استيقظتُ والنشاطُ يغمرُ أوصالي. نظرتُ إلى ساعة الحائط؛ ميعادُ العمل لم يأتِ بعد. تناولتُ الفطور. ألقيتُ نظرةً على بعض إيصالات الدفع المتراكمة؛ يبدو أنّني لن أتمكّن من الذهاب في عطلةٍ هذه السنة أيضًا. نظرتُ إلى الساعة مجدّدًا؛ ما زال الوقت مبكّرًا. حاولت العودة إلى النوم، لكنّه جافاني.
أخذتُ أذرعُ المكان، باحثًا عمّا أملأ به وقتي. بعد دقائق انبثق نورٌ أضاء بعضًا من حيرتي: القراءة! أنّبتُ نفسي لهجر الكتب. دقائق أخرى وتفجّر تساؤلٌ أرهق دماغي: ما الذي سأقرأه؟ وكيف أختار من بين ركامات الأدب المتناثرة في غرفةِ المكتب التي عشّشتْ فيها العناكب؟
النرد! اقتضت فكرة النّرد أنْ أحدّد واحدًا من أرقام النرد الخمسة لكلّ خمسة أحرف من أبجديّتنا، ليحظى الرقم ستة بثلاثة أحرفٍ من الأحرف العربيّة. بعدها، أرمي النردَ مجدّدًا، ولكن في هذه المرة ستُمثّل أرقامُ النرد الخمسة الأولى حرفًا من الحروف الخمسة، ويبقى الرقم ستة لإعادة الكرّة. محصّلة هذه الفكرة المجنونة هي تحديد الحرف الأول من شهرة الكاتب.
جلبتُ النّردَ ورميتُه باستعجال، فعاجلني بالرقم خمسة. بديعٌ هذا الرقم، ورمزيّتُه نادرة: خمس حواسّ، خمس أصابع، خمس صلوات،...
والآن، بعد أن أصبح الحرف محصورًا بين القاف والنون، زفرتُ ارتياحًا؛ فلم أكن في مزاجٍ يسمح لي بقراءة همنجواي على سبيل المثال.
نظرتُ إلى النرد محرِّضًا إيّاه على عدم اختيار الرقم ستة، حتى لا أُضطرّ إلى إعادة الكرّة وخسارة المزيد من الوقت. نفختُ عليه، هامسًا له بالعقاب في حال عدم استجابته للتحذير. رميتُه وأخذت أراقب تدحرجه بفارغ الصبر. توقّف بعد هنيهاتٍ ليرتسم الرقم اثنان على سطحه. تنفّستُ الصعداء. حرف الكاف هو اختيار القدر إذًا.
مواجهًا المكتبة، أخذتُ أبحث عن حرف الكاف باستعجال. وصلتُ إليه والإثارة تغمرني. إلى أيٍّ من الكتّاب سيُسْلمني القدر؟
"ما هذا؟!" هتفتُ مذهولًا؛ إذ لم أعثر في مكتبتي على كاتبٍ شهرتُه بحرف الكاف. لعنةٌ لعناء! فلتكن الكاف في اسمه الأول إذًا. لكنّ الفشل كان نصيبي مرّةً أخرى.
خرجتُ إلى شرفة المنزل المطلّة على أحد شوارع المدينة الرئيسة، علَّ ذهني يجد بعضًا من صفاء. فكّرت: لمَ لا أذهب إلى المكتبة التي تبعد أمتارًا قليلةً؟
وصلت إلى المكتبة، فدفعتُ بابها بغلظة. جالت عيناي في أرجائها باحثًا عن أمينها، الذي ما إنْ رآني حتى هبّ واقفًا وهمَّ بالصراخ في وجهي، لولا أن استوقفه صوتي الهادئ: "ألديكم رواياتٌ لكاتبٍ تبتدئ شهرتُه بحرف الكاف؟"
مرت لُحيظاتٌ تاريخيّةُ البطء، قبل أن تأخذ عيناه بالعودة إلى محجريهما، وتتحوّل ملامحُه من الغضب إلى الدهشة. كرّرتُ سؤالي بلهجةٍ أشدّ حزمًا، فخرج صوتُه عذبًا بما لا يتناسب وملامحَه القاسية: "نعم يوجد. أهناك كاتبٌ بعينه تودّ الاستفسارَ عنه؟" "أريدك أن تنصحني أنت بكتابِ فكرٍ أو فلسفة، أو قصةٍ تجمع بين الاثنين." صمتُّ قليلًا، لأردف بعدها بتهذيبٍ زائد: "وأرجوك العجلة؛ فقد خسرتُ من الوقت الكثير." أطرقَ هنيهةً ثم قال، وقد تخلّلتْ وجهَه مسحاتٌ من الغبطة: "سأعطيك روايةً بعنوان المحاكمة للكاتب التشيكيّ الشهير فرانز كافكا." وافقتُه بإشارةٍ من رأسي، فاختفى ليُحْضر الكتاب. دفعتُ الحساب، وخرجتُ متمهّلًا.
ما إن أصبحتُ على مسافةٍ من المكتبة حتى أطلقتُ جسمي للريح. وصلتُ المبنى. لم يكن بي جَلَدٌ على انتظار المصعد، فصعدتُ الدرجَ وأنا أكاد لا ألمسه. دخلتُ المنزل، وتوجّهتُ كالبرق إلى أريكتي المفضّلة. أخرجتُ الكتابَ من الكيس القماشيّ الفاخر الذي يحمل شعار المكتبة. أسندتُ ظهري إلى وسادتي الوثيرة التي اشتريتُها مؤخّرًا. فتحتُ الكتاب، وشرعتُ بالـ.....
مهلًا! كيف نسيتُ طقسي الأزليّ في القراءة؟ أيُعقل أن تمَّحي ذكرى كوب الماكياتو والغليون مع الموسيقى الكلاسيكيّة من سلّة أفكاري؟ أنظرُ إلى الساعة مجدّدًا؛ ما تبقّى من الوقت يكفي لأحضّر طقوسي وأنهي جزءًا معقولًا من الكتاب. أدرتُ الموسيقى أولًا. أنهيتُ تجهيزَ الغليون، واتجهتُ إلى آلة تحضير القهوة التي استغرقني شراؤها شهورًا من الاقتصاد في النفقات.
المحاكمة، بقلم كافكا. قرأتُ هذه الكلمات وانتقلتُ إلى الصفحة الأولى: نبذة عن حياة الكاتب. النبذة إلى الجحيم. إلى اللبّ!
رنَّ جرسُ الهاتف. نظرتُ إلى الشاشة لأرى صورةَ أحد زملائي في العمل. لتذهب الشركةُ كلّها إلى الجحيم، فلن أتزحزح من مكاني حتى أسبر بعضًا من أغوار هذا الكتاب. ارتأيتُ أن أحوِّل وضعَ هاتفي النقال إلى الحالة الصامتة، وهممتُ بذلك لولا أن استوقفتني النغمةُ المميّزةُ التي خصّصتُها للرسائل النصّيّة القصيرة. نظرتُ إلى المرسِل فإذا به الزميل الذي حاول الاتصال آنفًا. ضغطتُ على رسالته وقد بدأ الشكُّ يتسلّل إلى عقلي، إذ لم يكن من عادة هذا الزميل أن يلحّ عليَّ في الاتصالات. قرأت: "توفّي رئيس الشركة البارحة جرّاء حادث سير. تُغلق الشركة حتى إشعار آخر. تُقبل التعازي ابتداءً من الليلة..."
"مات!" صرختُ هذه الكلمة بصوتٍ مدوٍّ جعل ثلاثةً من جيراني يهرعون إلى شقّتي. لا يحبّون أن تفوتَهم نوبةٌ من نوبات انهياري العصبيّ التي طالما شكّلتْ بالنسبة إليهم "سيركًا" من التصرّفات الغريبة، يشاهدونها كلَّ فترة ليشعروا بالرضا عن حياتهم الرتيبة ويحمدوا الإلهَ على أنّهم لم يبتلوا بعفاريتي. "تبًّا لهم،" قلتُ في نفسي، وأنا أعتذر إليهم عن "أصواتي الغريبة" على حدّ تعبيرهم.
عدت لأجلس على سريري مشدوهًا لسير الأحداث في هذا اليوم. لم تعد ثمّة أهمّيّة الآن لموعد العمل، ولا لكيفيّة استغلال الوقت المتبقّي. أطرقتُ قليلًا. تذكّرت ما جاء في رسالة النعي: "تُقبل التعازي ابتداءً من الليلة..." أأذهب اليوم أمْ غدًا؟ إن تغيّبتُ اليوم فقد يقولون إنّني تلكّأتُ بسبب مشاحناتي السابقة مع مدير الشركة، وأنا في غنًى عن ذلك، خصوصًا أنّ المدير الجديد سيكون ابنَه أو ابنَ أخيه على الأرجح. سأذهب الليلة رغمًا عن أنفي.
حاولتُ إعادةَ ترتيب أفكاري وعقلنتها. زفرتُ والحسرةُ تملأُني على حياتي التي أضعتُ الكثير منها في تأمّلاتٍ لم تعد عليّ إلا بمزيدٍ من الحزن. بدأ النعاس بغزوي، فاستسلمتُ له. طرقاتٌ إيقاعيّةٌ على الباب. نظرتُ إلى الساعة لأجدَها تشير إلى الثالثة إلّا ربعًا. زحفتُ إلى الباب، ونظرتُ من عينه، فإذا بشابّةٍ ممشوقةِ القوام، تقف باستحياءٍ مصطنع: إنّها جارتي "لطيفة،" ابنة العمّ تحسين، التي بلغتْ مؤخّرًا التاسعة عشرة وأصبحتْ تطاردني بالكلام المعسول والضحكات ذات المغزى. كنتُ كلّما تعرّضتُ لتحرّشاتها الصبيانيّة أتذكّر مقولة جدّتي: "جيل آخر زمن." لطالما أشفقتُ على لطيفة؛ فقد تربّت على أنَّ الزواج غايةُ وجودها الوحيدة، لذلك فهي لا تريد إهدار المزيد من الوقت!
عاودت الطرقاتُ الإيقاعَ نفسه. لا أنكر أنّها جذّابة وأنّني فكّرتُ فيها مراتٍ عدّة، لكنّني صائمٌ عن النساء مذْ هجرتْني ديمة. هذا ما كان ينقصني الآن: أن أتمرّغ في ذكرى معذّبتي الأزليّة! توقّفتْ طرقاتُ الباب لتبدأ أخرى صادرةٌ عن الحذاء ذي الكعب العالي الذي لم تكن لطيفة تغادر منزلها من دونه.
تثاءبتُ بتململٍ لذيذ قائلًا في سرّي: "عليَّ الآن تحضير طلاء النفاق وريشة الكذب لرسم تعابير الفجيعة على محيّاي اللّامبالي، فأنا لا أريد خسارة عملي." كان التحقّق من الوقت هذه المرة من نصيب ساعة يدي التي أشارت إلى الثالثة تمامًا؛ ما يعني أنّ عليّ، وللمرّة الثانية اليوم، أن أواجهَ معضلتي الأزليّة: كيف سأقضي ما تبقّى من الوقت؟