محطّات من حياة عمّي ماهر ومن علاقتنا
29-03-2019

 

اعتدتُ منذ سنوات أن أكتبَ وأنشرَ رسالةً سنويّةً بعنوان: "إلى غسّان كنفاني." ثمّ أضفتُ إليها رسالةً سنويّةً أخرى إلى الحكيم جورج حبش. وتوقّفتُ عن الكتابة بعد رحيل والدي، أبي ماهر اليماني. لم أجد تفسيرًا لتوقّفي عن الكتابة. إلّا أنّني أجدُ نفسي، بعد تردّدٍ، أكتبُ عن عمّي ماهر. أيكون سببُ ذلك رغبةَ [زوجته] زينب؟ أمْ سؤالَ الصديق سماح إدريس؟ أمِ اتصالَ ابن عمّي خالد اليماني، الذي فاجأني اتصالُه لكونه جاء من الرقم المسجّل على هاتفي باسم "ماهر عمّي"؟

***

ماهر.

م: مناضل، متمرّد، مشاكس، محبّ، ملتزم، متواضع، مناور، مثقّف، معتقَل.

ا: إنسان، أخلاق.

ه: هادئ.

ر: رفيق، رقيق.

هذه أبرزُ صفات عمّي ماهر. ويستطيع مَن عرفه وعايشه، من رفاقه أو أصدقائه، بل من خصومه أيضًا، أن يكتبَ في هذه الصفات الكثيرَ من دون أدنى مبالغة. ولا شكّ في أنّ شهادتي بالعمّ والرفيق ماهر مجروحة، إذ إنّ مسيرته النضاليّة لا تحتاج شهادتي: من مشاركتِه في الهجوم على الطائرة الصهيونيّة في مطار أثينا، مرورًا بعمله في الجهاز الأمنيّ الخاصّ في الجبهه الشعبيّة، إلى المعارك التي خاضها في منطقة الفنادق في بيروت (1975 – 1976) وفي جنوب لبنان أثناء الاجتياح الإسرائيليّ (عام 1978) تحت لواء القيادة العسكريّة المشتركة للمقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة اللبنانيّة، وانتهاءً بمهمّته النضاليّة بالحفاظ على حياة "الحكيم" والحفاظ على  أسراره.

***

إنّ أساسَ الانتماء الثوريّ هو التمرّدُ على واقعٍ قائم، والعملُ مع مجموعةٍ متقاربةٍ في التوجّه الفكريّ والنضاليّ على تغيير هذا الواقع. وتمرّدُ ماهر كان قد عبّر عنه في سنواتٍ مبكّرةٍ من عمره من خلال انتمائه إلى "حركة القوميين العرب،" وهي الحركة الأكثرُ انتشارًا في المخيّمات الفلسطينيّة قبل "انطلاقة" الثورة الفلسطينيّة. إلّا أنّ هذا الانتماءَ لم يجعلْه مجرّدَ عضوٍ يلتزم بما تمليه عليه القيادة.

 

صوّت ماهر ضدّ تبنّي "الجبهة" صيغة ملتبسة من "البرنامج المرحليّ."

 

وأبرزُ مثالٍ على ذلك أنّه صوّت ضدّ التقرير السياسيّ الصادر عن المؤتمر الرابع للجبهة الشعبيّة سنة 1981، بعد أن تبنّى المؤتمرُ صيغةً ملتبسةً من "البرنامج المرحليّ" (1974) مجاراةً للقوى الفلسطينيّة الساعية إلى نيل رضى الاتّحاد السوفياتيّ. فلقد اعتبر ماهر أنّ التقرير يحمل تفسيرًا ملتبسًا من مشروع "الدولة الفلسطينيّة،" ويُعدّ تراجعًا عن الموقف الجذريّ والإستراتيجيّ للجبهة الشعبيّة الداعي إلى تحرير كامل التراب الفلسطينيّ بعيدًا عن المفاوضات والحلول "السلميّة." ورأى أنّ موقف الجبهة، واليسار الفلسطينيّ بشكلٍ عامّ، في ظلّ موازين القوى القائمة، يمنح القيادةَ الفلسطينيّة غطاءً سياسيًّا للدخول في مساوماتٍ سياسيّةٍ مدعومة من الاتّحاد السوفياتيّ. وكان ماهر، في هذا المجال، يعبّر عن موقفه هذا داخل الأطر الحزبيّة وخارجها، مُعتبرًا أنّ الأساس هو الانتماءُ إلى الفكرة، لا إلى الأداة. ولهذا كان ماهر، في بعض الأحيان، يقوم بإيجاد الحجج "الأمنيّة" لتعطيل زيارات أعضاء القيادة المتحمّسة لمشروع الدولة الفلسطينيّة إلى الجنوب للقاء الكادر العسكريّ هناك. كما كان يشاكس بعضَهم بسؤاله: "كيفك يا مستسلم؟" أو" شو مستعجل تتصير وزير بالدولة؟" أو "اشرحْ لي يا رفيق كيف ممكن تقوم دولة بدون تفاوض؟" ويتابع: "يعني الاتحاد السوفياتيّ وأمريكا والأمم المتّحدة راح تضغط على إسرائيل لتنسحب من الـ67 ويخلّونا نتابع ثورتنا لتحرير كلّ فلسطين؟ أو بدهم يضغطوا علينا كمان للاعتراف بإسرائيل ونلتزم بالقوانين الدوليّة؟" ويضيف بطريقةٍ ساخرة: "الله العليم إنّك وافقت على التقرير السياسيّ عشان تصير تنعزم على حفلات سفارات الدول الاشتراكيّة وتقربع فودكا وكافيار."

وكان عدد كبير من الكوادر الذين وافقوا على "البرنامج المرحليّ" من الرفاق القادمين من الدول الاشتراكيّة، وكانوا على تواصلٍ مع سفارات الدول الاشتراكيّة بحكم عملهم في "دائرة العلاقات السياسيّة" التي كان يديرها الرفيق تيسير قبّعة. هؤلاء كانوا من أكثر المتحمّسين للتماهي مع الاتحاد السوفياتيّ، وقد انزعجوا من حديث ماهر وأسلوبِه، وتعرّضوا له بالنقد السلبيّ.

على أنّ عمّي ماهر، وإنْ كان مشاكسًا من الدرجة الأولى، فإنّه لم يكن يومًا مؤذيًا في مشاكساته، وكان يعرف الحدودَ التي  ينبغي الوقوفُ عندها. من مشاكساته، مثلًا، أنه كان يُحيّي زوجةَ أحد أبرز قيادات الجبهة بالقول "أهلًا بالسيّدة الأولى،" تيمّنًا بلقب زوجة الرئيس الأمريكيّ، وذلك لِما لها من امتيازات (مُرافق وسيّارة...) ناتجةٍ من موقع زوجها في القيادة. وكان بهذا المزاح يشاكس القياديَّ الذي ستخبره زوجتُه بمزاح ماهر.

***

وماهر كان محبوبًا من غالبيّة الناس والرفاق، وإنْ أزعج البعضَ ممّن لا يعرفون طبيعتَه أو لم يعايشوه فترةً طويلة. في بدايات شبابي كنتُ أشعر بالغيرة أحيانًا من شعبيّته؛  فأينما حلَّ ماهر، كان نجمَ الجلسة. أذكرُ أنني زرتُه مرّةً في مستشفى المقاصد، وكان يعالَج من حروقٍ أصابتْه أثناء إحدى المهمّات، وإذ بي أفاجأ بوجود عددٍ من الرفيقات والصديقات في المكتب الطلّابيّ للجبهة الشعبيّة في الجامعة الأمريكيّة. ومع أنني كنتُ أعرف بعضَهنّ بشكلٍ جيّد، فإنّ حضوري لم يعنِ الكثيرَ في حضور ماهر. وكان ماهر يَعرف مفاتيحَ شخصيّتي كمعرفتي بمفاتيح شخصيّته، فعاجل الصبايا بالقول: "هذا عصام، أنا مربّيه من هوّي وعمرو سنة، وهو الأقرب إلى قلبي، وسيكون له مستقبل." ثمّ بدأ بسرد بعضَ القصص عن مرحلة الطفولة تلك، وبنوعٍ من المبالغة الإيجابيّة - - وكان يريد بذلك إرضاءَ شيءٍ من غروري.

 

ليس أدلَّ على شعبيّة ماهر مِن عدد المشاركين في تشييعه.

 

وليس أدلَّ على شعبيّة ماهر مِن عدد المشاركين في تشييعه إلى مثواه الأخير (لم يكن بينهم واحدٌ لا يعرف ماهرًا معرفةً شخصيّة)، ومِن حجم المعزّين برحيله في البلدان الأوروبيّة المختلفة. وليس أبلغَ من التعبير عن شعبيّة ماهر ممّا كتبه الصديق المشترك نصّار إبراهيم [1] وابنتُه يومَ رحيل ماهر.

***

لم يتصرّفْ ماهر يومًا باعتباره أحدَ "نجوم" النضال. ولم يُصَبْ بغرور المواقع والمهامّ النضاليّة والقياديّة التي تبوّأها. ولم يلبسْ ربطةَ عنق، ولا قدّم نفسَه كمحلّل عسكريّ أو سياسيّ استراتيجيّ كما فعل ويفعل بعضُ مَن هم أقلُّ خبرةً ومعرفةً منه. بل أنا على يقين، بحكم معرفتي بماهر، أنّه لولا إصرارُ صديقه سماح إدريس، رئيسِ تحرير مجلّة الآداب، لَما كتب ماهر عن تجربته.[2]

كان ماهر متواضعًا في كلّ مناحي حياته وسلوكه. وكانت هذه الصفةُ، إلى جانب الصدق، أساسًا لاستمرار علاقته بالآخرين. لهذا لم أستغرب استمرارَ الصداقة القائمة مع الناشر والكاتب الدكتور سماح إدريس، أو الدكتور الجرّاح غسّان أبو ستّة وعائلته، أو الصديق الناشر حسّان راجح، وغيرهم كثُر. وأعرفُ عددًا ممّن لم تستمرّ علاقةُ ماهر بهم لأنّ ظروفَهم تغيّرتْ، "وصاروا يحْكوا من جيبتهم" بحسب تعبير ماهر.

***

كان ماهر مثقفًا ومتفقِّهًا في مواضيع مختلفة. لكنّه لم يكن "يتفلسف" على طريقة البعض. وكان عندما يصادف أحدَ هؤلاء يقول: "قرأ كتابين صار مفكّر حالو كارل ماركس".

لم تقتصر مطالعاتُ ماهر على كلاسيكيّات الفكر الماركسيّ وتاريخ القضيّة الفلسطينيّة. فقد اهتمّ بمطالعة الأدب العربيّ، وترجمات الأدب العالميّ (غابرييل غارسيا ماركيز وماريو فارجاس يوسّا وبابلو نيرودا وناظم حكمت وغيرهم). وأطلّ على الأدب الروسيّ أثناء التحاقه بدوره تدريب في موسكو. وكان ماهر يعيد قراءة غسّان كنفاني ويقول: "عمّي، كلّ مرّه بقرأ فيها غسّان أكتشف جوانب جديده ما تنبّهت لها في السابق."

إضافة إلى المطالعة، كان ماهر يحبّ السينما، وبخاصّةٍ الأفلام السياسيّة الهادفة. وكان يحبّ أفلام المخرج كوستا غافراس، ولاسيّما الاعتراف وزَدْ.

أمّا التلفزيون فلم يكن يعني لماهر الكثير، لكنّه كان من عشّاق الأفلام الكرتونيّة، خصوصًا سلسلة توم وجيري، وكان حتى نهاية السبعينيّات مواظبًا على مشاهدتها. كان ماهر طفلًا كبيرًا.

إلّا أنّ ماهر لم "يتبجّحْ" يومًا بثقافته، ولم يكن يستعرضُها عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ، بل حرص على إظهار ثقافته عبر الممارسة العمليّة للمثقّف الثوريّ، كما فعل الشهيد باسل الأعرج. وفي هذا المجال لا أذيع سرًّا أنّه كان يحذِّر الحكيم جورج حبش من الكوادر أصحابِ "الجُمل الثوريّة،" الذين كان الحكيم يُفتتن بهم، ولكنّ الأحداث أثبتتْ أنّهم لم يكونوا على مستوى التحدّي النضاليّ وانتهت تجربتهم عند أوّل تحدٍّ نضاليّ.

***

لا أخفي أنّ هنالك صفةً اكتشفتُها في ماهر مع الوقت، ولم أكن متنبّهًا إليها فيما مضى، ألا وهي: احترامُه للنظام العامّ. صحيح أنّه كان فوضويًّا في حياته الشخصيّة (ولا أدري إذا كانت زينب قد ساهمتْ في "تهذيب" فوضويّته والحدِّ منها)، لكنّني شاهدٌ على احترامه للنظام العامّ.

ففي فجر أحد الأيّام من صيف العام 2000، وكانت الساعة الثالثة صباحًا، كنّا عائديْن، العمّ ماهر وأنا، من المطار. ولدى وصولنا إلى أوتوستراد المدينة الرياضيّة، فوجئتُ به يوقف السيّارةَ لأنّ إشارةَ السير الكهربائيّة حمراء. سألتُه، وأنا الآتي من كندا، بلدِ إطاعة إشارات السير: لماذا توقّفتَ؟

- الإشارة حمرا، أجابني.

- طيّب الشارع فاضي، والساعه ثلاثة الصبح، وما في بوليس. امشِ يا زلمي، بلاش حركاتك هاي.

- لا، عمّي. أنا بَحِتْرم النظام العامّ، وبَدَرِّب نفسي دايمًا على احترام القوانين العامّة. واجبنا نكون قدوة للنّاس باحترام النظام العامّ، والثورة على النظام السياسيّ.

لم أناقشْه، وانتظرْنا حتّى تغيّر لونُ الإشارة إلى الأخضر. وها أنا بتُّ كلّما صادفتْني في وقتٍ متأخّرٍ من الليل إشارةُ سيرٍ حمراء، أتوقّف. وما إنْ أتوقّف حتّى يُطلَّ وجهُ ماهر بابتسامته الساخرة.

***

لم أنادِه يومًا بغير لقب "عمّي ماهر." لم أستسغْ مناداتَه بـ"رفيق ماهر" (وكذلك الأمر مع والدي أبي ماهر) إلّا خلال المناقشات التي تدور ضمن الأطر الحزبيّة. وهو كذلك، كان عندما يبدأ حديثَه معي، سواءٌ في لقاءٍ مباشر أو عبر الهاتف، يبادرُني بـ" كيفك عمّي،... اسمعْ عمّي،... شوف عمّي." وكنتُ أحبّ ذلك.

كنتُ أعرفُ مفاتيحَ شخصيّة عمّي ماهر. أعرفُ ما يرضيه، وما يزعجُه. أعرف تمامًا كيف أستفزُّه، وكيف "أجرجرُه" بالحكي. أعرفُ حذرَه، ويعرف حذري. وكان حديثُنا في كثيرٍ من الأحيان، خصوصًا أثناء عملنا المشترك في أجواء قيادة الجبهة الشعبيّة، كمن يخوض مناورةً: فيستعين كلٌّ منّا برفاق العمل من أجل الحصول على معلومةٍ أخفاها الآخرُ عنه.

 

كان أبو ماهر... يشكّل "عقدةً" لماهر ولي!

 

وكلانا كان يخشى أبا ماهر (أبي وشقيق عمّي ماهر)، ويحسب له ألفَ حساب. كان أبو ماهر، وما يمثّلُه من تاريخٍ وسلوكٍ وموقعٍ جماهيريّ، يشكّل "عقدةً" لماهر ولي؛ بمعنى أنّه مهما حاولنا فلن نتمكّنَ من أنْ نكون نسخةً عنه. وزاد الأمرَ تعقيدًا أنّ أبا ماهر لم يكن يعترف بأنّه شخصيّة استثنائيّة، بل كان دائمَ القول إنّ التواضع، ونظافةَ اليد، والاستقامةَ الأخلاقيّة، ومساعدةَ الآخرين، والتضحيةَ في سبيل القضيّة، ليست صفاتٍ "استثنائيّة،" وعلى الجميع التمتّعُ بها، وإنّ الصفاتِ السلبيّة هي الاستثناء.

وفي مجال الحديث عن علاقتنا بأبي ماهر، فلا بدّ من أن أذكر أنّه خلال انعقاد المؤتمر الخامس للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وكانت الأجواءُ متوتّرةً، واجه أبو ماهر ضغوطًا من "الحكيم" وعددٍ من الرفاق للعودة عن تخلّيه المعلن عن مواقعه القياديّة كافّةً والعودة إلى صفوف القيادة. علمنا، ماهر وأنا، بالموضوع. ناقشنا الأمرَ. كان ماهر مع عودة أبي ماهر، وكنتُ  ضدّها، بل على استعداد للطعن في ترشيحه من جديد إلى أيّ موقع قيادي. لكن ما لبث ماهر أن وافقني على موقفي بعد أن قلتُ له إنّ عودة أبي ماهر ستؤثّر في مصداقيّته الجماهيريّة. واتفقنا أن نبحث الموضوع مع أبي ماهر قبل أن يلتقي الحكيم حبش. وافقنا أبو ماهر الرأيَ. ولتجنّب أيّ إحراج، طلب منّا إعلامَ الحكيم بالأمر. وهذا ما كان. وها أنا اشير إلى هذا الموضوع لتبيان عدم تصلّب ماهر بمواقفه عندما يدرك عدمَ صحّتها.

***

كنتُ أعرف متى يبالغ ماهر في حديثه عن بعض المهمّات ودورِه فيها. وما إنْ تتلاقى أعينُنا حتّى يعلم أنّني على درايةٍ بالمبالغة، فيخفِّف "الدوزْ." في هذا المجال، أذكرُ مرّةً أنّنا، أثناء زيارة الدكتور غسّان أبو ستّة إلى كندا، كنّا نتحدّث عن ماهر وأوضاعِه و"قصصِه" التي يحبّها أبناءُ الدكتور غسّان. وما إنْ مسحتُ وجهي بكفّي حتّى قال غسّان، الذي كنتُ أقابلُه للمرّة الأولى، إنّ ما فعلتُه هو "بالضبط نفس حركة ماهر." أجبتُه أنّ الفارقَ الوحيد هو أنّ عمّي ماهر يقوم بهذه الحركة ولكنّه يمسك شفتَه السفلى ويتابع حديثَه، وأنّه عندما يفعل ذلك فعليكَ أن تتأكّد أنّه يبالغ في الحديث أو يتهرّبُ من الإجابة عن مسألةٍ لا يودّ الخوضَ فيها؛ فهذه الحركة تمنحه لحظاتٍ من الوقت للتفكير في أيٍّ من الخياريْن سيختار. وكان يقول لي بعد أن نخلو بنفسيْنا: "معلش عمّي، شويّة بهارات لتِحْلى القصّه!"

***

عمّي ماهر هو فعلًا مَن أخذ بيدي منذ كان عمري سنةً، وذلك حين اضطُرّ والداي إلى أن يبعثا بي لأعيش في مخيّم البدّاوي عند دار جدّي، فبقيتُ هناك حتّى بلغتُ الرابعة من عمري على ما أعتقد. أثناء تلك الفترة، وعيتُ على الدنيا وعمّي ماهر يلازمُني. كنتُ بعد ذلك أذهب لتمضية كلّ العطلة المدرسيّة في الصيف في مخيم البدّاوي معه. وكان يأخذني معه إلى الصيد (كانت لديه بارودةُ خردق). وعلّمني لعبةَ العواتيل (العاتول عودٌ خشبيٌّ مأخوذ من فرع شجرة): على الرامي أن يرمي العاتولَ ليغزَّه في الطين وليوقِعَ - في الوقت نفسه - عاتولَ المنافِس، والفائزُ يأخذ عاتولَ المهزوم. ونتيجةً للفقر، علّمني عمّي ماهر كيف أصنعُ صندلًا من كاوتشوك دواليب السيارات.

وعلّمني أيضًا قيادةَ الدرّاجة. لكنّه ضحك عليّ مرّةً. فقد أخذ من جدّتي فلوسًا ليعلّمني قيادةَ الدرّاجة ذاتِ العجلتين. ولمّا وصلْنا عند "البسكلتجي،" أخذ ماهر الدرّاجة وطلب منّي أن ألحقه، فرحتُ أركض خلفه "لأتعلّم." ههههههه. لقد ضحك عليّ عمّي ماهر!

***

كبرنا وخضْنا تجاربَ مشتركة، وعملنا معًا في العديد من المهمّات والمواقع. لكنّ الظروفَ لا تسمح لي، للأسف، بالحديث عن تلك التجارب. كلُّ ما أستطيع قولَه إنّ عمّي ماهر، في كلّ ما شهدتُه منه في تلك المهمّات والمواقع، أظهرَ أنّه كان وفيًّا لدماء شقيقه الشهيد محمد اليماني، ولمسيرة شقيقه الأكبر أحمد اليماني (أبي ماهر)، ولرفاقه الشهداء: أبي الرائد الأشقر، وأحمد أمين، ومحمّد الأسمر، وعاطف سويدان (أبي يحيى)، والفندي، وأصدقائه الشهداء من مخيّم البدّاوي. وكان وفيًّا لغسّان، ووديع، والحكيم، وأبي علي مصطفى،...

كان عمّي ماهر في حياته صدوقًا وصادقًا، متمرّدًا ومشاكسًا، ووفيًّا، ومتواضعًا. وكان قويًّا، وصلبًا، وحاسمًا. غير أنّ نقطةَ ضعفه الوحيدة كانت ابنيْه: حسين وعبد الله. وهذا موضوعٌ خاصّ، كان يزعج ماهرًا في حياته، ولا أريد إزعاجَه به في رحيله.

عمّي الحبيب، شكرًا لكلّ الحبّ والرعاية اللذيْن منحتني إيّاهما.

تورنتو

[1] https://bit.ly/2TJr8Ic

[2] https://bit.ly/2UJReHs

عصام اليماني

ابن شقيق القائد الراحل ماهر اليماني. عملا معًا في عدد من ميادين النضال. مقيم في كندا، بانتظار إبعاده إلى لبنان بسبب نشاطه السياسيّ وعضويّته في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. أحد مؤسّسي "التحالف الكنديّ لمناهضة الأبارتايد الإسرائيليّ،" وعضو مؤسِّس لمهرجان تورنتو للفيلم الفلسطينيّ. رئيس سابق لجمعيّة الإعلاميين العرب في كندا. حاز شهادةَ ليسانس في العلوم السياسيّة من جامعة يورك الكنديّة.