ندوة "الآداب": كورونا والإمبرياليّة وتحدّيات المواجهة
25-05-2020

 

أدارها: إيّاد قيشاوي. شارك فيها (ألفبائيًّا): غلوريا لاريفا، مناضل حرز الله، نينا فارنيا.

نقلها إلى العربيّة وحرّرها: سماح إدريس وعُبادة كسر

 

تستكشف هذه الندوةُ الحواريّةُ، التي جرت عبر "زووم،" آثارَ الجائحة العالميّة كوفيد-19 في النظام الإمبرياليّ الأميركيّ، ومن ثمّ الجهاز الرأسماليّ المعولم المخصخص. وسيجري فحصُ ثلاثة مجالات بشيء من التفصيل: 1 - واقع فلسطين المحتلّة في خضمّ الجائحة، والممارسات الإسرائيليّة الإباديّة ضدّ الفلسطينيين. 2 - الحروب الاقتصاديّة والعسكريّة الأميركيّة على إيران، وعلى المقاومة في فلسطين ولبنان. 3 - ردّ البلدان التي تتبنّى الاشتراكيّةَ في أميركا اللاتينيّة على نظيراتها في الولايات المتّحدة وأوروبا.

ثلاثة باحثين يتناولون هذه الموضوعات. وقد أدار الحوار إيّاد قيشاوي. والمشاركون هم:

- إيّاد قيشاوي، وهو ناشط فلسطينيّ، وعضو اللجنة التنسيقيّة لمنظّمة العودة (تحالف حقّ العودة الفلسطينيّ).

- مناضل حرز الله، وهو ناشط فلسطينيّ، وعضو في الشبكةالأميركيّة-الفلسطينيّة (US-Palestinian Community Network).

- غلوريا لاريفا، وهي عضو في حزب الاشتراكيّة والتحرير.

- نينا فارنيا، وهي ناشطة إيرانيّة-أميركيّة، ورئيسة سابقة لـ"النقابة الوطنيّة للمحامين،" وعضو مؤسِّس في "اللجنة المناهضة للإمبرياليّة تضامنًا مع إيران."

***

* إيّاد: الجوائح موجودة منذ أكثر من ألف عام. والأنظمة الصحّيّة في معظم بلدان العالم "المتقدِّم" فشلتْ فشلًا ذريعًا في التعامل مع الجائحة الحاليّة. أمّا المجتمعات التي تحظى بقياداتٍ ثوريّة، فقد تعاملتْ معها بفعّاليّةٍ كبيرة، وتمكّنتْ من الحدّ من انتشارها (أو "تسطيح المنحنى" كما يقولون). بلدانٌ، ككوبا التي تعاني حصارًا أميركيًّا منذ زمنٍ بعيد، وهي جزيرةٌ صغيرةٌ لا تتمتّع بالغنى النفطيّ ولا بمواردَ طبيعيّةٍ كبيرة، لم تكتفِ بإرسال أطبّاء إلى بلدان الكاريبي وجنوبِ أميركا فحسب، وإنّما أرسلتْهم كذلك إلى أغنى دول العالم. وفي المقابل، فإنّ أغنى دول العالم، أي الولايات المتحدة، لديها رئيسٌ يَختلق أكثرَ الأفكار جنونًا، مثل حقن مرضى الفايروس بالأشعّة ما فوق البنفسجيّة أو بالمعقِّمات السامّة! لماذا، في رأيكم، أخفقت الدولُ الرأسماليّةُ في التعامل مع الجائحة؟

- غلوريا: الحكومة الأميركيّة والإعلامُ الأميركيّ يواصلان التبجّحَ بـ"إنجازات" الولايات المتحدة، وبأنّها "أعظمُ بلدان العالم،" وبأنّ لها "الحقَّ" في أن تقرِّر شكلَ دول العالم الأخرى ومصيرَها. وإذ بنا نرى أنّنا، في الولايات المتحدة، نعيش أفظعَ الأوضاع في العالم: فـ52 ألفًا قد ماتوا في المستشفيات الأميركيّة حتى تاريخ 25 نيسان (أبريل) جرّاء كوفيد-19، والأعداد تتصاعد بما يفوق تصاعدَها في أيَّ دولةٍ أخرى.

العامل الأول في هذا المأساة هو الجهاز (أو النظام) الرأسماليّ الأميركيّ. ففي البلدان الرأسماليّة الأخرى، ثمّة على الأقلّ نظامُ رعايةٍ صحّيّة، لكنْ هنا في أميركا ليس لدينا أيُّ نظام! تخيّلوا أنّ 40 مليون شخص في الولايات المتحدة، حتى قبل اندلاع الجائحة، لم يكونوا يحظوْن بأيّ تأمينٍ صحّيّ، وأنّ 26 مليون أميركيّ خسروا وظائفَهم في الأسابيع الخمسة الأخيرة[1] ولم يحصلوا على وظائف لأنّ الرعايةَ الصحّيّة مرتبطة بالشركات التي كانوا يعملون عندها. هذه كارثة مطلقة! والوضع أسوأ بكثير في حال الأفارقة الأميركيين، والمواطنين من أصلٍ لاتينيّ، والسكّان الأميركيين الأصليين. 70% خسروا وظائفَهم في شيكاغو، والوضع بالغُ السوء في ولايتيْ نيو أورلينز ولويزيانا. الناس في الولايات المتحدة يستيقظون على حقيقةٍ صادمةٍ جدًّا لم يكونوا يتصوّرونها في حياتهم. حتى مَن كانوا يتخيّلون أنّهم يعيشون عيشةً مريحةً ويملكون منزلًا، أصبح كلُّ هذا لديهم موضعَ شكّ كبير.

 

          غلوريا لاريفا: الخلل في غياب رعاية صحية، ونظامٍ اقتصاديّ يرعى شؤونَ الناس، وفي ترامب شخصيًّا

 

هنا يُطرح السؤالُ عن الخلل: الخلل هو في غياب رعايةٍ صحّيّةٍ، وغياب نظامٍ اقتصاديٍّ يرعى شؤونَ الناس. لكنّ هناك عاملًا آخر: إنّه دونالد ترامب، شخصيًّا، الذي يواصل صدمَنا كلّما ظهر على شاشة التلفزيون. وآخرُ ما صدمنا به كان في 23 نيسان (أبريل) حين تساءل، بجدّيّة، إنْ كان يمكن حقنُ (أو "أنْببةُ") المرضى بموادّ الكلور المبيِّضة والمعقِّمات من أجل مقاومة الفايروس! كان ترامب جدّيًّا في طرحه، إلى حدّ أنّ نيويورك تايمز وواشنطن بوست، بل شركةَ كلوركس نفسَها، أصدرتْ تنبيهًا حذّرتْ فيه المواطنين من خطورة استخدام المبيِّضات والمعقِّمات؛ ذلك لأنّ كثيرين يقتنعون بما يطرحه "الرئيس،" مع أنّه يقرأ الإحصائيّات بأكثرِ الطرقِ التواءً، ولا يأبه لحقيقةِ أنّ السجناء في الولايات المتحدة يموتون، وأنّ حوالى 10 آلاف مُسِنّ ماتوا في بيوت العجزة سنة 2020. هذا هو وضعُنا الفعليّ.

- مناضل: في وضعٍ جائحيّ، كالذي نحياه اليوم، نكون فعليًّا إزاء ما نحياه منذ زمنٍ مديد، ولكنّه الآن يظهر بطريقةٍ مكثَّفةٍ لا غير. بمعنًى آخر: الولايات المتحدة، التي ادّعت دومًا أنّها النموذج الذي ينبغي احتذاؤه، قد باتت الآن تحت المجهر. ومن الواضح أنّ تجربةَ ترامب تجسيدٌ لفشل النموذج؛ اذ لا رؤيةَ لدى هذا النموذج، ولا صدقيّةَ، ولا إدارةَ فعّالةً للأزمات. وهذا ليس واضحًا لمن يعيشون في الولايات المتّحدة فحسب، بل للعالم أجمع كذلك. فهناك بلدانٌ ذاتُ مصادرَ وإمكاناتٍ قليلةٍ جدًّا، كما ذكرتم، لكنّها استطاعت أن تديرَ الأزمة، وأن تتمتّعَ بالصدقيّة في التعامل؛ في حين أنّنا نشهد في الولايات المتحدة جشعَ الشركات، وكيف تطمح إلى زيادة أرباحها حتى أثناء الجائحة.

* إيّاد: النظام الصحّيّ الأميركيّ مدفوعٌ بالمصلحة، بهاجس الربح. فقد سُحِب الاحتياطُ الطبّيّ من المستشفيات. ولذلك حين تصاعدتْ وتيرةُ الجائحة، كان الرأسماليّون يَعلمون أنّ المستشفيات سيعتريها الهلعُ، وأنّ الناس قد يموتون في الشوارع. وقد تأخّر الطلبُ إلى الناس وجوبَ البقاء في بيوتهم والعمل منها، لأنّ الشركات خشيتْ من تناقص إنتاجيّتها؛ وهذا ما فاقَم من آثار الجائحة. ما نراه هو انكشافُ الطبقة الأميركيّة الحاكمة وتعرّيها أمام مجتمعها؛ فلا خطّة لديها أمام إدارة أيّ أزمة. الطبقة الحاكمة أخذتْ أموالَ الضرائب، تريليوناتٍ من الدولارات، في خضمّ أسوأ الأزمات الماليّة، وقدّمتْها إلى الشركات الكبرى، إلى أصحابِ الملايين.

- نينا: الولايات المتحدة تنسجم في تصرّفاتها مع ما كتبه كلُّ المفكّرين الماركسيّين، في تقديم إنتاج الأرباح ورأسِِ المال على الناس. وهناك تقاريرُ عن محاولات صِهر ترامب، كوشنير، احتكارَ إنتاج فحوص الكورونا وبيعَها إلى مَن يَدفع أكثر! المفارقة أيضًا أنّ الولايات المتحدة، الغنيّة، ذاتَ النظام الصحّيّ الضخم، لا تستطيع مساعدةَ الناس على مواجهة الفايروس، بل تُنتج فجأةً أطنانًا من الأوراق البحثيّة المتخصّصة في أدقّ تفاصيل هذا الفايروس (مثل إصابة القلّة القليلة منهم بالجلطة بسببه).

* إيّاد: أريد أن أتحدّثَ عن موضوعٍ أوسع، وهو السببُ الرئيسُ للقائنا اليوم: الجائحة والإمبرياليّة. الإمبرياليّة لم تفشلْ في الاستجابة لحاجات الناس داخليًّا فحسب، وإنّما هي تضرب شعوبًا أخرى في الخارج كذلك. أحدُ الأمثلة هو خطفُ الأميركيين طائرةً تُقلّ مُعدّاتٍ طبّيّةً كانت متوجّهةً من شانغهاي إلى باريس، ومصادرةُ محتوياتها. مثالٌ آخر هو وقوفُ الولايات المتحدة بصلابة، إثناء الجائحة، الى جانب الكيان الصهيونيّ الذي لم يَسمحْ إلّا بدخول فحصيْن من فحوص كوفيد-19 إلى غزّة المحاصرة منذ العام 2007، وواصل إطلاقَ النار على الصيّادين. وهناك تقاريرُ في الضفّة عن فرض ضرائب إسرائيليّة على عمّال الرعاية الصحّيّة. مناضل حرز الله، هل يمكن أن تحدّثنا عن الإمبرياليّة أثناء جائحة كورونا وكيف تؤثّر في الشعب الفلسطينيّ؟

- مناضل: قبل أن تبدأ الجائحة، وفي إطار "صفقة القرن" (أو سرقة القرن) والحديثِ عن احتمال ضمّ الضفّة الغربيّة، تقوم "إسرائيل" باعتداءٍ يوميّ على الفلسطينيين. وهي اليوم تستغلّ تركيزَ العالم على فايروس كورونا من أجل وقف مئات الناشطين الفلسطينيين. أمّا الولايات المتحدة فقد هدّدتْ قبل الجائحة بقطع المساعدات عن الأونروا (وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم)، علمًا أنّ أكثرَ من 70% من أهالي غزّة لاجئون ويعتمدون على هذه الوكالة من حيث الطبابة والغذاء والتعليم. وكلّ هذه الاعتداءات والتهديدات تهدف إلى كبح النضال الفلسطينيّ وإضعاف حظوظ مواجهة "صفقة القرن."

 

مناضل حرز الله: الأسرى الفلسطينيون حُرموا مقابلة أهلهم بحجّة الفايروس، وصودر منهم كلُّ ما يساعدهم في الحفاظ على صحّتهم

 

النقطة الأهمّ الآن هي وضعُ الأسرى الفلسطينيين. هؤلاء يعيشون في حالة غير صحّيّة على الإطلاق. وقد مُنعوا من مقابلة أهلهم بحجّة الفايروس، بل صادر الكيانُ الصهيونيّ كلَّ الأدوات التي تساعدهم على الحفاظ على صحّتهم داخل السجون.  أمّا غزّة، فتعيش تحت الحصار منذ 14 عامًا. وهناك 21 إصابةً فيها.

* إيّاد: نحن نعرف أنّ الولايات المتحدة مهتمّةٌ كثيرًا بالحفاظ على الهيمنة الإسرائيليّة في المنطقة من أجل ترسيخ وجودها المستمرّ في فلسطين. وإحدى الأشواك في طريقها هي المقاومة اللبنانيّة، التي طردتْ "إسرائيلَ" من لبنان، وحطمتْ بناها التحتيّةَ في لبنان، ولاحقتْ عملاءَها. وحين حاولتْ "إسرائيل" أن تهاجم لبنانَ من جديد، هزمتها المقاومةُ اللبنانيّة، مدعومةً من "فيلق القدس،" الذي اغتالت الولاياتُ المتحدةُ قائدَه قاسم سليماني مطلعَ هذا العام - - وهذا ما يرقى إلى "جريمة حرب" لأنّ اغتيالَه لم يأتِ من موقع "ردّ الفعل." ونَعرف أنّ الجائحة حين ضربت الصينَ ضربتْ إيرانَ بقوّةٍ شديدةٍ أيضًا. إذًا، الولاياتُ المتّحدة اعتدت على الشعب الإيرانيّ والدولة الإيرانيّة عبر قتل سليماني، في الوقت الذي كانت الجائحةُ تمزّق المجتمعَ الإيرانيَّ تحت ضغط العقوبات الأميركيّة، بسبب قلّة أجهزة التنفّس والأجهزة الطبّيّة في إيران وصعوبة استيرادها جرّاء الحصار. نينا، ما تعليقُكِ على الوضع في إيران، وتحديدًا على الاعتداء الإمبرياليّ على الشعب الإيرانيّ في ظلّ هذه الجائحة؟

- نينا: على كلّ أصحاب الضمير أن يقاتلوا من أجل إنهاء العقوبات والحرب. لا خيارَ آخر أمامنا. العقوبات جزءٌ من حربٍ متواصلةٍ على إيران منذ العام 1979. العقوبات حربٌ اقتصاديّة. وهذه الجولة الحاليّة من العقوبات على إيران هي أقسى أنظمة العقوبات في العالم اليوم.

إيران عانت التهديدَ بالحرب الأميركيّة منذ العام نفسه. وبعد الحصار الأميركيّ سنة 1979، اندلعت الحربُ العراقيّة - الإيرانيّة. ثمّ جاءت العقوبات. وكلُّ ذلك جرى في أعقاب تراجعٍ مريعٍ في التنمية فرضه على البلاد نظامُ الشاه الوحشيّ.

 

نينا فارنيا: العقوبات الأميركيّة تمنع إيرانَ من شراء الأدوات والتجهيزات التي تحتاجها لمواجهة الفايروس 

 

في ما يخصّ هذا الفايروس تحديدًا، أقول إنّ النظامَ الصحّيّ في إيران جيّدٌ بشكلٍ عامّ، ولا سيّما في مجال الرعاية الوقائيّة والأمراض اليوميّة. من السهل الوصولُ الى أطبّاء العناية الوقائيّة في إيران، والأطبّاءُ الإيرانيّون ممتازون. لكنْ حين يتعلّق الأمر بالرعاية المتخصّصة أو بالأمراض الأخطر، فإنّ الجهاز الطبّيّ الإيرانيّ ليس مجهَّزًا بما يكفي. الأجهزة المتطوّرة، مثل أجهزة الرنين المغناطيسيّ وتقنية الأشعّة، موجودة في إيران، لكنْ في المستشفيات الخاصّة فقط، التي هي باهظةُ التكاليف. ثمّ إنّ إيران (شأن الولايات المتحدة وأماكنَ أخرى من العالم في هذا الخصوص) تعاني نقصًا خطيرًا في أجهزة التنفّس وكمّاماتِ N95 وبذلاتِ الوقاية، بل في أدوات التنظيف كذلك. لكنْ ما هو خاصٌّ بالنسبة الى وضع إيران تحديدًا هو أنّ العقوبات الأميركيّة تمنعها من شراء الأدوات والتجهيزات التي تحتاجها. لقد أقرّت المؤسّسةُ الطبّيّةُ في ايران بأنّ الحدَّ من انتشار هذا الفايروس يكون من خلال القيام بفحوصٍ واسعة، لكنّ الإيرانيين لم يستطيعوا شراءَ ما يكفي من أجهزة الفحوص بالسرعة الكافية والمطلوبة لأنّ العقوبات تشمل الجهازَ المصرفيَّ الإيرانيَّ أيضًا، ولا مصرفَ في العالم يستطيع أن يتعاملَ مع المصارف الإيرانيّة من دون أن يتعرّضَ لخطر تلك العقوبات. والمشكلة المهمّة الأخرى هي قلّةُ السيولة الموجودة في البلاد نتيجةً لهذه العقوبات. لذا فقد غدت الأجهزةُ الطبّيّة أبهظَ ثمنًا ممّا كانت، وأصعبَ منالًا.

التضخّم كان رهيبًا في الأصل نتيجةً للحصار الأميركيّ والعقوبات المفروضة على إيران. غير أنّ إدارةَ روحاني، وهي إدارةٌ نيوليبراليّةٌ إلى حدٍّ لا يصدَّق، وجاءت إلى الحكم بفضل الدعم الأميركيّ، خفضتْ قيمةَ الريال ثلاثَ مرّاتٍ هذه السنة، من أجل تشجيع التجارة مع إيران والاستثمارِ فيها. غير أنّ هذه الاستراتيجيّة لم تؤتِ ثمارَها بسبب العقوبات.

اعتقد أنّ إحدى أهمّ النقاط التي أودُّ الإدلاءَ بها هي الآتية: هناك حياةٌ سياسيّةٌ ناشطةٌ جدًّا في إيران، شأن بلدانٍ أخرى. هناك سياسيّون أفضل وسياسيّون أسوأ، وإداراتٌ أفضل وإداراتٌ أسوأ. هناك خلافاتٌ سياسيّة بين الأحزاب، وبين الحركات الاجتماعيّة، وداخل الحكومة. المجتمع الإيرانيّ حيويّ جدًّا. لكنْ، بسبب الأزمات المتعدّدة التي قاستها إيرانُ هذا العام، وبسبب اغتيال الجنرال سليماني، وبسبب إسقاط الإيرانيين طائرةً مدنيّةً عن طريق الخطأ، وبسبب انتشار الفايروس، لم يعد هذا المجتمعُ في حيويّته السابقة. غير أنّ ثمة ما ينبغي إدراكُه عن إيران: فاستخدامُ كلمات مثل "استبداديّ" في وصفها يمحو الحقيقةَ الماثلةَ على الأرض، وهي الحيويّة السياسيّة والثقافيّة هناك.

إدارةُ روحاني، كما قلنا، كانت مدعومةً من إدارة أوباما، بل هي عامت فوق أمواجٍ من الدعم الأجنبيّ حتى زعمتْ أنّها قادرةٌ على إنهاء العقوبات بفضل "الاتفاق النوويّ." الإيرانيّون ظنّوا أنّ أوضاعَهم الاقتصاديّة ستتحسّن، وظنّوا أنّهم سوف يستطيعون المشاركةَ في "المجتمع الدوليّ." كانت ميزةُ الاتفاق النوويّ أنّه أنهى، موقّتًا ونظريًّا، العداوةَ بين الولايات المتحدة وإيران، لكنّه كان ذا هدفٍ اقتصاديٍّ أيضًا، ألا وهو فتحُ إيران أمام الاستثمارات الأجنبيّة.

لكنّ هناك مشكلةً أخرى خطيرةً في الاتفاق، وهي أنّه أضعف قدرةَ إيران على الدفاع عن نفسها. السياسيّون والباحثون في العلاقات الدوليّة يُقرّون بأنّ القوّة النوويّة عائقٌ أمام الغزو والحرب؛ معظمُ البلدان (باستثناء الولايات المتّحدة) لا تسعى إلى القوّة النوويّة من أجل قصف بلدانٍ أخرى، وإنّما لحماية ذاتها. إدارةُ روحاني كانت تسير أصلًا على طريق الخصخصة، شأن بلدانٍ كثيرةٍ أخرى على امتداد العالم، وقد سرّعت العقوباتُ هذا المسار. لذا فإنّ إيرانَ اليوم تملك مستشفياتٍ حكوميّةً وأسرّةً حكوميّةً أقلَّ ممّا كانت تملكه من قبل، غير أنّها تملك مستشفياتٍ خاصّةً وأسرّةً خاصّةً أكثر لكنْ لا يمكن إشغالُها على نطاق واسع بسبب غلائها (مثلما هي تملك عددًا أكبر من الجامعات الخاصّة ولكنْ بأقساطٍ باهظةٍ يعجز عنها عامّةُ الناس).

لذلك فمن الضروريّ لكلّ أصحاب الضمير أن يقاتلوا من أجل إنهاء العقوبات والحرب، ولإلغاء دور المخابرات المركزيّة الأميركيّة وعملاءِ التحريض الإسرائيليين في بلادنا. لا خيارَ آخر. ينبغي أن يُسمح للشعب الإيرانيّ بأن يقرِّر شكلَ حكمه بنفسه، ومصيرَه بنفسه، وأن يخوضَ الصراعات السياسيّة الداخليّة من دون أيّ تدخّل أجنبيّ.

 

إيّاد قيشاوي: كوبا أرسلت الأطبّاءَ إلى الخارج، وأميركا عجزتْ عن حماية العاملين في القطاع الصحّيّ نفسه!

 

* إيّاد: لقد شهدنا الانقلابَ على رئيس هندوراس، سلفادور نصرالله، الذي انتُخب ديمقراطيًّا. وشهدنا سلسلةَ محاولات اغتيالات طاولتْ رئيسَ فنزويلا، نيكولاس مادورو. وشهدنا أيضًا رفضَ التطبيع الأميركيّ مع كوبا، والعودةَ إلى عسكرة أميركا الوسطى كما كانت في أيّام ريغان بهدف إعادة تنصيب طُغَمٍ عسكريّةٍ تابعةٍ للولايات المتحدة. فلنلحظْ هذه السياسةَ العامّةَ في أميركا الوسطى وأميركا الجنوبيّة، وكيف جرى الانقلابُ على الإنجازات الاجتماعيّة هناك. ولنسألْ: كيف استطاعت هذه الدول، على الرغم من الجائحة والضغوط، أن تعيد الناسَ إلى أعمالهم، وأن ترسلَ الفِرقَ الطبّيّة إلى الخارج، في حين عجزتْ أميركا عن تقديم الحماية الشخصيّة إلى العاملين في القطاع الصحّيّ نفسه؟!

- غلوريا: لقد وصفتَ السيناريو بطريقةٍ حسنة، يا إيّاد. وكان جيّدًا أن تبدأ بهندوراس لأنّها كانت باكورةَ كلّ التراجع اليساريّ في أميركا اللاتينيّة. حكومة مانويل زيلايا في هندوراس لم تكن حكومةً اشتراكيّةً، ولكنْ عندما صار رئيسًا حدث تفاعلٌ اجتماعيٌّ كبير من أجل السير على خطى اليسار في أميركا اللاتينيّة ككوبا ونيكاراغوا. وتزامن ذلك مع مطالبة الناس بدستورٍ جديدٍ يلبّي احتياجاتِهم. هذا الرئيس وافق على إجراء استفتاءٍ جديدٍ غيرِ ملزِِم، وحينها جرى الانقلابُ عليه. وكان قد وافق أيضًاعلى الالتحاق بالتحالف مع كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا.

كوبا تعاملتْ بكفاءةٍ مع الفايروس لأنّ لديها نظامًا صحّيًّا كفؤًا منذ 60 سنةً. الأطبّاء موجودون في كلّ حيّ. كلُّ طبيبٍ تقريبًا يمتلك عيادتَه تحت منزله! ولذلك، فإنّ إمكانيّةَ رؤية المرضى للطبيب متاحةٌ في كلّ الأوقات منذ الثمانينيّات. الرعاية الوقائيّة مهمّة جدًّا في كوبا. وحين علمت الحكومةُ الكوبيّة باندلاع الجائحة في الصين، ألزمت الجميعَ بزيارة الطبيب، وإلّا فسيأتي بنفسه إليهم كي يطمئنَّ إلى سلامتهم. ونتيجةً لذلك، لم يمتْ سوى 51 شخصًا من مجموع سكّان كوبا، البالغ عددُهم 11 مليون نسمة! حدث هذا في بلدٍ يَصْعب الحصولُ فيه على أجهزة التنفّس، وحيث كلُّ قطعةٍ من جهازٍ طبّيّ هو في يد الولايات المتحدة أو تملكه أو تسيطر عليه.

لكنْ، بالإضافة إلى الصلة المباشرة بين الطبيب والمريض في كوبا، هناك قولٌ معروفٌ هناك: "نحن، الكوبيّين، لا نعطي الفتاتَ؛ نحن نشاركُ ما نمْلك!"وهذا ما أدّى إلى أن يسافرَ آلافُ الأطبّاء الكوبيين إلى كافّة أنحاء العالم. منذ فترةٍ بسيطة أُرسل طاقمٌ من 217 مهنيًّا طبّيًّا كوبيًّا إلى أفريقيا، وإلى البرازيل التي تقودها حكومةٌ فاشيّة. لكنْ، ما إن انتُخِب بولسونارو رئيسًا في البرازيل [في 1/1/2019]، حتى طَرد الأطبّاءَ الكوبيّين. وما لبث، عند تفاقم جائحة كورونا، أن طالب بعودتهم!

وفي فنزويلا، ساعد 23 ألف طبيب على تأمين رعاية صحّيّة للمواطنين: فذهبوا من منزلٍ إلى منزل، والتزم الناسُ بالحجْر المنزليّ التزامًا كبيرًا. اللافت أنّ الولايات المتحدة سمّت ما يحصل هناك "حَجْرًا قمعيًّا." حسنًا، نحن في أميركا بحاجةٍ إلى هذا النوع من الحجْر "القمعيّ" لأنّه كان سيُعفينا من عدد كبير من الضحايا! وإذا قارنّا بين "الحرّيّات" في أميركا و"الحَجْرِ القمعيّ" في فنزويلا، فسنلاحظ أنّ قلّة قليلةً من الناس أصيبوا بالفايروس في فنزويلا أو ماتوا من جرّائه.

في كوبا، الوضع أصعبُ بالتأكيد نتيجةً للحصار. وبسبب سياسة ترامب، لا يصل نفطٌ من فنزويلا إلى كوبا. ومنذ شهورٍ نبّه إليوت آبرامز (المبعوثُ الأميركيُّ الخاصّ لفنزويلا) واشنطن إلى ضرورة إغلاق ساحل فنزويلا. وفي 9 نيسان (أبريل)، في مؤتمرٍ يتناول مستجدّاتِ الفايروس، أعلن ترامب، بحضور وزير الدفاع مارك أسبر، والمدّعي العامّ وليام بارْ، أنّ فنزويلا أكبرُ مصدِّرٍ للمخدِّرات إلى الولايات المتحدة - - وهذا كذبٌ صُراح. وقبيْل ذلك، وصف المدّعي العامّ 19 شخصًا من حكومة فنزويلا بـ"إرهابيّي مخدِّرات." وكانت هذه التهمةَ عينَها قد أُطلقتْ على مانيويل نورييغا قبل اجتياح بَنَما [سنة 1989]. أنتَ، يا إيّاد، ذكرتَ اغتيالَ قاسم سليماني، وأنا أعتقد أنّ هذا الاغتيال إنذارٌ لكلّ قائدٍ [معادٍ للولايات المتحدة]. ولن أستغربَ أن تحاول الولاياتُ المتحدة قطعَ رأس أيّ دولة، أكانت كوريا الشمالية أمْ فنزويلا... لكنّ المشكلةَ الكبرى هي مع كوبا، لأنّها مجاورةٌ للولايات المتحدة، ومستعدّةٌ للمواجهة شأنَ فنزويلا. وقد أعلن وزير الخارجيّة الأميركيّة مايك بومبيوأنّ بلادَه مستعدّةٌ لشنّ عملٍ عسكريّ لإنهاء "الاضطرابات" في فنزويلا. وهذا يعني قلبَ النظام هناك والإتيانَ بالفاشيّة.

* إيّاد: مع الجائحة، تكشّفَ وجهُ الرأسماليّة الوحشيّ، وعلى وجه الخصوص وجهُ الإمبرياليّة الأميركيّة، ليس فقط داخليًّا بل خارجيًّا كذلك. علينا أن نقارنَ بين نموذجيْن: النموذج الأميركيّ الموجَّه نحو الربح، والنموذج الإنسانيّ الذي يركّز على الطبّ والعلم وتقديم الخدمات والرعاية الصحّيّة المركزيّة (كما في كوبا وفنزويلا والصين). نسبةُ الذين ماتوا في الصين مقارنةً بالذين توفّوا في الولايات المتحدة لافتةٌ جدًّا. بعيْد اندلاع الفايروس، أسرعت الصينُ إلى تطوير العلاج، وتشاركت "الشيفرةَ الجينيّةَ" للفايروس مع بقيّة أنحاء العالم لكي يستطيع الناسُ أن يطوِّروا لقاحًا قبل أن يصابوا. هذه ذهنيّةٌ مختلفةٌ تمامًا عن ذهنيّة الطبّ الموجَّه إلى الربح، والتي تنادي بخنق غزّة وإيران وأميركا اللاتينيّة تحت ثقل الفايروس، وتنادي بعدم السماح لأطرافٍ ثالثةٍ بتصدير المعدّات الطبيّة إلى هذه البلدان.

- غلوريا: هل تعرف كم شخصًا مات في فنزويلا بسبب الفايروس؟ 10فقط![2]

* إيّاد: هذا أمرٌ مذهلٌ حقًّا. سؤالي الآن: هل بدأنا نشهد الإرهاصاتِ الأولى لانهيار الرأسماليّة الكونيّة، التي تعزِّز نفسَها عبر الإمبرياليّة والحصاراتِ الوحشيّة والاجتياحاتِ العسكريّة؟ أترانا نبالغ في الحديث عن قدرة الرأسماليّة على تجاوز أزماتها دومًا؟ ما رأيُكم بفعّاليّة الإمبرياليّة؟ ما العلامة التي تعطونها على أدائها؟

- مناضل: لا نستطيع أن نكون مجرّدَ مراقبين، بل علينا أن نكون فاعلين في تشكيل العالم. هذا يشبه كثيرًا ما حدث بعد الحرب العالميّة الأولى وكيف أعاد العالمُ تشكيلَ نفسه. إنّ فشلَ نموذج الإمبرياليّة الأميركيّة، هنا أو هناك، سينعكس في كلّ أنحاء العالم. ولتشكيل العالم الجديد، علينا أن نبدأ البحثَ في الجرائم التي ارتكبتها الإمبرياليّةُ ضدّ البشريّة في فنزويلا والبرازيل، وفي العقوبات ضدّ الشعب الإيرانيّ، وغير ذلك. هذا العمل سيتراكم ليشكِّل مستوًى معيّنًا من التضامن.

* إيّاد: نينا، هل تعتقدين أنّ هناك فرصةً في زمن الأزمة لمواجهة الإمبرياليّة الأميركيّة؟

- نينا: نعم. اهتمامُ أميركا الرئيسُ هو الصين. و"علاماتُ" أميركا سيّئةٌ مقارنةً بالصين. الصين لم تنتجْ أطنانًا من الأبحاث عن الجائحة فحسب، وإنّما تعاملتْ بكفاءةٍ مع هذه الجائحة أيضًا، وهي تشارك خلاصاتِ أبحاثها وأطقمَها الطبّيّةَ مع كلّ أنحاء العالم. أميركا ليست الدولةَ العُظمى الأوحد، بل إنّ الصين تنافسها بقوّة. الإمبراطوريّة الأميركيّة - بهذا المعنى - تتهاوى. لكنْ لا وجودَ لمعارضةٍ فعّالةٍ أو منظّمة. هناك حركاتٌ اجتماعيّة تقوم بعمل عظيم، وتشبِّك مع الناس في كلّ العالم، لكنّ الولايات المتحدة بقعةٌ جغرافيّةٌ شاسعة. أكرّر: المعارضة الفعّالة هنا لم تبرزْ بعد، لكنّها برزتْ في أماكنَ أخرى من العالم. وهذا ما ينبغي أن ندعمه بكلّ طاقاتنا.

* إيّاد: غلوريا، ما هي العلامة التي تعطيها النظامَ الصحّيَّ الأميركيَّ اليوم، خصوصًا مع التصدّعات التي نشأتْ نتيجةً لفايروس كورونا؟

- غلوريا: أثارت نينا نقطةً مهمّة: الصين. الصين قوّة اقتصاديّة كبرى، وهذا ما تحاول الولاياتُ المتّحدة أن توقفَه. والمسؤولون الأميركيّون يقولون إنّ الصدام القادم سيكون مع الصين، وربّما مع روسيا. أمّا عن وضع الأمبراطوريّة الأميركيّة، فأقول إنّ وضعَها العسكريَّ خطير جدًّا، ولديها تصميمٌ على السيطرة على العالم. وهي تدعم "إسرائيل." كما أنّها تدفع المملكةَ العربيّة السعوديّة إلى زيادة إنتاج النفط لمحاربة فنزويلا وروسيا وإيران وبلدانٍ أخرى منتِجةٍ للنفط - - وهو ما انعكس سلبًا على الاقتصاد الأميركيّ لأنّ سعر النفط انخفض (ذلك لأنّ الولايات المتحدة من أهمّ منتجي المحروقات في العالم).

اقتصاديًّا، ما نشاهده في ظلّ هذا الفايروس هو أنّ الرأسماليّين يخلِّصون أنفسَهم بفضل هذه التريليونات من الدولارات التي تتراكم ولا تفيد مصلحةَ العمّال على الإطلاق. والأموال التي تُصرَف على العمّال في أميركا كلَّ شهر هي بمثابة مزحة: 1200 دولار خلال خمسة أسابيع! وهي لم تُصرفْ إلّا لنسبةٍ معيّنةٍ منهم. هناك شيءٌ لافتٌ حصل في شباط (فبراير): كان هناك تراجعٌ اقتصاديٌّ مقلق، فاجتمع أربابُ النظام المصرفيّ الأميركيّ وقالوا بضرورة اتّخاذ إجراءاتٍ فوريّة - - وهذا بخلاف الأزمة الماليّة التي حصلتْ سنة 2008 واستغرقتْ شهورًا في علاجها. إذًا، الحكومة الأميركيّة تحاول بكلّ الطرق، وعبر ضخّ تريليونات الدولارات، إنقاذَ المصارف الأميركيّة. نحن الآن في وضعٍ يفوق في خطورته الاقتصاديّة وضعَ الانهيار الماليّ سنة 2008. فمعدّلُ البطالة اليوم هو 19 بالمئة في أميركا وقد يتخطّى ذلك.[3]

ولكنْ هل ستنهض الطبقةُ العاملةُ وتتوحّد في المواجهة؟ هذا يتوقّف على ما ستفعله المنظّمات الشعبيّة. لسنا أقوياءَ بما يكفي، لكنّني أعتقد أنّ التربة خصبة. ما يفاقم الوضعَ سوءًا هو أنّنا - بوجود أزمة الفايروس - لا نستطيع أن نتظاهر. المحلّاتُ الكبيرة مثل GAP وBurger King تقول إنّها لن تدفع الإيجارات. فلماذا يجب أن يدفع الشعب؟ التجذّر السياسيّ قد يحدث في أميركا، ولكنْ ما إنْ يجري التغلّبُ على الفايروس باللقاحات، فإنّ علينا أن نكون في الشارع!

نحن ندخل مرحلةً تاريخيّةً تحتِّم على الشعب أن يحاربَ لكي يعيش، وإلّا فسيموت. إذا لم تنْمُ الحركةُ الاحتجاجيّة، فسيخسر الملايينُ بيوتَهم، كما حدث سنة 2008، بل سيصبحون أفقرَ من أيّ وقتٍ مضى.

* إيّاد: سؤالي الأخير للمنتدين: ما هي الإجراءات التي نستطيع أن نتّخذَها لنستفيدَ من هذه الأزمة؟ حين تقع الرأسماليّةُ في أزمةٍ في الخارج، فإنّها "تستورد" فشلَها إلى الداخل، بطرقٍ فاشيّةٍ، وترميه على أصحاب البشرة الملوَّنة والسكّانِ الأصليّين والمهاجرين والعمّال وعلى كلّ مَن يمثِّل تحدّيًا لاحتكار الرأسمال. أسألُكم: ما العمل؟

- نينا: الأمر الأوّل، كما قلت، أنّ على أصحاب الضمير أن يقاوموا الحربَ والعقوباتِ الأميركيّة. إذا أوقفنا ذلك، فالناسُ في أماكن كإيران ستقرِّر مصيرَها وشكلَ حكوماتها. ولكنْ ما دامت الولاياتُ المتّحدة تَفرض عقوباتِها، وتنشر عملاءها المحرِّضين في الشوارع، وتهدِّد بالحرب، وتغتال قادةً أمثال الجنرال سليماني، فلن تكون للناس حريّةُ القرار.

الأمر الثاني الذي ينبغي أن نفعلَه هو بناءُ التحالفات مع منظّماتٍ في العالم نجحتْ في تنظيم الطبقة العاملة للسيطرة على الحكم. وعلينا أن نتعلّمَ التكتيكات الناجحة من هذه المنظّمات؛ فنحن لا نستطيع أن نقوم بذلك وحدنا.

- مناضل: "إسرائيل" فشلتْ في ضرب المقاومة، والسعوديّة فشلتْ في ضرب اليمن. هذا يمنحنا الفرصةَ لمواجهة الاعتداءات بمزيدٍ من القوّة. وعلينا فضحُ الدعم المتزايد التي تقدّمه أميركا إلى "إسرائيل،" والتشبيكُ مع حركات التحرّر العالميّ. وعلينا أن ندفعَ كلَّ حلفائنا إلى أن تكون قضيّةُ الأسرى الفلسطينيين على رأس اهتماماتهم. الإسرائيليّون يرتكبون جرائمَ في حقّ الأسرى، وما حدث مع نور البرغوثي (20 عامًا) أوضح دليل.

أزمةُ الكورونا لن تستمرَّ إلى الأبد. وعلينا أن نستأنفَ عقدَ الاجتماعات، والتظاهرَ في الشارع، وأن نساعد بعضنا بعضًا في إعادة تشكيل العالم في مواجهة كلّ الانتهاكات والظلم في العالم. يجب ألّا نواصلَ حياتنا كأنّ شيئًا لم يكن حين نرى الناسَ يموتون أو يخسرون أحبّاءهم!

- غلوريا: لا تأملنّ في وجود عدالةٍ داخل أميركا ما لم تكن هناك عدالةٌ خارج أميركا. لكي نحارب من أجل الناس في أميركا، علينا ان نكون أمميّين، أيْ أن نعمل من أجل الشعوب في كلّ العالم. أعتقد أنّ الناس هنا، في أميركا، لو علِموا ما يجري للشعب الفلسطينيّ، وما يجري في سوريا والعراق، فسيكونون غاضبين جدًّا، وسيَنْشطون ضدّ ما يجري. لكنّهم لا يعرفون! نحن نعيش في عين البركان. لا نستطيع أن نكون هادئين داخل الولايات المتحدة وكلُّ ما حولنا مدمَّرٌ بسبب السياسات الإمبرياليّة الأميركيّة. المشكلة أنّ الإعلام يغيِّب ذلك. واجبُنا أن نثقِّف الناسَ بكلِّ الوسائل الممكنة (عن حصار كوبا، أو العقوبات ضدّ إيران، أو الاحتلال الإسرائيليّ،...).

حين أعلن ترامب منذ أكثر من سنة ونصف السنة، في مؤتمر "وضع الأمّة،"[4] أنّه لن تكون اشتراكيّةٌ في الولايات المتّحدة، وأنّه سيقضي على الاشتراكيّة في فنزويلا وكوبا، فإنّه قد قال ذلك - على ما أعتقد - لأنّه قلقٌ من حصول الاشتراكيّة هنا، في أميركا؛ ولأنّ النظام الرأسماليّ يَفضح نفسَه بنفسه في مواجهة الأزمات، ومن بينها أزمةُ الفايروس الحاليّ.

كثيرٌ من الشباب يتّصلون بالمنظّمة التي أنتمي إليها، أيْ حزب الاشتراكيّة والتحرير (PSL). فنحن اليوم نواجه أزمةً لم نكن نتصوّر حجمَها: ذلك أنّ الأزمة ليست الفايروسَ وحده، بل التدمير البيئيّ أيضًا؛ وهذا التدمير يهدِّد وجودَ البشريّة بأسرها إذا لم يتوقّفْ ويتراجعْ على نحوٍ وشيك. نحن اليوم، أصلًا، لم نعد نستطيع أن نهربَ إلى بلدٍ آخر لأنّ الجائحة في كلّ مكان، وبخاصّةٍ في أميركا. وإذا اشتدّ الاحتباسُ الحراريُّ الكونيّ إلى درجة ذوبان الجليد، فسيموت مئاتُ ملايين الناس! ومن هنا تَمَسُّ الحاجةُ إلى قيام الاشتراكيّة والثورة، وإلى وجود قياداتٍ تدفع الناسَ إلى السير قُدُمًا. أنا سعيدة لأنّ الشباب منخرطون في العمل من أجل التغيير. الشباب ليسوا المستقبل؛ إنّهم الحاضر!

* إيّاد: أشكركم. هذه الندوة، كما تعلمون، ستُنشر في الآداب، وهي مجلة لبنانيّة - عربيّة مثيرة فكريًّا، وتأسّستْ قبل عقود. يحرِّرها أناسٌ جيّدون، ولديهم ميولٌ جيّدة، أو عليّ أن أقول إنّ ميولَهم يساريّة. شكرًا لوقتكم. أعرف أنّ المواضيع كثيفة ولكنّنا ضغطناها...

- غلوريا: إيّاد، لحظة، ما رأيُكَ أنت؟ إلى أين نحن سائرون؟

* إيّاد: أنا متفائل. أرى أنّ ما يجري، في الأصل، هو أزمةُ إفراطٍ في الإنتاج الرأسماليّ. الفايروس جاء بمثابة غطاءٍ خفيفٍ تستطيع الطبقةُ الحاكمةُ والمتموِّلة أن تختبئ من ورائه لتقول إنّه سببُ تحطيم اقتصادنا. لكنّ الاقتصاد كان سيتحطّم في جميع الاحوال! كلُّ ما فعله هذا الفايروس هو أنّه كشف الأزمةَ، وظهّر وحشيّةَ الطبقة الحاكمة وإخضاعَها الطبقةَ الوسطى والعمّال.

على أنّ هذه الوحشيّة ستولِّد نقيضّها. وضِمن هذا النقيض والتصدّعات، هناك فرصةٌ فريدةٌ لكي يبنيَ المعارضون جبهةً ديمقراطيّةً موحَّدة. وهذه الجبهة الديمقراطيّة يجب أن تكون عالميّة، أمميّة، وتشمل حركاتِ التحرّر الوطنيّ. هذه الجبهة حدثتْ في أميركا اللاتينيّة، والأرجح أن تعود مجدّدًا لمواجهة أمثال بولسونارو.

أعتقد أنّ الرأسماليّة لا يمكن أن تسقط من دون سقوط الإمبرياليّة. وسقوطُ الإمبرياليّة يجب أن يحصل نتيجةً لإلحاق الهزيمة الاقتصاديّة والعسكريّة بالمنظومة الامبرياليّة وأذيالها. على الطغمة العسكريّة في مصر أن ترحل. وعلى النظام الفاشيّ في السعوديّة أن يرحل، وأن يتوقّف تطبيعُه مع "إسرائيل" وهجومُه على اليمن. كلّ هؤلاء الديكتاتوريين، سواء في أميركا اللاتينيّة أو العالم العربيّ أو أيّ مكانٍ آخر، يجب أن يرحلوا. وهناك فرصة لفعل ذلك لأنّ الضغوط على هذه الأنظمة كبيرةٌ جدًّا. فلنتذكّرْ أنّ الأمبراطوريّة البريطانيّة تقلّصتْ قبل أن تنفجر، وتعرّضتْ لأزماتٍ رأسماليّةٍ متتالية قبل أن تزول. وهذا ما يحدث الآن مع الأمبراطوريّة الأميركيّة. بناءُ التحالفات مهمّ جدًّا، ومصيرُنا متعلّق بمصير حركات المقاومة عالميًّا.

الولايات المتحدة

 


[1] ملاحظة الآداب: الندوة أجريتْ نهاية شهر نيسان (أبريل) 2020، واستغرق تفريغُها من "زووم" وتحريرُها ومراجعتُها حتى اليوم (25 أيّار/مايو). لذا فبعضُ الأرقام الواردة أعلاه لا تعكس الانهيارَ الأميركيَّ المتفاقم حاليًّا على مختلف الصعد.