توت توت
03-01-2021

 

لمحها السائقُ تصعد كغيرِها من الرُّكّاب. جلستْ في مقعدٍ خلفيّ وتركتْ نظّارتَها الشمسيّة فوق عينيْها. راح يجمع التَّذاكر، معاونًا المحُصِّل. كان نهارًا مثلجًا، ومزاجُه لا يسمح له بتحمّل صراخ طفلَي السيّدة التي صعدتْ لتوّها وأجلستْ طفليْها وكرشَها قبلها فوق المقعد. سألها: "كم راكبًا يا أختي؟" فهمت السيّدة، فأجلستْ طفليْها فوق حرجِها، وهي تنظر باستعطافٍ نحوه. ناولها بطاقتَها البيضاء، وهو يضع بعضَ أوراق العملة في فمه، وبعضَها في يده، ويهزّ برأسه تأفّفًا.

لم يكن السّائقُ وحده مَن تبرّم مِن ضجيج المرأة وطفليْها. فالدكتور علي، الذي كان آخرَ الواصلين قبل أن يتحرّك الباص، شاء قدرُه البائسُ معاقبتَه مرّتين: الأولى أن يَستخدمَ المواصلاتِ العامّةَ لأنّ سيّارتَه تعطّلتْ، والثانية أن يجلسَ قرب السّيّدة ويحملَ أحدَ طفليْها طوالَ الطريق إلى بيروت.

انتهى محصِّلُ التّذاكر من جمعها، وسلّمها السّائقَ. جلس السائقُ خلف المقود، وعَبْر مرآته الضّخمة نظر - من خلف نظارةٍ طبّيّةٍ غليظة - إلى المرأة في المقعد الأخير. أشاح بصرَه عنها مستعيذًا بالله، وحرّك الباص.

حاول الدكتور علي أن يركّز في مراجعة عناوين المحاضرة التي سيُلقيها. لكنّ طلباتِ السيّدة وعروضَ الأكل السَّخيّة التي كانت تقدِّمُها طوال الطريق لم تنتهِ: "ممكن تمسكه شويّ؟ ممكن تحطّه حدّك حابِبْ يشوف البحر؟ خدلك هالسندويشة تفضّلْ..." ينظر إلى السائق طالبًا نجدةً أو تدخّلًا.

يبتسم السائق الذي بدا أنّه يتسلّى وهو يتابع المشهد. يرفع صوتَ الراديو. يعلو، للحظةٍ، صوتُ المرأة وبكاءُ طفلها على صوت فيروز. يتحمّس السائقُ طربًا ويزيد من سرعته.

" إلهي ماذا فعلتُ كي أعاقَبَ اليومَ بالذات؟" غمغم الدكتور علي. وكأنّ المرأة قرأتْ أفكارَه فقالت: "شكلك مش متزوّج." حرّك رأسَه نافيًا، فأخذت ابنَها من يده، وأخرجتْ صدرَها تطعمُه وهي تقول: " ليش الزّواج حلو؟"

استغرب من كلامها، أيمكن أن تكون سعيدةً؟

بدا له أنّ هذه المرأة قوّةٌ خارقةٌ تقرأ الأفكار. قالت: "الولاد نعمة وعزوة. بيغلّبونا صحيح، بس هول رزْق من الله. أنا عندي غيرهن بالبيت. تاركيتن مع البنت الكبيرة، الله يحميها." أنهت إرضاعَها، وأعادت ثديَها الكبيرَ تحت بلوزتها، فسكت الصغيرُ ونام. نظرتْ نحو الشُّبّاك، وتركت الدكتور علي لأفكاره.

***

"أكرهُكَ. هاتِ المحمول. أتظنّ أنك ستتحكّم بحياتي؟ أكرهُكَ. لا أريدُكَ. هاتِ المحمول. اطلب المحامي. سأخلعك. أيّها الجبان، إنْ لم تطلّقْني فسأخلعُك."

أشاح الدكتور علي بوجهه. كأنّ تلك الجُملَ آلةُ عبورٍ في الزّمن: فإذا به يَلحق بزوجته من زاويةٍ إلى زاوية، يحاول أن يأخذَ مفتاحَ الغرفة الذي دسّتْه في جيب سروالِها، وهي تحاول أن تستعيدَ محمولَها منه كي تمنعَه من أن يقرأ آخرَ محادثاتِها. "ابتعدي. أعطيني كلمةَ المرور. لِمَ تُخْفينها؟ ممّ تخافين؟ اكتبيها هنا. أقول لك اكتبيها. أَبعِدي يدَكِ عنّي. اكتبي كلمةَ المرور اللعينة. أقولُ لك اكتبيها."

يضغط على عنقِها. تجحظ عيناها. ترفسُه. تحرِّر نفسَها منه. تدور. تنجح في اختطاف هاتفِها من يده. تهوي يدُه على خدّها. تدوّي الصّفعة. تنظر إليه بقرفٍ وغيظ. تُخرج المفتاحَ من جيبها. تديره في الباب. يطحن صوتُ صريره ما بقي من كرامته. يختنق. أين الأولاد؟ أين أنتِ، أمّاه؟ أصواتٌ وحركاتُ أيدٍ تمتدُّ وتلوّح. رؤوسٌ تتلوّى. عيونٌ تبحلق. لا يفهم ما يحصل. طلاق؟ ما معنى ذلك؟ لا يصدِّق. هذا خيال. يمسك رأسَه. يقف، فيسكت الجميع. تهدأ الغرفةُ المسقوفةُ بدخان السّجائر وفحيحِ الألسن التي تناقش طلاقَه. ينظر إليهم ولا يراهم. يزحف نحو الباب المفتوح ويسقط.

***

غمزها البائعُ وهي تحاسبُه. ظنّت أنه يَطْرف بعينه، لكنّه كرّر الحركة. نظرتْ وراءها. لم يكن في المكتبة غيرُها. سبقتْها ابنتُها الكبرى إلى السيّارة. ناولها أغراضَها. طلب منها رقمَها. استغربتْ من طلبه. احتجّ بأنّهم يرسلون رسائلَ عن عروضهم إلى الزبائن، وهي منهم.

شردتْ وهي تقود سيّارتَها. سألتْها ابنتُها الكبرى: "ماذا يحدث؟ منذ خرجنا من المكتبة كدْنا نتعرّض لثلاث حوادث سير." لم تردّ. منذ زواجها لم يكترثْ لها أحد. زوجُها لا يكترث لغير المناصب والمحاضرات التّافهة التي ينقل معظمَها عن الإنترنت. لطالما أشعرها أنّها أقلُّ منه، فاستسلمتْ لأنّها تعرف أنّ حظَّها من الجمال لم يشفعْ لها عنده. وكما قالت لها أمُّها يومَ جاءت تخطبها خالتُها للدكتور علي: "إضحكي بعبّك."

كانت تراجع حساباتِ الشّهر مع زوجها كالعادة. وحين جاء دورُ القرطاسيّة عبّرتْ عن غضبها من ذلك الشابّ الذي لم يعاود الاتّصال. لم يعلّقْ. التفتتْ إلى محمولها وقرأتْ رسالةً جعلتْها تبتسم. ندمتْ على تسرّعها. لم ينم الدكتور علي ليلتَها.

هل تقتلنا أقدارُنا أكثرَ من مرّة؟ هل كان عليّ أن أقدّم تنازلاتٍ إضافيّةً إلى هذه الحياة؟ ألا يكفي أنّي تزوّجتُها؟ لقد اشتريتُ بيتًا وسيّارة ولم أقصّرْ يومًا معها.

ينثال كلامُها وهو ينظر إلى المرأة وطفليْها ينامون بهناءة:

"أتظنّ أنّي لا أشعر كيف تنام معي؟ هل قالوا لكَ في قاعات المحاضرات إنّ المرأة حائطٌ تكتب فوقه ما علّمتْك إيّاه خطاياكَ السّابقة؟ صحيح أنّني لم أكمل تعليمي مثلَك، لكنّ لي قلبًا، حرمتَه أبسطَ حقوقه. كنتَ تنام معي واجبًا. أنجبتُ لك أولادًا، بينما كنتَ تقذف غضبَكَ فيّ. لا تمثّل الغضبَ! لقد خنتَني عشراتِ المرّات. أظننتَ أنّي لم أشعر بذلك؟ شممتُ فوق صدرك عطورَ تلك النِّسوة. ومن حرصي على العائلة تركتُكَ تفعل ما يسعدُك. هل علّمكَ ذلك احترامَ صمتي؟ أبدًا! تمادى غرورُك وتعاظمتْ نظرتُك الدُّونيّةُ إليّ. لا تلُمْني. لقد فتّشتُ عن اهتمامٍ بسيطٍ لم أجدْه عندك يا دكتور علي العظيم."

صرخ السائق. انتبهَ عليّ. دارت الأرض. تناثرت المَشاهد. طارت نظّارتُه. المرأة وطفلاها مايزالون نائمين. الرّكّاب بعضُهم تكوّم أمام باب الباص، وبعضُهم مسبَلُ العينين. ما هذا السُّكون؟ وقف. شعر أنّه خفيف. كان يمكنه أن يطير، أن يخرجَ من الباب وهو مكسَّر، أن يرى سيّاراتِ الإسعاف من فوق، ألّا يزعجَه طنينُ زماميرها، أن يرى المرأة التي بقيتْ وحدها حيّةً تخرج من بين ركام السّيّارات وتبتعد وهي تصلح نظّارتَها السّوداء.

صيدا

وداد طه

روائيّة فلسطينيّة. تعمل في حقل التعليم. تحضّر أطروحةَ دكتوراه في الأدب العربيّ. لها ثلاثُ روايات منشورة: ليمونةان، أخون نفسي، حرير مريم. ولها عدّة مقالات ومراجعات نقديّة في الرواية، بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة المنشورة في صحف ومجلات عربيّة.