رجل خفيف الظلّ
26-02-2021

 

كان يرغب في أن يكون رجلًا عظيمًا. ولكنْ، مع مرور الوقت، استقرّ على أنّه من الأفضل أن يكون رجلًا خفيفَ الظلّ. لم يعد يذكر كيف ومتى حدث هذا الانتقالُ من العظمة إلى الخفّة. كلُّ ما يعرفه أنّه حدث بشكلٍ سلسٍ وتلقائيّ، مثلما تلاشت لديه أيُّ رغبةٍ في تغيير أنبوبة الإضاءة التي احترقتْ منذ مدّةٍ في غرفته. "لا يتطلّب تغييرُها سوى بضعِ ثوانٍ،" كان أبوه يردّد باستسلام.

وجد نفسَه في هذا الصباح الباكر يردِّد مقطعًا من أغنيةٍ ألِفَها بعضَ الشيء، "زوّار جينا عالدِّني." كان منتشيًا بشكلٍ لم يعتدْه منذ فترةٍ طويلة؛ فاليوم سيكون على موعدٍ مع فتاة. لم يكن له أن يصفَه بالموعد الغراميّ؛ فالشيء الوحيد الذي اتّفقا عليه هو أنّهما سيلتقيان عند الثامنة، هذا الأربعاء.

فكرةٌ واحدةٌ ألمّت به منذ فترةٍ وطبعتْ تفكيرَه في كلّ شيء: "الحبّ هو السرّ." كان يَشدُّ ويُطيلُ في حرف الراء كلّما ردّد هذا المقطعَ من الأغنية. راق له أنّه سيبدأ اليومَ رحلةً جديدةً لكشف السرّ. أن يعرفَ أو لا يعرف ليس مهمًّا؛ فهذه ليست رحلتَه الأولى. ولكنّه كان منتشيًا بإحساس البدايات بشكلٍ خاصّ. استكان لفكرة أنّ لكلّ بدايةٍ تعبيرًا فريدًا عن العظمة، وأنّه لا يحتاج أن يكونَ هو ذاتُه عظيمًا لكي ينتشيَ بالعظمة ويُدمنَها. فإذا كان الحبُّ هو السرَّ وراء الإحساس بالعظمة، فكلُّ ما عليه أن يفعلَه هو أن ينجحَ في الحبّ، أو أن ينجحَ على الأقلّ في البدايات الأولى من أيّ علاقةٍ جديدة.

ولكي ينجح في البدايات استسلم لفكرة وحيدة: أنّ عليه أن يكون رجلًا خفيفَ الظلّ! فتخلّى بشكلٍ سهلٍ عن الكثير من الأشياء التي لم يعد يستطيع أن يبرِّرَها أو يحتملَها. ولو سألتَ القلّةَ القليلةَ من أفراد العائلة والأصدقاء الذين لاحظوا هذا التغييرَ، فسوف يتعجّبون من رفضه الخوضَ في أيّ نقاشٍ جدّيّ بعد أن كان لا يفوِّت فرصةً للجدال طويلًا في الكثير من القضايا. حاولوا الاستفسارَ عن هذا التحوّل، غير أنّه دائمًا ما كان يستحضر قصّةً أو حادثةً ما ليبدّل مجرى الحديث.

هو يومٌ طويلٌ ينتظره قبل ملاقاتها. كانت الساعة تشير إلى الواحدة من بعد منتصف النهار عندما طرق بابَ صالون الحلاقة القريبِ من منزل العائلة. كان يعرف أنّ صاحبَه في الداخل، وكان يختار هذا الوقتَ بالتحديد لأنّه يعرف أنّ الصالون سيكون خاليًا من الزبائن؛ ما يجعل شكري الحلّاق لا يمانع كثيرًا في أن يؤخِّر موعدَ قيلولته طمعًا في ديناريْن أو ثلاثة تضاف إلى معلوم الحلاقة. يقولون إنّ التونسيّ تاجر، والجميع سعيد إذا الجميعُ ربح. غير أنّ شكري أراد اليوم أن يكون تاجرًا فوق العادة. كان التلفاز يتحدّث عن اتفاقيّاتٍ تاريخيّة، حين باغته شكري:

-عندهم ألف حقّ! لازم يهتمّوا في بلادهم قبل أيّ قضيّة أخرى.

- متفاهمين، وتبسّم بشكل عصبيّ.
لا يستطيع الآن أن يحدِّد متى وكيف أصبح يكرِّر قوالبَ جاهزةً من نوع: "لا أظنّ أنّ لي رأيًا في هذا الموضوع" أو "أتّفقُ تمامًا مع ما قلتَه" أو "دعوا جانبًا ما يُفْسد اللقاء، هل شاهدتم الفيلمَ الجديد عن بطلة الشطرنج؟" هكذا وجد نفسَه يتجنّب النقاشات العميقة؛ ولئن اضطُرّ إلى أن يدليَ برأيه فقد كان دائمًا ما يردِّد عموميّاتٍ من دون فكرةٍ واضحة.

تدريجيًّا، أصبح كائنًا سلسًا، من غير أفكارٍ أو علاقاتٍ واضحة. يعرف الجميعَ، ولكنّ الجميع لا يعرفه. يتحدّث مع الجميع بخفّةٍ واضحة، ولكنّ أحدًا لا يمكن أن يصفَ تحديدًا فيمَ تحدّثَ ولا مناسبةَ الحديث نفسها. لكنْ كان قد تأكّد له أنّ الجميع قد يجدون أعذارًا كثيرةً لرجلٍ بلا هويّة، غير أنّهم لا يحتملون بتاتًا رجلًا ملتزمًا بالقضيّة، أيّ قضيّة، وسيفعلون كلَّ ما في وسعهم ليُشْعروه بمقتهم وامتعاضهم. وهو لا يريد هذا، ولا ذاك. هو يريد فقط أن يكون رجلًا خفيفَ الظلّ.

لذا توصّل إلى حلٍّ سلسٍ آخر: أن تكون له شخصيّةٌ خاصّةٌ له فقط، وأخرى عامّةٌ للعائلة وبعض الأصدقاء والعموم... وطبعًا لفتاة اليوم.

تساءل فقط عن ردّة فعل شُكري إنْ علِم أنّ علَمَ فلسطين يطغى على ديكورغرفته.

استراح لفكرة أن تظلّ أنبوبةُ الإضاءة محترقةً. وفكّر، وهو يغادر صالونَ الحلاقة، أنّ عليه أن يحترفَ هذه الشخصيّة العامّة.

كان الجميع ينتظر الكثيرَ منه، ولا سيّما أبوه الذي كان يردّد أمام الجميع أنّ ابنَه سيكون له مستقبلٌ عظيم. وكان هو كذلك مؤمنًا بالشي نفسه، وكان متأكّدًا أنّ هناك عيونًا خفيّةً تتبعه منذ صغره لتحميَه وتقودَه إلى العظمة. غير أنّه لم يعرفْ كيف ومتى بدأ سقفُ الأحلام في التضاؤل. هي أشياءُ صغيرةٌ لم يعرف كيف تسلّلتْ إليه: انحناء الظهر، خفوت بريق العينين، اصفرار الأسنان، الرغبة في الوحدة أو التلاشي.

لا داعي للاهتمام بالتفاصيل؛ "هالعمر كلّو منام."
كانت القاعة الفسيحة مكيّفةً وخالية، إلّا من ثلاث موظّفاتٍ، انتبهت اثنتان منهنّ إليه، في حين كانث الثالثة تتحدّث بصوتٍ عالٍ في الهاتف.

ارتبك بعضَ الشيء عندما لاحظ أنّ أربعَ عيونٍ أنثويّة ترمقه، ولم يفهمْ كثيرًا لِمَ اختار أن يقتربَ من الموظّفة الأكبر سنًّا.

وضع أمامها ملفَّ التحويل الماليّ مبتسمًا ابتسامةً أرادها أن تكون عفويّة. راجعت الموظّفةُ الملفَّ بشكل عاجل قبل أن تعيده إليه:

- لازم الأول تجيب بيان توزيع التركة وبيان تاريخ الوفاة.

- أيّ وفاة؟

- وفاة الأب، صاحب التركة، أجابت مستغربةً.

شاطرها استغرابَها. مضى أكثرُ من عام على وفاة والده، ولم يجد بعدُ الجهدَ أو الرغبةَ في تغيير الأشياء، دع عنك إتمامَها. "يلّي غارق بالأوهام فِزْ اطلعْ لقدّام." أكّد لنفسه أنّه مستيقظ تمامًا، وأنّ الأشياء واضحة سلسة الآن، وضوحَ البدايات.

أقنع نفسَه بأنّ كلّ شيء على ما يرام حين وصل إلى موعده مع فتاة اليوم. لاحظتْ أنّه مرتبكٌ بعضَ الشيء، فبادرتْه بالسؤال:
- ما تشبهش برشا لتصويرتك على Tinder.

- دايما يقولولي نفس الحكاية.

- هيا باهي.

-- أمّا باش نقلّك، موش باش نقعد برشة، خاطر عندي عشاء من بعد.

- آه، اوكي.

تبسّم بشكلٍ عصبيّ. وشعر بذلك الإحساس الغريب الذي يراودُه كلّما نظر إلى الأنبوبة المحترقة: إرهاق عارم، ورغبة في ألّا يستمرّ في أيّ شيء.

تَبادَر إليه أنّه ربّما احترف هذه الشخصيّةَ العامّةَ وأصبح خفيفَ الظلّ أكثرَ ممّا ينبغي.

تونس

هيثم قاسمي

 كاتب وباحث تونسيّ.