زيارة صديق**
20-08-2018

 

يتصبَّب العرقُ من جبهته، فيلسعُه لسعاتٍ خفيفةً لم يعهدْها من قبل. السبب؟ قرنُ الفلفل الأخضر الحارّ، الذي تناوله مع سندويش الكبدة، التي اشتراها من عربة العمّ عبده. والسبب أيضًا الموجةُ الحارّة التي تضرب البلادَ منذ أيّام.                                                                                                

يشعر بحرقةٍ في المريء. ما كان عليه أن يرهقَ جهازَه الهضميّ هكذا؛ فقد بعدت المسافةُ بينه وبين زمن الكبدة والطعميّة، منذ اعتاد التنقّلَ بين اوفيو وكوبا كابانا ولوسيلز، ليأكل الكوردون بلو والستروجانوف بالشوكة والسكّين، كما الخواجات. موقعُه الجديد في الهرم الاجتماعيّ أعفاه من "التلطّم" في أزقّة "دار السلام،" فما باله يعود إليها اليوم؟ أنوستالجيا هذه، أمْ غوايةُ فقر؟

ثمَّة حريقٌ آخر لا تقلّ نارُه استعارًا. لأوّل مرّةْ يشعر بقيمة الكليشيه الذي اهترأ لكثرةِ ما استعمله زملاؤه: "ليت عقاربَ الساعة تعود إلى الوراء." فلو عادت فعلًا لتصرّفَ بشكلٍ مغاير، ولأنقذ نفسَه من براثن الندم الذي يكاد يفتك به.

منهيًا جولةً على الأقدام لم يفهم داعيًا لها، يعود منهكًا إلى شقّته الجميلة، في المعادي القديمة. تسأله "منّة" عن سبب تأخّره، فلا تسمع منه سوى غمغمةٍ لا تفهم منها شيئًا. تردّ بطريقةٍ مماثلة. يقدّر أنّها تحدّثه بشأن الغداء. ولكنّه قبل أن يتأكّد من ذلك، يجيبها: "ماليش نفس."  

ما إنْ يُنهي استحمامَه حتى تعاجلَه بدعوةٍ لا تُردّ. لا تستسلم منّة بسهولة؛ تعرف أنّ الشاي نقطةُ ضعفه الوحيدة. حبُّه للشاي نقطةٌ من نقاط الالتقاء النادرة بين زمنيْن متنافريْن، طَبَعا سنواتِ عمره الـسبعَ والثلاثين: زمن "دار السلام" الشقيّ، وزمن "المعادي" الراقي. بعد الرشفة الأولى تُلقي عليه السؤالَ الذي يشغلها منذ وصوله:

ــــ ألن يتوقّف هؤلاء الناس عن إزعاج حبيبي بالتلميح إلى تهم سخيفة، مثل الارتزاق والتطبيع؟

مدفوعًا بالانتعاش الذي خلّفته المياهُ الباردةُ في مسامه، والشايُ الساخنُ في جوفه، يقرّر الحديثَ بعد نفسٍ عميق، فيفتتحه بعبارة استفهاميّة تزيد من حيرتها:

ــــ أيُّ خائن أنا؟

وقبل أن تذهب بها أفكارُها بعيدًا، يذكّرها بأنّ الخيانةَ ألوان، وأنّ نصيبَه منها هو خيانةُ النفس لا أكثر. يحدّثها عن كرامته التي قصَّر في حقّها حين التقت عيناه بعينيْ "شيماء" فابتسم لها. وكيف يبتسم لها وهي التي لم تترك وسيلةً إلّا حاربتْه بها في الخفاء، ولا ابتسامةً مسمومةً إلّا رمتْها في وجهه بالعلن؟ شيماء التي حاكت له من المكائد ألوانًا، ولفّقتْ له تهمًا تتبدّل باستمرار لتواكبَ أهواءَ الحكّام بعد كلّ ثورة (من حسن طالعه أنها لم تكن أبرعَ منه في فنون "التكيّف" و"المرونة")؟ شيماء التي تباهى أمام المحيطين به، مؤخّرًا، بأنه وقف في وجهها، وأخبرها أنْ لا كيمياء بينهما، ونصحها بالتوقّف عن محاولاتها والاكتفاءِ بما تفرضه ضروراتُ عملها معه في مكتبٍ واحدٍ إلى حين نقله إلى مكتبٍ آخر؟

لقد كانت الأمور تسير على ما يرام، والسمّاعتان في أذنيه تنقلان إليه موسيقى عمر خيرت فتريحانه من التواصل مع شيماء، حتى دخل شريف إلى المكتب. هذا المحرّر الشابّ لا ينفكّ يختلق الأحاديثَ، يُشْركه فيها تارةً، ويشرك شيماءَ تارةً أخرى. حتى كانت لحظةٌ ضَبَطَ فيها نفسَه منخرطًا في حوارٍ ثلاثيّ، مع شيماء وشريف، مفعمٍ بالفكاهة. وحين مسح الابتسامةَ عن وجهه، بعد أن التقت عيناه بعينيْ شيماء، كان الأوانُ قد فات، وراح ماءُ وجهه يسيل على بلاط المكتب.

ــــ تخيّلي يا منّة أنّها استغلت الموقفَ بأفضل طريقةٍ ممكنة، فتطوّعتْ لإنجاز تحقيقٍ استقصائيّ كنتُ قد تأخّرتُ في إعداده لكي تجنِّبني لومَ مدير التحرير. ثمَّ طلبتْ مني ألّا أقودَ سيّارتي بسرعة مثل الأمس لأنّ الجريدة "لا تحتمل خسارةَ قلمي الجميل في هذه المرحلة الحسّاسة من عمر الوطن."

تقاطعه منّة لتطمئنه إلى أنّ في إمكانه العودةَ إلى سابق عهده مع شيماء منذ الغد. يرفض الفكرة، مؤكّدًا أنَّه سيبدو مزاجيًّا، وهو الذي حاضر كثيرًا في هجاء المزاجيّة وأهلِها. تؤكّد له منّة أنّ ما حدث بينهما البارحة كان مجرّدَ ابتسامة، وأنّ "تطبيعًا عفويًّا" كهذا ليس جريمةً تستحقّ كلَّ هذا التأنيب الذاتيّ. ثمّ تذكّره بقدرته الهائلة على تبرير أيّ شيء، وتشرح له أنّ موقفه اليوم ليس أصعبَ منه يوم عاد من زيارةٍ إلى رام الله بتأشيرةٍ إسرائيليّةٍ قبل أربعة أعوام.

تلوح على وجهه ابتسامةُ رضا، إذ يتذكّر الأصداءَ الإيجابيّة التي رافقتْ مقالتَه يومذاك، فأخرستْ ألسنةَ أصحاب دعوى "رفض التطبيع مع العدوّ" و"دماء الشهداء" وسوى ذلك من شعاراتٍ عفا عليها الزمن. كانت المقالة بعنوان "في ضرورة زيارةِ ما تبقّى من فلسطين: أن تزورَ صديقَكَ في سجنه الكبير."

ولكنّ الابتسامة لا تلبث أن تختفي سريعًا. أيكون ذلك لأنّه أغفل في مقالته الإشارةَ إلى الرحلة السياحيّة الممتعة التي قام بها إلى تل أبيب على هامش "زيارة السجين" تلك؟

حقًّا، ليس في الإمكان تبريرُ كلّ شيء!

بيروت

** القصة مستندة إلى مقالة روائيّ عربيّ في معرض تبريره زيارةً قام بها إلى رام الله، وقد استَخدم فيها عبارة "زيارة صديقك في سجنه الكبير" التي سمعها من صديقٍ فلسطينيّ.

مهدي زلزلي

كاتب من لبنان. له مجموعة قصصيّة بعنوان: وجهُ رجلٍ وحيد.