاتُ العداء وارتباطُها بالهويّة العربيّة والمصالح الوطنيّة.

ثم أستعرض أمثلةً: الشهداء في مقاومة "إسرائيل" هم من كافّة الطوائف والمناطق (بالمناسبة: من أوائل الواصلين إلى الحدود مع فلسطين للاحتفال بالانسحاب الإسرائيليّ من الجنوب اللبنانيّ في العام 2000 كان جبران تويني مع طلّاب الجامعة اليسوعيّة)؛ والعملاء كذلك كانوا من جميع الطوائف والمناطق؛ أمّا البلوكات النفطيّة التي هي محطّ "النزاع" مع "إسرائيل" فملْك كلّ اللبنانيين؛ ومزارع شبعا لبنانيّة؛ وشعار الـ 10.452 كلم 2 يضمّ سائرَ المناطق اللبنانيّة التي احتلّها العدوُّ الإسرائيليّ (الجنوب والبقاعَ الغربيّ...)؛ القصف الإسرائيليّ طاول جسورَ كسروان ومحطّةَ إرسال LBCI ومناطق مختلفة ومتنوّعة من لبنان؛ الخ...

هكذا يتحوّل المتعلِّمُ من مُشاهدٍ متلقّن ("سمعًا وطاعةً يا أستاذ!") إلى مشاركٍ في الاستخراج وإعطاء الوقائع والمشاهدات من أسبوعٍ إلى آخر. وينتهي الدرسُ بتغييرٍ في النظرة والأفكار المسبَّقة والتحليل والانحياز.

إنّ السياسة، بمفهومها العلميّ، هي إدارةُ الشأن العامّ. والتعليم، بمفاهيمه الحديثة البيداغوجيّة، قبل أن تتكلّمَ بالمثاليّات، هي مصلحةٌ أوّلًا وأخيرًا، وقد تسبق العاطفةَ أحيانًا. وهكذا يجب أن تكون، حتى نتحوّلَ من حبّنا الأفلاطونيّ لبلدنا، إلى شعورنا بالانتماء الوطنيّ العقلانيّ إليه. وأنتم تدركون الفرقَ حتمًا بين معنى "بلد" ومعنى "وطن."

أمّا مسألة التطبيع، فهذه من سياسة الحكومة، وليست من مواقف أبناء سنّ الـ14! ومع احترامنا لنضالات الشعب الأرمنيّ الرافض للتطبيع مع كلّ ما هو تركيّ، فهل هزّ ذلك عرشَ الصناعة والسياسة في تركيّا؟ مقاطعتُنا لم تزعزعْ إسرائيل، ولم تمنعْها من الوصول إلى الفضاء، ونحن نخسر الأرضَ بالحروب حينًا وبالمقالع والكسّارات أحيانًا. هذا إضافةً طبعًا إلى عدم الإجماع العربيّ عليها.

هذا مع إصرارنا على عدم التطبيع مع الصهيونيّة، لا بالكلام ولا باللسان ولا باللباس ولا حتى بالجمال والموسيقى والـviber والحمّص والفلافل. لكنْ هل هذا دفع ملايينَ الشعوب العربيّة إلى مُناصرتي، أنا العَبدَة الفقيرة في لبنان، وراعت مصالحي، وأوقفت التطبيعَ مع العدوّ، ودعمتْني بالمال والعتاد والدبلوماسيّة؟

إذًا، على التلميذ استخراجُ منطلقات العداء اللبنانيّ والعربيّ من حياته وتاريخه ومصالحه: من خلال العودة إلى الأرقام عن ضحايا الحروب، والنزاع حول المياه والحدود والغاز والنفط، والانتهاكات الجوّيّة والبرّيّة والبحريّة. هذه الحقائق توثِّق في عقل المتعلّم ما لا يقْنعُه به كتابُ التربية، ولا مواقفُ أهله وزعيمِه والأستاذ. دعوه يكتشف، يستنتج، ويأخذ الموقفَ بنفسه.

وبالمناسبة، هكذا تدرَّس حقبةُ النازيّة في ألمانيا.

 

ثالثًا - في المنطق والواقعيّة

لسنا في دولةٍ توتاليتاريّة لنمارسَ الأدلجةَ في مناهجنا الجليّة والمضمَرة. في حدّ علمي أنّنا في نظامٍ ديموقراطيٍّ حرّ، التربيةُ فيه تنمّي فكرَ الانسان وحسَّه النقديّ في الموادّ العلميّة كما في موادّ العلوم الإنسانيّة، التي لم تتحوّلْ بعدُ عندنا إلى علوم وبقيتْ في مصاف القصائد التي تُحْفظ وتحفّظ. ولشعوبنا ذاكرةٌ قصيرة!

لذلك من الخطأ، لا بل من الخطيئة، استخدامُ تعابير ومصطلحات حبّ وكراهية. ففي العلوم الإنسانيّة عرضٌ لوقائع، وتحليلٌ لها، مع مقارنة، ثم استنتاج، أو استخلاص عِبر.

المبادئ مهمّة، ومهمّتُنا الإضاءة عليها، لكنْ من دون أن تتحوّلَ إلى تعصّبٍ وتعنّتٍ بلا مُحاججة. فلنَدَعْ عقلَ أولادنا يعمل ويُنتِج ويُبدِع، ولا يستنسخ أقوالَ والدٍ وزعيم. هكذا نصل الى الإبداع، إلى "الخروج من العلبة" (out of the box)، علّهم يجدون لنا رؤًى وحلولًا لم يَرَها الأقدمون ولن يَتَطبَّعَ عليها البَنون.

نريد لأبنائنا أن يتحوّلوا من مُستمعين ومشاهدين وأدوات، إلى مشاركين ومتحمّلين للمسؤولية، لا يخضعون ولا يهاجرون. هكذا يُشاركون في بناء الهويّة، وهي مهمّةٌ مستدامةٌ في تطوّرٍ دائم. لبنان وطن نهائيّ لجميع أبنائه كما تقول مقدّمة الدستور.

دانيال عبيد

أستاذة في العلوم السياسيّة، وإعلاميّة. منسِّقة مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنيّة ومدرّستها في الصفوف التكميليّة والثانويّة في القطاع الخاصّ.