التعليم في عصر الكورونا: الواقع وإرهاصات المستقبل
26-02-2021

 

مع اجتياح فايروس كورونا وما أدّى إليه من موت ملايين البشر، تبنّت دولُ العالم الإجراءاتِ الاحترازيّةَ للتصدّي لانتشاره السريع: مثل الغلق الكلّيّ أو الجزئيّ للمدارس والجامعات، وفرضِ حظر التجوّل، وتقييدِ حريّة السفر، والالتزامِ بقواعد التباعد الاجتماعيّ.

ويُعدّ انتشارُ الجائحة حدثًا جللًا يهدِّد الأنظمةَ التعليميّةَ في كلّ دول العالم. فوفقًا للأمم المتحدة (2020) أوجدتْ جائحةُ كورونا أكبرَ انقطاعٍ في نظم التعليم في التاريخ، وهو ما تضرّر منه نحو 1,6 بليون من الطلاب في 191 بلدًا من مختلف القارات. وكانت لجائحة كورونا تأثيراتٌ سلبيّة في 94% من طلبة المدارس في دول العالم، بل بلغت النسبة 99% في البلاد المتوسطة والمنخفضة الدخل، وذلك نتيجةً لإغلاق المدارس والمؤسّسات التعليميّة.[1] وجاء ذلك حين كان التعليمُ يعاني، أصلًا، أزمةً عالميّة؛ إذ يُظْهر مؤشِّرُ البنك الدوليّ، مثلًا، أنّ نسبةَ الطلّاب الذين لا يستطيعون القراءةَ أو الفهمَ في سنّ العاشرة قد بلغتْ في البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل قبيْل تفشّي الفيروس 53%. ويتوقّع البنكُ الدوليّ أن يؤدّي انكماشُ الاقتصاد العالميّ نتيجةً للجائحة إلى تدنّي دخل الكثير من الأسر، وإلى زيادة معدّلات التسرّب، وتقلّصِ الميزانيّات الحكوميّة المخصّصة للإنفاق على التعليم.[2]

يتفق خبراءُ التعليم على أنّ التعليم ما بعد كورونا لن يكون كما قبله، خصوصًا مع ظهور بنية تحتيّة عالية الأتمتة باستخدام مُعطيات الثورة الصناعيّة الرابعة وأنظمةِ الذكاء الاصطناعيّ. كما يتوقّعون حصول تحوُّلاتٍ كبيرة وهيكليّة في أنماط التعليم وتوجّهاتِه وسياساتِه، سواء على صعيد التعليم العامّ أو الجامعيّ؛ وقد بدأتْ بوادرُ هذه التحوّلات بالظهور فعلًا. ولم يعد أمام جميع الأنظمة التعليميّة إلّا مهمّةٌ واحدة، وهي الحدُّ من آثار الجائحة في التعلُّم والتعليم المدرسيّ، والاستفادةُ من هذه التجربة من أجل العودة إلى مسار تحسين التعلُّم بوتيرة أسرع. وهذا ما سنتناوله عبر السطور الآتية.

 

آثار الجائحة في قطاع التعليم

من آثار الجائحة في التعليم، بحسب تقارير المنظّمات الدوليّة كاليونسكو والبنك الدوليّ، ما يأتي:[3]

1 - حرمان ملايين الطلّاب من التعليمَ المدرسيّ بسبب إغلاق المدارس والجامعات. وتتفاقم انعكاساتُ الإغلاق على التلاميذ من الفئات الفقيرة والمحرومة، الذين يحظوْن بفرص تعليميّة أقلّ خارج المدرسة.

هناك الكثيرُ ممّا يمكن عملُه للحدّ من هذه الآثار، وذلك من خلال استراتيجيات التعلُّم من بُعد. وتُعدّ البلدانُ الأغنى الأكثرَ استعدادًا للانتقال إلى تلك الاستراتيجيّات، وإن اكتنف الأمرَ قدرٌ كبيرٌ من الجهد والتحدّيات التي تواجه المعلِّمين وأولياء الأمور. 

2 - عدم تكافؤ فرص الطلّاب في الانتفاع بمنصّات التعلّم الرقميّة، وفرص التعلم عن بُعد. يمثّل غيابُ الانتفاع بالتكنولوجيا عائقًا أمام التعلّم المستمرّ، ولا سيّما بالنسبة إلى الطلّاب الذين ينتمون إلى عائلات محرومة. فالعديد منهم لا يملكون حواسيبَ منقولةً، فضلًا عن صعوبة اتصالهم بالإنترنت؛ بل هناك مَن لا يملك طاولةً للدرس، ولا كتبًا، ولا يجد أيَّ مساندةٍ من آبائهم على النحو المأمول. وفي المقابل هناك آخرون يحظوْن بكلِّ ما سبق. لذا يتعيّن علينا تفادي اتّساع هذه الفوارق في الفرص، وتجنّبُ ازدياد الآثار السلبيّة في تعلُّم الأطفال الفقراء.

 

من آثار الجائحة عدم تكافؤ فرص الطلّاب في الانتفاع بمنصّات التعلّم الرقميّة 

 

ثمّ إنّ ضمانَ عودة الأطفال والشباب إلى المدارس عند إعادة افتتاحها يمثّل تحدّيًا، خصوصًا بعد إغلاقها فترةً طويلة. لذلك فإنّ هناك حاجةً إلى الاستفادة من قنوات التلفزيون والإذاعة لبثّ المقرَّرات والمناهج الدراسيّة، وكذلك التنسيق مع الشركات المسؤولة عن تقديم خدمة الانترنت من أجل تخفيض أسعار الخدمة.

3 - الحرمان من وجبات التغذية المدرسيّة. يعتمد الكثيرُ من الطلّاب على الوجبات المجّانيّة أو الرخيصة التي تقدّمها المدارس. فإذا تعذّر توصيلُ هذه الوجبات بسبب إغلاق المدارس، فينبغي توسيعُ نطاق برامج التحويلات النقديّة من أجل تعويض أولياء الأمور.

4 - عدم استعداد الأهل لتعليم أولادهم عن بُعد أو في المنزل. عندما تُغلق المدارس، يُطلب من الأهل غالبًا تيسيرُ تعليم أطفالهم في المنزل، فيواجِه بعضُهم صعوبةً في أداء هذه المهمّة، ولا سيّما إذا كانوا محدودي التعليم والموارد. 

5 - التفاوت في رعاية الأطفال. غالبًا ما يَتْرك الأهلُ العاملون أطفالَهم وحيدين نتيجةً لغلق المدارس، ما قد يؤدّي إلى وقوعهم فريسةً لمواقع التواصل الاجتماعيّ والانترنت. وهذا قد يدفع إلى انتشار أنماطٍ سلوكيّةٍ خطيرة، وإلى زيادة تعرّضهم لقراصنة الإنترنت، وللعنف والتنمّر والابتزاز والجرائم الإلكترونيّة من قِبل المنحرفين سلوكيًّا.

6 - آثار غلق المدارس في وضع الأسرة الاقتصاديّ. أدّت جائحةُ كورونا في كثيرٍ من الحالات إلىعجز الأهل العاملين عن تأدية أعمالهم بسبب تفرّغهم لرعاية أطفالهم. وهذا ما يتسبّب في تراجع الدخل في حالات كثيرة، ويؤثّر سلبًا في الإنتاجيّة.

7 - الضغط على نظام الرعاية الصحّيّة. قد تُضطرّ النساءُ العاملاتُ إلى التغيّب عن العمل بسبب رعاية أطفالهنّ أثناء الحجْر المنزليّ وإغلاق المدارس. وهذا يعني غيابَ العديد من مقدِّمات الرعاية الصحّيّة عن أماكن عملهنّ، التي هي في أشدّ الحاجة إليهنّ أثناء الأزمات الصحّيّة.

8 - العزلة الاجتماعيّة. عندما تُغلق المدارسُ، يفقد الكثيرُ من الأطفال والشباب علاقاتِهم الاجتماعيّة التي لها دورٌ أساسٌ في التعلّم والتطوّر. فالطالب لا يتعلّم من المدرسة العلومَ والرياضيّاتِ واللغاتِ فحسب، بل يقيم فيها أيضًا علاقاتٍ اجتماعيّةً مع أقرانه، ويطوِّر مهاراتِه الاجتماعيّة. لذا فمن الضروريّ الحفاظُ على التواصل مع المدرسة بأيّ وسيلة.

وإذا كان دورُ الوالديْن بالغَ الأهمية على الدوام، فإنه أشدُّ أهمّيّةً في هذا الصدد. لذا، يجب توجيهُ قدرٍ كبيرٍ من العون، الذي تقدّمه وزاراتُ التعليم عبر وسائط الإعلام الجماهيريّ، إلى الأهل أيضًا. وتحديدًا، تنبغي الاستفادةُ من الرسائل، الموجَّهة عبر الإذاعة والتلفزيون والرسائل النصّيّة القصيرة، بغية تزويدهم بالنصائح التي تعينهم على تقديم دعم أفضل لأبنائهم.

 

هل يسهم التعليم عن بُعد في حلّ الأزمة القائمة؟

أجبرت الجائحةُ دولَ العالم على انتقال مفاجئ نحو التعليم عن بُعد. وحاولت الوزاراتُ المعنيّة تسهيلَ العمليّة بخلق منصّاتٍ للتعليم الإلكترونيّ. لكنّ السؤال الذي يُطرح هنا هو عن استعداد تلك الدول وطلّابها للتعامل مع هذا التعليم! 

ثمّ إنّ هناك انتقادات مطوّلة من خبراء في التربية لهذه التقنيات ذاتها. بل إنّ دراسةً لمركز السياسات الوطنيّة التعليميّة في الولايات المتحدة أوصت في العام 2019 بوقف المدارس الرقميّة في البلد، أو بتقليلها، بغاية التأكّد من أسباب ضعف مردودها؛ وهو ضعفٌ ظهر جليًّا في خلاصات الدراسة، مقارنةً بالمدارس التقليديّة.[4]

 

التعليم الرقميّ يؤدّي إلى تخريج طلبة أقلّ كفاءةً

 

تؤكّد لينو غوزيلا، رئيسةُ جامعة ETH في زوريخ، أنّ التفاعل بين الطلبة وأساتذتهم في فضاءٍ جامعيّ حقيقيّ صغير هو مفتاحُ التعلّم العميق.[5] وتقول يانغ هاي وين، من جامعة الطبّ في غوانزو الصينيّة، إنّ التعليم الرقميّ يؤدّي إلى تخريج طلبة أقلّ كفاءةً، ويخلق الإحباطَ في التواصل بين الأشخاص.[6]

لقد طالت الأزمةُ الجميعَ، بمن فيهم المعلِّمون المتّصلون بالإنترنت والقاطنون في البلدان المجهّزة ببُنًى أساسيّةٍ يمكن التعويلُ عليها بخصوص تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT). لكنّ هذا التحدّي يبقى أخفَّ وقعًا مقارنةً بالمناطق التي لا تمتلك القدرَ ذاتَه من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. فما يزال هناك حوالي 826 مليون طالب، أيْ ما يعادل نصفَ العدد الإجماليّ للمتعلّمين الذين حالت أزمةُ كورونا بينهم وبين مقاعد الدراسة، لا يمتلكون جهازَ حاسوب في المنزل، في حين أنّ 43٪ من الطلبة - أيْ ما يعادل 706 ملايين طالب - غير متّصلين بالإنترنت.[7]

ومن شأن أزمة كورونا أن تؤدّي إلى تغيير الطريقة التي يَنظر بها العالمُ إلى التعليم من بُعد. فرغم مساوئه التي يرى مراقبون أنّها مؤقّتة وسيتم التغلّب عليها مستقبلًا مع المزيد من التطوّر التكنولوجيّ، فإنّه يبقى بديلًا للتعليم التقليديّ في الحالات الطارئة... علمًا أنّ التعليم التقليديّ بدوره يحتضن الكثيرَ من المساوئ التي قد يدفع وباءُ كورونا إلى التفكير فيها بعمق.

 

مستقبل التعليم بعد كورونا

ختامًا، يجب على الأنظمة التعليميّة، مثلما تُفكّر في التصدّي لهذه الأزمة، أن تفكّر أيضًا في كيفيّة الخروج منها أقوى من ذي قبل، وبشعورٍ متجدّدٍ بالمسؤوليّة من جانب جميع الأطراف الفاعلة فيها، وبإدراكٍ واضحٍ لمدى الحاجة إلى سدّ الفجوات في فرص التعليم وضمان حصول جميع الأطفال على فرص متساةية في التعليم الجيّد. ومن بين الإجراءات التي يمكن اللجوءُ إليها:

1 - تنمية المهارات الرقميّة لدى المعلِّمين والمعلِّمات، مع ما يعنيه ذلك من تطوير برامج إعدادهم أثناء خدمتهم.

2 - اضطلاع محطّات الإذاعة والتليفزيون بمساندة الأهداف التعليميّة الوطنيّة، وبتحسين جودة برامجها. 

3 - تبنّي برامج التربية الوالديّة من أجل تدريب الأهل على التعامل مع أبنائهم ومشاكلهم السلوكيّة والنفسيّة والاجتماعيّة في المراحل العمريّة المختلفة.

4 - تبنّي وزارات التعليم رؤًى وحلولًا للفجوات والتحدّيات القائمة (إتاحة إمكانيّات الاتصال بشبكة الإنترنت في المؤسّسات التعليميّة، وإتاحة المعدّات، ودمج الأدوات الرقميّة في المناهج الدراسيّة، ورفع درجة جاهزيّة المعلّمين).

                                                                                                                                                                           مصر

 


[1]. United Nations Organization (2020): Policy Brief: Education during COVID-19 and beyond, Retrieved from: https://www.un.org, 1/3/2021.

[2]. البنك الدوليّ، "مطلوب تحرّك فعّال وسريع لكبح تأثير فيروس كورونا على التعليم في جميع أنحاء العالم،" https://www.albankaldawli.org، في 1/3/2021.

[3]. لمزيد من التفصيل انظر: 

[4]. الأمم المتحدة (2020)، "موجز سياساتي: التعليم أثناء جائحة كورونا وما بعدها،" https://www.un.org، 1/3/2020

[5]. اليونسكو (2020)، "منظومة التعلّم عن بعد تكشف عن فجوات رقميّة مروّعة،" https://ar.unesco.org.

[6]Times Higher Education(2020), “Will the Coronavirus Make Online Education go Viral?,”

https://www.timeshighereducation.com/features/will-coronavirus-make-online-education-go-viral, 1/3/2021

[7]. اليونسكو (2020)، "منظومة التعلّم عن بعد تكشف عن فجوات رقميّة مروّعة،" https://ar.unesco.org.

خالد صلاح حنفي محمود

أستاذ أصول التربية المساعد، كلّيّة التربية، جامعة الإسكندريّة.