نصٌّ مختطف
14-08-2017

 

 

قيلَ لي ذاتَ مرّة إنّ الثقافة زادُ الفقراء. غير أنّ تلكَ العبارة لم تقْنعْني حينها، لِما فيها من مبالغة.
أذكر أنّ أخي الأكبر كان يؤنِّبني لدى دخولي الغرفة حاملًا بعضَ الكتب. كان الموقفُ في كثيرٍ من الأحيان مثيرًا للسخرية والتهكّم، على مبدأ "عم تضيّع مصاريك عالفاضي."

استحضرتُ ذلكَ المشهد كاملًا قبل عدّة أيّام، أثناء قراءتي أحدَ تلك الكتب.

كانت واحدةً من ليالي صيف العام 2015. جملة الإهداء التي كتبتهُا لنفسي في الصفحة الأولى من الكتاب تذكّرني بتاريخ تلك الليلة. كيسٌ أبيض فيه خمسةُ كتب مستعملة كنتُ قد ابتعتُها عن الرصيف.
كانت عناوينُ الكتب كافيةً لتثير شهيّتي، إذ لم أُلقِ بالًا حينها لاصفرار الأوراق أو للغبار المتراكم في طيّاتها.
أمّا أخي ــــ خرّيجُ الاقتصاد ومديرُ البنك الناشئ حينها ــــ فكانت له مقاربةٌ أخرى للأمور؛ إذ كان يراها تجارةً خاسرةً حتمًا. وكان يعتبرها ضربًا من الجنون، خصوصًا حين قلتُ له ممازحًا، في نهاية محاضرة "الأصول في الشراء والقيمة المضافة،": "معك 2000 ليرة؟". كان سؤالي كافيًا لتحفيزه على البدء مجدّدًا.
استحضرتُ تلك الصور. قلّبتُها في مخيّلتي كما كنت أقلّب صفحاتِ الكتب الثلاثين التي أورثتني إيّاها دمشقُ قبل رحيلي. وكنتُ أعيد على نفسي السؤالَ ذاتَه: "هل الثقافة فعلًا زادٌ للفقراء؟!"

إنْ كان هذا صحيحًا، فكيفَ للفقير أن يثقّف نفسَه في بلدٍ أكلتْ منه الحربُ ما أكلتْ، ليعزَّ فيها كلُّ شيء عن متناول يده. وتلك الكتب المستعملة الملقاة على قارعة الطريق صارت تكلّف ثروةً بالنسبة إلى البعض، على مبدأ "حقّه ليرة وما في ليرة." حتى الأفكار صارت تُباع وتشترى، فعن أيّ زاد إذًا نتحدّث؟
هذا إذا أردنا الحديث من زاوية الواقع. أمّا أنا فأحبُّ أن أفتحَ نافذةً، وإنْ صغيرةً، على عوالم الفلسفة والخيال. ومرَّدُ ذلك سؤالٌ -- طرحتْه عليَّ صديقتي فرح  -- عن سبب مجافاتي للكتابة منذ زمن.
المسألة هنا ليست مجالًا مفتوحًا للتعميم وإطلاق الأحكام. فأن تقرأ كتابًا أو عشرة أو مئة لا يعني "بالضرورة" أن تصبحَ من المثقّفين، ولا يدلّ على غناك الفكريّ  أو عدم حاجتك إلى مزيد من القراءة. وأن تجدَ لنفسك مكانًا في صفحات الروايات لن يحرّرك من بجاحة الواقع الذي سيصفعك مرّاتٍ ومرّات.

أن تقرأ كتابًا يعني أن تشاركَ صاحبَه كلَّ تلك اللحظات التي واكبتْ فعلَ الكتابة، وكلَّ تلك الثواني المليئة بالابتسامات والدمع، الكفيلةِ بإطلاق شرارة الفكر. وأن تقرأ يعني أن تتحسّس تلك النشوةَ التي انتابت الأصابعَ وهي ترسم لك مقعدًا بين الأشخاص والأماكن.
أن تقرأ كتابًا يعني أن تنظرَ في المرآة بين يديك، وتعدَّ نمشَ الحياة بين خطوط روحك، وأن تسألَ نفسَكَ ملايينَ الأسئلة عمّا كان وسيكون، في أدقّ تفاصيله: فتراجعَ لونَ الحائط في الغرفة، وألوانَ الستائر، وشكلَ الصورة التي تريد تعليقَها أعلى السرير، وترتّبَ للزمن موعدًا مع الصفحة الأخيرة.
فما بالك بمن امتهن رسمَ الشخوص ونسجَ الحكايات لنفسه؟
في دمشق، كان يكفي أن أمدَّ يدي إلى الهواء كي لا أعودَ خاليَ الوفاض. زاخرةٌ دمشقُ بالحكايا، يا صديقتي.
ومذ غادرتُها، أدركتُ كم أحتاج من الوقت كي أتحرّرَ من لعنة البحث عنها أينما ذهبتُ، ومِن تكراري المبالغ فيه لعبارة "عنّا بالشام..." في كلّ حديثٍ أو مشهدٍ عابر.
قدرتها عجيبة على استيلاد التفاصيل واحتلال الذاكرة.
وتأكيدًا لما قلت: ها قد مضى عامٌ كاملٌ لم أكملْ فيه كتابًا واحدًا لكثرة الانشغال بمجابهة الواقع. وهو ما دفعني إلى القفز من حوافّ الكتبِ والهوامش الصفراءِ المملوءة بالملاحظات، إلى حوافَّ أخرى أمضى من رحابة المخيّلة. وذلك ليس هربًا من فعل الكتابة، وإنّما هو محاولةٌ لترتيب الذات، ولاستدراكِ ما بقي من أحلامٍ غُرّبتْ معنا في حقائبنا.
ثقيلٌ حملُ دمشق على كواهلنا، ياصديقتي، في الحضور والغياب. ثقيلٌ. ثقيل.

محمد علي دياب

صحفيّ سوريّ حاصل على إجازة في العلوم السياسيّة من جامعة دمشق، بالإضافة إلى دبلوم في الإعلام من الأكاديميّة السوريّة الدوليّة.