سجنُ أمّ... سجنُ أمّة!
14-11-2016

 

 

تغيب الأمُّ في غياهب سجنِ الدولة ثلاثةَ أيّام، يعيش فيها الطفلُ حالةً "جايمسبونديّةً" من التخفّي عن عيون الرقباء. لقد بات بلا أبٍ ولا أمّ، وهو في الثالثة من عمره. يسأل أين اختفت أمُّه فجأةً، فلا ندري بمَ نجيبُه: أنقول له إنّ محكمةً شرعيّةً قرّرتْ فصلَه عن أمّه بالقوّة، وإنّ أمَّه قاومتْ حتّى سُجنتْ؟

هذه كانت قضيّةَ فاطمة حمزة، المربّيةِ اللبنانيّةِ التي تعيش حالةَ انفصالٍ عن زوجها. المعركة بين الطرفين ليست موضوعَنا هنا. موضوعُنا هو استقواءُ أحدهما، بالقانون الجاهز، على الآخر. والقانونُ، هنا، منبعُه المحاكمُ "الشرعيّةُ" أو "الروحيّةُ،" التي لا يختلف اثنان في تحيّزها إلى سلطة الرجل.

والأمر يتعدّى المحكمةَ الجعفريّةَ في لبنان، التي تورّطتْ بقرارها في قضيّة فاطمة، ولم تتوقّع الضجّةَ التي أثارتها في وجهها "الحملةُ الوطنيّةُ لرفع سنّ الحضانة لدى الطائفة الشيعيّة،" وهي حملةٌ أسّستْها نساءٌ عانيْن الأمرّيْن جرّاءَ قراراتِ هذه المحكمة في قضاياهنّ. رفعت الحملةُ لواءَ قضيّةِ فاطمة في مواجهة المحكمة، واعتصمتْ أمام مقرّها. ولعلّ الموجودين داخل المحكمة استهجنوا رؤيةَ تجمهرٍ لنساء لا علاقةَ لهنّ بالحملة، ويوحي لباسُ بعضهنّ بالالتزام الدينيّ، ويرفعن عقيرتهنّ في مواجهة محكمتهنّ الشرعيّة!

كان على الأمر أن ينتهي بطريقةٍ ما؛ وكالعادة وُجد من السياسيين مَن "قَطَفَ" لحظةَ التدخّل لأنّه رأى أنّ سجنَ فاطمة خطيئة، علمًا أنّه لم يتدخّلْ يومًا للضغط على المحكمة الجعفريّة من أجل إعادة النظر في منطلقات التشريع في مثل هذه القضيّة.

***

قضيّة فاطمة يجب أن تَفتح البابَ أمام قضايا رئيسة، منها:

أوّلًا، ضرورةُ الملاءمة بين القضاءيْن المدنيّ والشرعيّ. فلمّا كان التشريعُ في القضاء المدنيّ ينطلق من الدستور اللبنانيّ، ولمّا كان هذا الأخيرُ يتبنّى الشرعةَ الدوليّةَ لحقوق الإنسان، فسيتوجّب حينها أن تُجرى تعديلاتٌ في القضاء الشرعيّ أو الروحيّ في ما يخصّ قضايا الناس ومساواتَهم، مع الحرص على تمكين الضعفاء بشكلٍ خاصّ. وفي هذه الحال، تجب إعادةُ النظر في كلّ التمييزات ضدّ المرأة في الشرائع، وفي كلّ ما يجعل من الأطفال ومن حضانتهم مصدرَ استقواءٍ للرجل، يمارسُه لنيلِ ما يرغبُ فيه ولو على حساب القانون، أو لفرض التنازلات على المرأة، التي قد تُذعن لهذه التمييزات خوفًا من أن تُحرَمَ أبناءها أو تُحرَمَ رؤيتَهم على الأقلّ.

بل إنّ الرجل نفسَه يقع أحيانًا في حبائلِ قوانينَ سنّتْها المحاكمُ الروحيّةُ ذاتُها؛ وقد تسلبُه حريّتَه، مثلًا، في الزواج بمن يشاء من غير طائفته، وتَفرض القوانينَ التأديبيّةَ ضدّه إذا فعل. ناهيك بالطلاق الذي تمنعه بعضُ المحاكم الروحيّة، ما يؤدّي إلى الحفاظ الشكليّ على زواجٍ قسريٍّ وتعس.

وبالطبع لن ننسى، في هذا المجال، قضيّةَ حضانة الأطفال عند الطلاق: فالطفل في إحدى المحاكم يُنتزع من أمّه عند بلوغه السنتيْن، وفي محكمةٍ أخرى يُنتزع منها حين يبلغ اثنتيْ عشرة سنةً من العمر.

ثانيًا، ضرورة اللجوء إلى العِلْم من أجل اتّخاذ قراراتٍ حسّاسة. ويتضمّن ذلك وجوبَ تحكيم الدراسات الاقتصادية والاجتماعيّة والنفسيّة في إعادة كتابة القوانين التي تَحْكم قضايا العائلة وشؤونَ الأطفال. فمِن غير المقبول، مثلًا، انتزاعُ الأبناء من أمّهاتهم في أعمارٍ صغيرة. ثمّ هل مَن يدرس شخصيّةَ الوالدين وتأهُّلَهما لكي يتّخذَ قرارًا بالحضانة، بعيدًا عن تحكيم تأويلاتٍ صارمةٍ ومحدودةٍ لما قاله "السلف"؟

إنّ المحاججة "بأنّنا إزاء محاكمَ شرعيّةٍ وروحيّةٍ،" لا محاكم مدنيّةٍ أو تشريعاتٍ وضعيّةٍ، لا تصحّ: فكلُّ المهاجرين (المسلمين) إلى دولٍ غربيّة تتحكّم بقضاياهم محاكمُ مدنيّةٌ، فيقبلونها أو يرضخون لها. بل إنّ قضايا الطلاق الهائلة التي رفعتْها اللاجئاتُ السوريّاتُ في ألمانيا تقول بوضوح: إنّ قضاءكم في بلادنا الأصليّة ظالمٌ، وحياةَ المرأة بموجبه كانت جحيمًا.*

ثالثًا، إعادةُ التفكير في قضاءٍ مدنيٍّ موحد. وهذه محصّلةُ النقطتيْن الأُولييْن. إنّ التسليم بأنّ شؤون الأفراد والعوائل يتوّلاها أناسٌ متخصّصون في العودة إلى نصوصٍ سبقتْ صدورَ الدراسات النفسيّة والاجتماعيّة الحديثة أمرٌ غيرُ مقبولٍ البتّة. وقد أهملت التصدّي له الأنظمةُ العربيّةُ/"الإسلاميّةُ" حفاظًا على شيءٍ من "الشرعيّة" الدينيّة، علمًا أنّ كلَّ مفاصل الدولة تقوم على تشريعاتٍ وضعيّة.

عندما يولد المرءُ في بلادنا يُحتسب على طائفةٍ ما، لكنّنا لا يمكن أن "نلزّم" حياتَه بأسْرها لقوانين هذه الطائفة! الأسوأ أنّها قوانينُ مسوّرةٌ بدائرة "الحرام والحلال،" ويكاد يُمنع النقاشُ العقلانيُّ فيها: أوَيمكنُ أن نسأل، مثلًا، لماذا تعود الحضانةُ إلى الرجل في النهاية؟ ولماذا التمييزُ بين الرجل والمرأة، برغم كلّ محاولات التلطيف الشكليّة؟

***

فاطمة صمدتْ وانتصرتْ واسترجعت ابنَها إلى كنفها، وذكّرتْنا بأنّ الصمودَ يخيف السلطة. والسلطة تحاول إقناعَنا بأنّ بنيانَها صلدٌ ومرصوصٌ. لكنّ آثارَ أظافر الأمّ على جدرانه ترينا أنّنا واهمون؛ فليس البنيانُ صلبًا في ذاته، كما قد يتوهّمُ بعضُنا، بل همّتُنا هي التي تَفْتر أحيانًا عن رفع المعولِ... وضربِه.

بيروت

* راجع المقال المهمّ لياسمين مرعي، من ملفّ اللجوء السوريّ في الآداب:

https://goo.gl/mb6ET5

يسري الأمير

كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.