ذاتَ موكب
26-09-2018

 

هرعتُ كعادتي لأشاهدَ مرورَ الموكب على الطريق المؤدِّية إلى القصر، عقب الانتهاء من حفل تنصيب القائد لولايةٍ جديدة.

بدأ الاحتشادُ مع طلوع الشمس، وكان النهارُ حارقًا.

قاتلتُ لأحصل على حقّي المسلوب، وانتظرتُ في الصفوف الأماميّة.

كنتُ أحمل ابنتي على كتفيَّ المائلتيْن. ثمّ فقدتُ الشعور بها وسط التدافع والاشتباك العنيف.

حاول الجنودُ المُكلَّفون حفظَ النظام رصَّنا خلف العوازل الحديديّة، مستخدمين الكلابَ البوليسيّةَ والعصيَّ الغليظة. كان السبّ أو الضرب أو الاحتجاز عقوبةً تسقط على كلّ مَن لا يمتثل إلى الأمر. وكان حجمُ العقاب يُقدَّر بحجم الخطأ المفتعل. لا بأس؛ فقد نجوتُ من الاحتجاز!

توسَّلتُ إلى شرطيّ، علّه يمهِّد لي الطريقَ إلى الأمام. كان مشغولًا بالنظر إلى وجهه المنعكسِ في جهازه اللاسلكيّ. حاولتُ تذكيرَه بي: سردتُ له تاريخي المُشرِّفَ مع الموكب، وشدّةَ حرصي على الوقوف ممتثلًا في طليعة الحشود. أعلمتُه بأنّ صغيرتي هي مَن حال دون أن أصل سريعًا إلى الأمام هذه المرّة، فاحتل الآخرون مكاني.

الشرطيّ لم يكترثْ، وظلّ ينظر إلى انعكاس وجهه العابس في الجهاز.

مرّت الدرّاجاتُ الناريّة كالبرق، منذرةً بقدوم الموكب. رضختُ للأمر الواقع، وارتضيتُ بما بقي لقدميّ من فسحةٍ صغيرةٍ في التراب. انفكَّت الأيدي المشتبكة، وسكت الشِّجار الذي استبدلنا به الهتافَ الموحَّد والصفيرَ المتناغم. حين تذكّرتُ ابنتي المفقودةَ، سمعتُها تقول: "كيف أخترقُ السيقان خلفنا يا أبي؟!" فاطمأنّ قلبي، وواصلتُ ترديدَ الهتاف بصوت أعلى.

ظهر الموكبُ من بعيد. فوقه، كانت تحلّق الطائرةُ التي اعتدنا رؤيتَها في كلّ حدثٍ كبيرٍ من هذا النوع. ازداد الصّخبُ، وارتفعت الأيادي بالتلويح، المصحوبِ بأناشيد النصر. فقدتُ شعوري بجسدي المُنهَك، المحمولِ على قدميْن تلاشى لحمُهما من شدّة الحر.

تذكّرتُها من جديد. لم أسمعْها كعادتها، فازددتُ قلقًا. نزلتُ أعبثُ بأطنان الأرجل، أحاول فكَّ تشابُكها، علّي أجدُها. وكنتُ، كلّما شعرتُ بالاختناق، أصعد لأقتنص قسطًا من الهواء.
بعد عدّة محاولات فاشلة نجحتُ في العثور على كفّي ابنتي الدقيقتيْن. صعدتُ سريعًا قبل أن أهلك، ولم أكرّر المحاولة إذ كان مُحالًا انتشالُها وسط ذلك السيْل الجارف من البشر.

رمقتُ الشرطيّ، الذي لم يغادرْ شاشةَ جهاز اللّاسلكيّ. جاهدتُ لأدنو منه، ثم همستُ في أذنه: "هل يشاهدُنا ونحن نلوِّح له؟"

أومأ برأسه إيجابًا!

اختفى الموكب وجفَّ سيلُ المحتشدين. ازدادت الشمسُ حرارةً، وازداد حلقي جفافًا. حملتُ جثَّة ابنتي على كفيَّ. حفرتُ لها، ودفنتُها في المكان التي وجدتُها فيه بعد خلوّه من الجموع.
 

مصر

محمود روبي

قاص من مصر.