فلسطين: الذبيحة والمسخرة
10-02-2020

 

على الرغم من بؤس مشهديَّة الإعلان عن "صفقة القرن،" التي كانت عيدًا استعماريًّا باهتًا غابت فيه الذبيحةُ وحضرت المسخرة، فإنّ في وسع الفلسطينيّ - - الغائبِ سياسيًّا عن تاريخ البلاغة الإمبرياليّة، والحاضرِ شبحيًّا في جغرافيا خرائطها الاستشراقيّة - - أن يتَّخذَ من واقع الظلم حافزًا للمقاومة، والغناء في أوقات الظلام. لكنّ حلكةَ الظلمة، وقد تناسخت المشهديّاتُ على امتداد أكثر من ربع قرن (بين العاميْن 1993 و2020)، قد تقتضي استدعاءَ بدْرِ إدوارد سعيد، العصيِّ على الخسوف.

فسعيد، المثقفُ الذي لن يتكرّرَ في تاريخنا حتى إشعارٍ آخر، لم يكن بائعًا للأوهام. فقد كان يعرف أنّ سيّارةَ الجنائز، المصنَّعةَ في أوسلو، لن تقودَ إلى عرس التحرير في القدس، بل إلى مقبرة الاستسلام في "فرساي الفلسطينية"[1]- رام الله.

كتب سعيد الكثيرَ عن تاريخ الخيانة، لكنّه لم يكتبْ إلّا القليلَ عن "خيانة التاريخ." وكان صيّادًا بهيًّا للفروق، وسادنًا نبيلًا لوحدة الفلسطينيين، على الرغم من خلافه المتأخّر والحادّ مع ثاني أشهر فلسطينيٍّ بعد السيّد المسيح، وهو الرئيس الراحل ياسر عرفات. لم يعمِّرْ سعيد ليُفجَعَ برحيل عرفات شهيدًا؛ ولو عاش لَما تغيَّر توصيفُه لمشهديّة توقيع اتفاقيّة أوسلو في واشنطن في 13 أيلول 1993. ولم يعش، كذلك، ليرى أردأ أشكالِ استنساخِها في المكان ذاته، في 28 كانون الثاني 2020.

قال سعيد، معقِّبًا على المشهديّة الأولى:

"... ثمّة رمزٌ مثاليٌّ بالنسبة إليّ، وهو التباينُ بين الخطاب الذي ألقاه عرفات في 13 أيلول والخطابِ الذي ألقاه رابين. تحدّثتُ مع محمود درويش عن هذا. قلنا إنّ مَن ألقى الخطابَ الفلسطينيَّ كان رابين. أمّا عرفات، فألقى خطابَ رجلِ الأعمال، وشكر في نهايته الجميعَ، لا نعرف على ماذا، إذ ليس الأمرُ واضحًا تمامًا. إنّ شناعةَ محو تاريخنا بقليلٍ من التفاهات، مع العلم أنّ الخطابَ الفلسطينيّ سابقًا كان يكتبه أشخاصٌ كدرويش وآخرين...، هي جزءٌ من خيانة التاريخ هذه، التي تجعل من إعادة سردِ الحكاية أمرًا أكثرَ إلحاحًا."[2]

ولعلّ في تعقيب سعيد، وكلُّهُ جملٌ مفيدةٌ، على الرغم من قسوته، ثلاثةَ وجوهٍ للمقارنة بين لحظتيْن:

- ففي العام 1993، تمكَّن الصهيونيُّ من مواصلة احتكار خطاب الضحيّة، بينما انزلقت الرسميّةُ الفلسطينيّةُ إلى خطاب الواقعيّة السياسيّة، الخاصِّ بـ"رجل الأعمال،" إلى حدّ تحوُّلها إلى "أداةٍ وظيفيّةٍ" في يد أعدائها، من حيث تدري ولا تدري. وبصعوبةٍ، حاول المثقفُ استعادةَ دوره السياسيّ في صياغة الحكاية الفلسطينيّة وسردِها.

 

في العام 1993، تمكَّن الصهيونيُّ من مواصلة احتكار خطاب الضحيّة

 

- أمّا في العام 2020،  فلم يكتفِ الصهيونيُّ  بالاستحواذ على خطاب الضحيّة فحسب، من إسحق النبيّ حتى مستوطني عَموناه،[3] بل أحكم قبضتَه أيضًا على خطابِ نوعٍ خاصٍّ من "رجال الأعمال،" تَجسّدَ في تاجريْن أرعنيْن: الرئيس الأمريكيّ الذي لم يُحْسن استظهارَ كلمتيْن عربيّتيْن (فصار "المسجد الأقصى" في خطابه "الأكْوى موسك")، ورئيس وزراء العدوّ الذي بلغتْ وقاحتُه حدَّ التصفيق لنفسه، ووصف بنودَ "الصفقة" بأنّها "حلولٌ إبداعيّةٌ لسماسرةِ عقارات، لا يفكِّر بها الأشخاصُ الطبيعيّون..."[4] أمّا الفلسطينيّ، فقد غاب تمامًا، ولم يكن شاهدًا ولا ساردًا.  

ليس ثمَّة متَّسعٌ، ولا فائدةٌ، لاستدعاء أطرٍ تحليليّةٍ لمشهديّة الإعلان عن "الصفقة،" سوى للإضاءة على فحشها، الذي ربّما لم ينجحْ إلّا في وضع خطٍّ أحمرَ تحت أقدام أربعة عشر مليون فلسطينيّ ليراهم العالمُ في غيابهم أكثرَ من حضورهم. هنا، يذكِّرُنا التحليلُ الرهيفُ للمغاربيّ عبد الله حمّودي بأنّ النسقَ الفُرجويّ الذي يرافق العيدَ يمكِّننا من معرفة التصوُّرات القارّة في لاوعي المحتفِلين، ومن التأمُّل في ماهيّة الضحيّة وقد صارت ذبيحةً، والتيقُّنِ من أنّ الطقوسَ تقول الكثيرَ عن ممارسيها وعن الغائبين عنها.[5] ففي مشهديّة الإعلان، حضرتْ "ضحيّةٌ" يهوديّة، لا تلبس جلدَ الذبيحة ولا رأسَها، بل صارت هي الضحيّةَ الكاملةَ الأوصاف، القادرةَ على تجديد عقد استئجار الضحويّة إلى الأبد، وإحكامِ القبضة الاستعماريّة على جغرافيا المقدَّس، وإنجازِ الأعمال الكاملة لتاريخ اليهود العائدين إلى "إسرائيل" من السبي، بعد أن "أنصفهم" الإمبراطورُ الأمريكيُّ كما لم يفعل غيرُه من قبل.

لقد التقطت الكاميرا، "التي ليس في وسعها أن تكون لاساميّةً،" صورةَ التاجريْن الفاسديْن في حفلةٍ لا تتكرّر لتهنئة الذات (بإنجليزيّةٍ شعبويّةٍ ركيكة)، وهما يتغامزان على منصّةٍ تملأُها الأعلامُ الاستعماريّة، يصفّقان لنفسيْهما بالتناوب. وكان يُعِينهما في البهجة حشدٌ من خبراء إدارة التوحّش، من الديبلوماسيين والاستراتيجيين وراسمي الخرائط الاستشراقيّة (وعلى رأسهم صهرُ الإمبراطور الذي قرأ "خمسةً وعشرين كتابًا عن الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ،"[6] ولخَّصها، على نحو رديء، في 181 صفحة)، وحشدٌ آخر من معتمري "الكيباه" يردّدون بالعبريّة: "اللهمَّ باركْ أمريكا، اللهمَّ باركْ إسرائيل،" وثلاثةٌ من معتمري الحطَّة والخرقة، من جيران فاوست، لم تتّسعْ عينُ الكاميرا لالتقاطهم، يهمسون بالعربيّة: "ما شاء الله، تبارك الله،" ويُهدون إسحقَ عطشَ إسماعيل!

أمّا في رام الله، فإنّ الرسميّة الفلسطينية، التي تَعْلم أخطاءها ولا تتعلَّمُ منها، لم تعد قادرةً ولو على تمثُّل خطاب "رجل الأعمال،" أو تمثيلِه، بعد أن سُرِق منها هو أيضًا. ولم يكن في وسعها إلّا الإصرارُ على مواصلة "خيانة التاريخ،" كما مَفهمها إدوارد سعيد من قبل، وذلك بالدعوة إلى "إعادة النظر في الدور الوظيفيّ للسلطة،" بدلاً من الاعتراف بخطأ خيارها السياسيّ وفشلِ رهانها على روليت التفاوض مع العدو.

على امتداد عقدٍ ونصفٍ من الزمن، لم يُسعد الحالُ القيادةَ الفلسطينيّة، فلم تُهدِ شعبَها خيلًا ولا مالًا. وبدلًا من أن يُسعفَها النطقُ، تلعثمتْ. ولم يكن في وسعها ولو استبطانُ التحدّي الخطابيّ الذي مارسه يومًا ياسر عرفات حين سُئلَ عن مشاورات رئيس الوزراء الصهيونيّ السابق آرئيل شارون مع قائد أركانه شاؤول موفاز لقتله (أيْ عرفات) أو إبعادِه عن فلسطين عبر منحه "تذكرةً باتجاهٍ واحد" حتى لا يتحوَّلَ إلى بطل. كان ذلك في أعقاب إعلان عرفات "عدوًّا لإسرائيل" واقتحام قوات الاحتلال لرام الله ومحاصرة المقاطعة في 29 آذار 2002. حينها، ردَّ عرفات: "هل هذا وطنُه أمْ وطني؟ أنا هنا قبل شارون. نحن هنا حتى قبل النبيّ إبراهيم. ولكنْ يبدو أنّهم [الصهاينة] لا يفهمون التاريخَ ولا الجغرافيا. أنا سأذهب من هنا فقط إلى القدس."[7] ومضى شهيدًا بعد سنتين.

لن ينقذ أحدٌ التاريخَ من الخيانة إنْ لم يفعل الفلسطينيون ذلك بأنفسهم. ويكون ذلك بإعادة "سرد الحكاية،" وتعريفِ العدوّ، وتحديدِ طرقِ الانتصار عليه، كما حدّدها الفلسطينيون في العام 1968، في ميثاقهم الوطنيّ. ولذا، فإنّ الانخراطَ الجادَّ للمثقّف في تكريس السرديّة الفلسطينيّة، وفي إعادةِ الاعتبار إلى حدودها الجغرافيّة والديمغرافيّة والثقافيّة، عبر الإصرار على تشكيل الذاكرة المقاوِمة (والذاكرة ليست فعلًا مضى وانقضى، بل فعلٌ مضارعٌ مستمرّ)، هو بدايةُ الخروج من الهاوية التي سقطتْ فيها القيادةُ الفلسطينية، وأسقطتْ شعبَها معها. فبعد "خارطة" الصفقة، وتشخيصِها التوراتيّ للصراع، و"حلولها النهائيّة" لقضايا الحلّ النهائيّ، لم تعد إيديولوجيا محاربةِ الإيديولوجيا "مهنةَ البوليس" وحسب، كما تندَّر محمود درويش مرَّةً، بل صارت كذلك أداةً أكثرَ فحشًا في محاربة الفعل الثوريّ.

ليس المثقّفُ الفلسطينيّ طبّالًا ليدقَّ طبولَ الحرب، لكنّ في وسعه أن يكون شهيدًا. وإنْ لم ينل ذلك، ففي وسعه أن يحافظَ على جذوة المواجهة مستمرّةً مع العدوّ. وليس المثقّفُ الفلسطينيّ موظّفَ علاقاتٍ عامّة كي يجامل القيادةَ الفلسطينيّةَ ويحافظَ على مشاعرها من الخدش. وبالتأكيد، ليس المثقفُ الفلسطيني "متَّهمًا" كي يقدِّم براهينَ على وطنيته حين يعلن ولاءه لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة فكرةً، وثورتَه عليها مؤسَّسةً. أن تكون فلسطينيًّا اليوم يعني ألّا تقبلَ بدورٍ غيرِ دورك الذي يوقف "خيانةَ التاريخ،" الدور الذي رسمه المثقّفون الثوريّون الحقيقيّون: أن تكون مقاتلًا من أجل الحريّة.

القدس (فلسطين المحتلّة)

 


[1] Edward Said, “A Palestinian Versailles,” The Progressive 57: 12, December 1993, pp. 22-26

[2] Edward Said, The Pen and the Sword: Conversations with David Barsamian (Monroe: Common Courage Press, 1994), pp. 161-162

[3] "بؤرة" استيطانيّة صهيونيّة أقيمت عند ملتقى أراضي قرى سلواد وعين يبرود والطيبة الفلسطينيّة، شمال شرق رام الله، في العام 1995. وإثر مقاومة أصحاب الأرض، وبعض المناصرة القانونيّة، صدر أمر قضائيّ من المحكمة الصهيونيّة العليا بإخلاء المستوطنة عدّة مرّات. ماطلت الحكومةُ وجيشُ الاحتلال في تنفيذ الأمر حتى العام 2017. وعند إخلاء المستوطنين، جرى تصويرُهم كأنّهم ضحايا أُجْلوا عن ديارهم. ورافقتْ ذلك بروبوغاندا منظّمة لتوضيح أثر "العنف والصدمة" في المستوطنين وأطفالهم.

[5] عبد الله حمّودي، الضحيّة وأقنعتُها: بحثٌ في الذبيحة والمسخرة بالمغارب (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2010).

[7] مقابلة مع قناة الجزيرة في 2 نيسان 2002.

عبد الرحيم الشيخ

شاعر وناقد من القدس. وُلد لعائلة فلسطينيّة لاجئة من الرَّملة المحتلَّة. يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت في فلسطين. يتمحور عملُه الفكريّ على القوميّة، وسياسات الهويّة، والشِّعريّة العربيّة، والترجمة، ويتركَّز نقدُه الفنّيّ على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.