في طابور البنزين
18-07-2021

 

- يلعن الساعة اللي جبتِكْ فيها!

من تحت الشجرة الصغيرة التي تُظلّله، رماها بنظرةٍ حاقدة، وبتلك الكلمات الغاضبة التي لم يتخيَّلْ أن يوجّهَها إليها يومًا.

***

في طفولته، كانت الجولةُ في السيّارة بصحبة والده هي متعتَه العظمى. وكان حلمُه الأثير أن يكبرَ فيصيرَ كوالده ويقتنيَ سيّارةً كسيّارته؛ فلا يحتاجَ أن يتضرَّعَ إليه، أو أن يرهقَ نفسَه في تكلّف الانضباط والسلوك الحسن كي يحظى بشيء من هذه المتعة. وقد تحقّق حلمُه متأخّرًا سنواتٍ عن موعده المفترض، فاقتنى سيّارةً صغيرةً بفضل قرضٍ كبيرٍ التهمَ ما يزيد عن ربع راتبه الشهريّ على مدى خمس سنوات.

لحظةَ أمسكَ بمفاتيح السيّارة للمرّة الأولى، كاد لا يتذكَّر حلمَه القديم. كان الأمرُ برمّته عبارةً عن استجابةٍ لواقعٍ مستجدّ، تمثّل في أسرةٍ صغيرةٍ لا تنتهي متطلِّباتُها، خصوصًا مع إصابة أصغر الأبناء الثلاثة بمرضٍ دائمٍ يستوجب رعايةً دائمةً وزياراتٍ متكرّرةً إلى الطبيب.

منذ اللحظة الأولى ربطتْه عاطفةٌ متناميةٌ بهذه التويوتا الزرقاء التي يسَّرتْ أمرَه بعد طول تعثّر، وأعفتْه من مشقّة التنقّل بالسرفيس مع أسرةٍ كاملة. ولطالما دلّلها كأنّها حبيبة، ولم يقصِّرْ يومًا في أداء حقّها: من الاعتناء بنظافتها يوميًّا، إلى تصليح أيّ عطلٍ يطرأ عليها، وانتهاءً بتزويدها بما تحتاجُه من ماءٍ ووقودٍ وزيتٍ للمحرِّك والكوابح والمقود وغازٍ لجهاز التكييف. لكنّها باتت عبئًا ثقيلًا عليه ووسيلةً لإذلاله كلّما خاض غمارَ يومٍ جديدٍ من الانتظار أمام محطّة المحروقات لتزويدها بالوقود الذي صار عزيزًا في الأسابيع الأخيرة.

الطقس حارّ اليوم، وجهازُ التكييف الذي يستهلك المزيدَ من الوقود ترفٌ لا محلَّ له في زمن الأزمة. فمحرِّكُ السيّارة نفسُه يُطفَأ في ساعات الانتظار، ويُعاد تشغيلُه فقط حين يتقدّم الرَّتلُ الطويلُ أمتارًا قليلةً كلَّ حين.

كان قد هبط إلى الشجرة اليتيمة، التي صودف أنّ سيارتَه استقرَّت بمحاذاتها، كي يستظلَّ بظلّها. فيْءٌ نادرٌ لن يكون متاحًا حين يتحرّك الطابورُ بعد قليل. نظر إلى ساعته فوجدها قد تجاوزت التاسعةَ والنصف. محاضرتُه في الثانية عشرة، ولديه بعدها موعدٌ مهمٌّ عند الساعة الثانية، ومعدّلُ انتظاره المعتاد في الطابور ساعتان. لن يتأخّر، إذًا، على طلّابه الذي أحبّوا مادّةَ "حوار الحضارات" بفضله. ولكنّ حركة الطابور، التي بدت أبطأ من المعتاد، تحوَّلتْ إلى توقّفٍ كاملٍ مدَّد إقامتَه في الفيء.

كان قد عزا البطءَ الاستثنائيَّ إلى ازدياد التجاوزات: تلتحق سياراتٌ بالطابور في نقاطٍ متقدّمة، بعد أن يستغلَّ سائقوها المساحاتِ الفارغةَ المتروكةَ عمدًا كي لا يسدَّ الطابورُ مفارقَ الأحياء، موفّرين على أنفسهم جزءًا كبيرًا من الانتظار المفترض، ولكنّهم يضاعفون معاناةَ غيرهم. وقد يتواطأ أعضاء في الطابور مع السائق المتجاوِز فيغضّون الطرفَ عنه؛ وهذا ما يحصل غالبًا حين يكون المتجاوِزُ فتاةً حسناءَ لا قِبَلَ لأحدٍ بردّ طلبها.

ولكنّ التوقّف التامّ نصفَ ساعةٍ كاملة لا يستقيم منطقيًّا مع محطّةٍ بستّة خراطيم ناشطة طوال الوقت، مهما زادت التجاوزات. تصله الأنباءُ بالتواتر من سائقين "جيران" قصدوا المحطّةَ سيرًا على الأقدام ثمَّ عادوا. يقولون إنّ صاحبَ المحطة قد أعلن الإضرابَ احتجاجًا على تجمهر الرعايا أمام مملكته الصغيرة وعوْقِهم عملَ جنوده!

انفضّ التجمهر، وعاد كلُّ سائقٍ إلى سيّارته، فتحرّك الرتلُ مجدًدًا بالبطء ذاته.

في الطريق إلى الفوز الكبير، المتمثّل في امتلاء الخزّان بالوقود، ثمَّة انتصاراتٌ صغيرةٌ كان يشعر بها. فكلّما حاول متذاكٍ "حشرَ" سيّارته في فسحةٍ هنا أو هناك، تكاثر حوله السائقون، فأحاطوه بالنظرات الغاضبة، ثمَّ بالكلمات المعترضة، التي تتعالى رويدًا رويدًا، قبل أن تتحوَّلَ إلى ضربٍ بالأكفّ على هيكل سيّارته، ليكسرَ الفردُ المتذاكي الشرَّ ويلوذَ بالفرار.

تجاوزت الساعةُ الثانية عشرة، وتبدَّد احتمالُ وصوله إلى طلّابه. اتّصل بأحدهم ليطلبَ إليه إخبارَ رفاقه أن لا ينتظروه. وراح يشرب كوبًا من "الفريسكو" مع شابٍّ يماثلهم سنًّا.

- فوق النطرة، البنزين عم يجي مضروب. عم تلاحظ يا إستاز إنّو بتفْضى السيّارة دغري؟

- بحسّ هيك، بس ما عم عيِّر المسافة والكميّة حتى اتأكّد.

- الله وكيلك يا إستاز عم تخدمني التفويلة بيوم واحد.

- شوفير تاكسي؟

- لأ، بس فهمك كفاية إستاز. سيّارتي BM ملغومة، بتبلع بنزين بلع. وأنا كمان ما بِهْدى.

"ملغومة"! الشابّ الذي "لا يهدأ" طوال النهار لا وقتَ يبقى لديه للعمل حتمًا. فكَّر في مهنة والده التي تتيح له التجوّلَ بسيّارته بهذا الشكل في ظلّ غلاء المحروقات وانقطاعها الجزئيّ. وفكَّر أيضًا في الحرب التي انتهت ولم تغب مفرداتُها.

لكنّ جلبةً آتيةً من الأمام قطعتْ حبلَ أفكاره. فقد سمع جدالًا سببُه نشوءُ طابورٍ رديفٍ قبل المحطّة بحواليْ مئتيْ متر؛ طابور وجد لنفسه مكانًا في أحد الطرق الفرعيّة، ومنه تسرَّبتْ سيّاراتُه بهدوءٍ لتلتحمَ بالطابور الرئيس، في نقطة ضعفٍ تمثّلتْ في خمس سيّارات يقودها مُسنّون لا قِبلَ لهم بالعراك والمماحكة، خصوصًا أنّ أعضاءَ الطابور الرديف جُلّهم من الشبّان المفتولي العضلات.

وبعد أن اكتشف الشبّانُ في الطابور الأساس ما يحصل في المقدّمة، كان الأمر الواقع قد تمخَّض عن طابوريْن فعليّيْن: واحد طويل عمرُه خمسُ ساعات، وثانٍ مستحدَث لا يضمّ أكثرَ من عشرين سيّارةً وعمرُه نصفُ ساعةٍ فقط. وكان لا بدّ من مفاوضات، ومن تسويةٍ "لبنانيّة" لا تُفني القطيعَ ولا تُميت الذئب. وقضت التسويةُ بأن تمرّ ثلاثُ سيّارات من الطابور الأصيل مقابلَ كلّ سيّارةٍ من الطابور المستحدَث!

لكنّ أدهم، سائقَ التاكسي الأسمر، وقائدَ الطابور الثاني والمفاوِضَ باسمه، وصاحبَ الطول الفارع والزنود المفتولة، لم يلبثْ أن أخلف بالاتفاق وتلاعب بأعداد السيّارات. وقبل أن تحتدمَ الأمورُ مجدَّدًا، نقل أدهم النقاشَ إلى مكانٍ آخر:

- مجبورين نتحمّل بعضنا. أصلًا حقّنا وحقّكم عند حدا تالت. إيه، في طابور تالت عم يشكّ على المحطّة دغري، وعلى عين صاحب المحطّة. هول جماعتُه! ما بينطروا ولا تكّة. وكلّ شوي، بحجّة إنّه مزعوج من الضجّة والتجمّعات، بيعمل إضراب. ليش لو الدور ماشي، كنّا بننزل من سيّاراتنا وبنتجمّع؟

"أنا وخيّي على ابن عمّي، وأنا وابن عمّي على الغريب،" يقول المثل. وبالفعل فقد أقنعه حديثُ أدهم، كما أقنع  الجميعَ، وشعر بمودَّةٍ تجاهه، وانخرط في حركته سريعًا. قاد أدهم "جاهة" من الطائفتيْن إلى المحطّة، فيها خليطٌ من المسنّين والشباب، وأستاذٌ جامعيٌّ أيضًا. هدّد أحدُ الحاضرين صاحبَ المحطّة بأن يشكوه إلى الجهات المختصَّة، فاحمرَّتْ أوداجُه وأعلن العودةَ إلى الإضراب. لكنّ أدهم لمّح إلى أنّ مراسلًا لإحدى القنوات التلفزيونيّة قد يمرّ في المكان ويفهم الأمورَ خطأً فتحدث فضيحةٌ لا داعي لها وقد تُقفل على إثرها المحطّة. عندها فقط استعاد صاحبُ المحطّة هدوءه وتعهَّد باستجابة المطالب وضبطِ الأمور والالتزامِ - ما أمكن - بطابورٍ وحيد.

بعد وقت قصير، وجد نفسَه أمام الماكينة الحلم، تضخّ في سيّارته إكسيرَ الحياة ذا الرائحة الجميلة بعد سبع ساعاتٍ كاملة من الانتظار. نقدَ العامل مئةً وثمانين ألف ليرة. ابتسم بمرارةٍ حين فكَّر أنّ عليه - وفاقًا للتسعيرة الجديدة - أن يدفعَ ثمانين في المئة من راتبه ثمنًا للوقود كي يتمكّنَ من الوصول إلى عمله!

على أنغام "منمشي ومنكفّي الطريق" التي انبعثتْ من الراديو في مصادفة لطيفة، انطلق. ورغم تبخّر الموعد الأوّل، ومن بعده الثاني، فهو لا يزال مستعجِلًا؛ فقد شارف النهارُ على الانتهاء، وعليه أن يصلَ إلى منزله فيستحمَّ ويتناولَ الطعام ويلاعبَ أطفاله قليلًا قبل أن يخلدوا إلى النوم.

وإذ فكّر في أطفاله المنتظرين، زاد من ضغطه على دوّاسة البنزين. وكان قد نسي أنّ سمير "البنشرجي" كان قد حذَّره في آخر مرّةٍ زاره فيها من أنّ إطاراتِ سيّارته تجاوزتْ عمرَها الافتراضيّ. ولكنْ أنّى له أن يستبدلَها وقد باتت هي نفسُها تحتاج إلى قرضٍ مصرفيٍّ آخر؟

وحتى حين انفجر الإطارُ الأماميُّ وانقلبت السيّارةُ على نفسها عدّة مرّات، فإنّه لم يتذكّرْ نصيحةَ سمير. كلُّ شيء حدث بسرعةٍ هائلة. خذلتْه الملعونةُ التي أحبَّها، ولم يكن أمامه وقتٌ كافٍ ولو لـ"لعنِ الساعة."

 صور

مهدي زلزلي

كاتب من لبنان. له مجموعة قصصيّة بعنوان: وجهُ رجلٍ وحيد.