ثلاثة وجوه للأزمة.. وحلم الثورات مستمرّ
15-10-2015

انفجرت الثوراتُ حين تساوت الحياةُ والموت، أيْ حين سُدّت كلُّ المنافذ الجادّة للعمل والحريّات والتعبير. كان الهدف هو الوصول إلى حياةٍ أفضل على المستويات كافّةً: تأمين فرص عمل، ونظام ديمقراطيّ، وضمان الحريّات العامّة، وإقرار حقوق الإنسان في منظومة الدساتير. وبدقّةٍ أكبر، فإنّها انفجرتْ حين أصبحتْ نتائجُ السياسات الليبراليّة كارثيّة: فمعدّلاتُ البطالة تقترب من الأربعين بالمائة أحيانًا؛ والأجورُ متدنّية؛ والحكوماتُ تخلّت عن مسؤوليّتها في الرعاية الاجتماعيّة كالتعليم والصحّة والعمل والسكن؛ والسلطاتُ تحوّلتْ إلى مافياتٍ عائليّة (ذاتِ تحالفاتٍ طبقيّة) تتحكّم بكلّ موارد الدولة؛ ومعدّلاتُ النهب والتسلّط والإفقار فاقت كلَّ قدرة على التحمّل.

 

الاستبداد مجدّدًا

أنتجت الثوراتُ العربيّةُ حتى الآن: نظامَ صندوق الاقتراع (تونس)، ونظامَ الاستبداد العسكريّ (مصر)، و"نظامَ" الحروب العدميّة (سوريا وليبيا واليمن). هذه الأشكال الثلاثة "للسلطة" لم تحلّ المشكلاتِ الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، بل تأزّمتْ مستوياتُ البنية الاجتماعيّة كافّةً، لتبدو نتائجُ الثورات أقربَ ما تكون إلى التراجع، فلماذا وصلت الشعوبُ إلى ما هو أسوأ؟!

لا تمْكن قراءةُ التاريخ إلّا بأحداثه، وباستكشاف ميوله أو قوانينه، وإلّا كان الفكرُ اجترارًا لأوهام الذات. لقد كان لدينا واقعٌ موضوعيّ يقول بضرورة الثورات، ولكنّ أشكالَ الحكم وأنماطَ الاقتصاد ــــ على اختلافها بين تونس وسورية وليبيا واليمن ومصر ــــ كانت محكومةً بأنظمةٍ مستبدّةٍ مَنعتْ كلّ صراعٍ سياسيّ واقتصاديّ منتِجٍ وقابلٍ للتطور. فلم تتطوّر إضراباتُ العمّال التي كانت تحدث في مصر  منذ العام 2004. ولم تتطوّر الاحتجاجاتُ في تونس لتصبح حركاتٍ عمّاليّةً وفلّاحيّةً قويّةً تعبّر عن مطالبها اقتصاديًّا وسياسيًّا وإيديولوجيًّا. وفي سورية لم تحدث إلّا احتجاجاتٌ نادرةٌ ومتقطّعة، ولم تُلحَظْ في الوعي السوريّ قطّ. وفي اليمن لم تستطع ثورتُها إنهاءَ النظام القديم، وعادت القبيلةُ إلى الفاعليّة، وكذلك الأمرُ بالنسبة إلى الإقليميّة والطائفيّة (الحوثيّة)، وفي ليبيا واصل القذافي إبداعَ أوصافٍ جديدةٍ لجمهوريّته وصفاته الشخصيّة، وواصل توسيعَ غرائبيّة خيمته التافهة. وعلى الرغم من التفاوت النسبيّ بين هذه الدول، فإنّها انتهت جميعها إلى عودة النظام القديم: تارةً عبر الانتخابات (كما في تونس)، وتارةً عبر الانقلاب المسنود إلى حركة شعبيّة واسعة (كما في مصر رفضًا لأخونة الدولة)، وتارةً عبر إعادة إنتاج النظام نفسِه شكلًا ومضمونًا (كما في سوريا واليمن).

 

مشكلة الوعي

في غياب وعيٍ سياسيّ واقتصاديّ محمولٍ على برنامجٍ محدّدٍ وواضحِ المعالم للاقتصاد البديل، ولنظام الحكم البديل، وللدستور البديل، جاءت الهبّاتُ لتكونَ أقربَ إلى الانفجارات الاجتماعيّة الواسعة منها إلى الثورات التي كان ينْشدُها الناس. وتُركتْ حواملُ الثورة اليسار فريسةً للّعب السياسيّ: أوّلًا من قِبل المعارضات السياسيّة التي أخفقتْ في القيام بأقلّ ممّا كان متوقّعًا منها، وثانيًا من قِبل الأحلاف الإقليميّة والدوليّة التي لعبتْ على وتر  بثّ الأمل في جمهور الثورة بعد الإحباط الناتج عن الفشل.

لا شكّ في وجود صيرورةٍ موضوعيّةٍ بين أسباب الثورات من جهة، والتطوّراتِ اللاحقةِ والواقعِ الراهنِ من جهةٍ ثانية. تقول هذه الصيرورة باستمرار الأسباب ذاتها، وبحدوث وقائعَ جديدة. فلقد تأزّمت البنيةُ الاجتماعيّةُ القديمة، وفي المقابل تشكّل وعيٌ أقربُ ما يكون إلى الطائفيّ والإقليميّ والإثنيّ والعائليّ. وهذا الوعيُ الناشئ يغذّيه الأعداءُ: بدءًا من الأنظمة التي لا تزال تصارعُ من أجل البقاء، مرورًا بالمعارضات السياسيّة الفاشلة التي تكرّسه في خدمة هدفها الوحيد (الوصول إلى السلطة)، وصولًا إلى الأحلاف الدوليّة والإقليميّة. غير أنّ وعيًا آخرَ قد يقلبُ الطاولةَ على الجميع.

ولكنْ هل ثمّة إمكانيّةٌ لولادة وعيٍ جديدٍ يُنتج وجوهًا أخرى للثورات، غيرَ الوجوه التي تتسيّد المشهدَ الحاليَّ في الدول التي تجتاحها الحروبُ العدميّةُ والاستبدادُ الجديدُ و"الديمقراطيّةُ الانتخابيّة"؟!

 

الثورات ستتجدّد

نعم، هناك مراحلُ جديدةٌ قادمةٌ لا محالة، ستعود فيها الثوراتُ إلى مطالبها الأساسيّة (تأمين فرص عمل، نظام ديمقراطيّ، ضمان الحريّات العامّة،..). والعودةُ هنا سببُها استحالةُ الحياة من دون تحقيق تلك المطالب، إذ لن تستطيع مصرُ وتونس ـــ مثلًا ـــ تجاوزَ أزماتهما العامّة بوجود أنظمةٍ تتّبع السياساتِ الاقتصاديّةَ الليبراليّةَ ذاتَها. فهل حُلّت مشكلاتُ العمل هناك؟ وهل استُقطبت استثماراتٌ ضخمة؟ كلّا، ولن يتحقّق ذلك. ذلك أنّ العالم بأسْره غارقٌ في أزمةٍ اقتصاديّةٍ كبيرة، يؤجّلها عبر إيقاد الحروب في المنطقة، وعبر دفعِ الشعوب الثائرة نحو صراعاتٍ دينيّةٍ وقوميّةٍ وجهوية. وكلّ ما ذُكر سيشكّل أزماتٍ تضاف إلى ما سبقها من أزمات، وستندلع الانفجاراتُ الاجتماعيّةُ مجدّدًا، حالما يحدث شكلٌ أوّليّ للاستقرار. ومن ثمّ فلا مجال لأنظمةٍ مستقرّةٍ ما لم تُحلّ الأزمات.

إنّ الأنماط الثلاثة الناتجة عن الثورات هي أنماطٌ تسلّطيّةٌ موقّتة، وهي مرحلةٌ فحسبُ في تطوّر التاريخ. فالليبراليّة في الاقتصاد، والشموليّةُ والديمقراطيةُ الانتخابيّةُ كنظاميْ حكْم، والحروبُ العدميّة: هذه كلّها ليست حلولًا، وإنّما أزماتٌ ستُنتج الانفجاراتِ لا محالة مستقبلًا. إنّها، إذن، وجوهٌ للأزمات، لا وجوهٌ ممثِّلةٌ للثورات. نعم، قد تُدفع الشعوبُ نحو خياراتٍ خاطئةٍ في مراحلَ معيّنةٍ من تاريخها، ولكنّها ستعود إلى تحقيق أهدافها في سياقٍ طبيعيّ وبما يحلّ مشكلاتها الرئيسة.

 

الأزمة عالميّة، والثورات ستتجدّد

لن يعود التاريخُ إلى سياقه الطبيعيّ سريعًا: فالأزمة الاقتصاديّة العالميّة عنيفة، ولا أفقَ لحلّها رأسماليًّا، بل هي تشتدّ منذ العام 2008؛ وحروبُ سورية وليبيا والعراق هي بمثابة أسواقٍ ممتازةٍ لصفقات السلاح الأمريكيّ والأوروبيّ عامّةً، ودولُ الخليج تزيد من ترسانتها مقابل ترسانات إيران وتركيا؛ وإبقاءُ الحروب هذه ضمن حدودٍ معيّنة يُسهّل عمليّةَ نهب الثروات واقتسامها بين الدول العظمى. التاريخ العالميّ الآن يشهد تطوّراتٍ كبيرة؛ وما الخلافُ المستعرُ بين روسيا والصين وإيران من جهة، والولاياتِ المتحدة (المثقلةِ بأزمتها الاقتصاديّة) وأوروبا (العجوز) من جهةٍ ثانية، إلّا أحدُها.

يتبدّى هذا الصراعُ في سورية وليبيا واليمن، وفي الغرب أيضًا. فهناك احتجاجاتٌ واسعةٌ في إسبانيا واليونان والبرتغال، وبدرجةٍ أقلّ في فرنسا وغيرها. وهناك عزوفٌ كبيرٌ عن المشاركة السياسيّة في اللعبة الديمقراطيّة هناك؛ أيْ إنّ هناك تأزمًا كبيرًا إزاء كلّ أشكال الحياة في الدول المتقدّمة نفسها. فهل سيفضي ذلك إلى تطوّراتٍ ثوريّةٍ تشْبه ما حدث في البلاد العربيّة؟

اليسار  ليس غائبًا كبديلٍ فحسب، بل غائبٌ أيضًا عن أن يكون طرفًا فاعلًا ودافعًا نحو خياراتٍ سياسيّةٍ تضع التاريخَ العالميّ على سكّة إيجاد حلولٍ جديدةٍ لمشكلات العالم.

إنّ غيابَ اليسار عن المشهد العالميّ والعربيّ شكّل، وسيشكّل، مشكلةً سياسيّةً خطيرة، ولا سيّما بالنسبة إلى منافذ الخروج من الوضع الحاليّ. واليسار  ليس غائبًا كبديلٍ فحسب، بل غائبٌ أيضًا عن أن يكون طرفًا فاعلًا ودافعًا نحو خياراتٍ سياسيّةٍ تضع التاريخَ العالميّ على سكّة إيجاد حلولٍ جديدةٍ لمشكلات العالم.

يُشبّه محلّلون وضعَ العالم الحاليّ بوضع العالم ما قبل الحرب العالميّة الأولى. التاريخ لا يُستعاد كما هو طبعًا، ولكنْ ثمة مشكلاتٌ كبرى فعلًا، وأحلافٌ دوليّةٌ جديدةٌ صاعدةٌ بسبب الأزمة الاقتصاديّة المتصاعدة، بيْد أنّ الأخطر هو  غيابُ اليسار، وغيابُ الأفكار  التحرريّة والثوريّة في العالم الثالث.

إذن ليست الوجوهُ الجديدةُ للدول العربيّة خارج الارتباك الحاصل في ما يخصّ البديلَ الثوريّ عالميًّا. إنّه تاريخُ الشعوب حين تتحرّك وتدفع الأثمانَ الكبيرة في غياب الرؤية والبرامج الواضحة والمحدّدة. وكما سبق القول فإنّ الليبراليّة الاقتصاديّة ليست الحلّ؛ والليبراليّة السياسيّة لم تعد تقدّم حلًّا، بل هناك عزوفٌ أوروبيّ عنها وعن شكلها الديمقراطيّ؛ والإسلام السياسيّ أفلس حالما وصل إلى الحكم، ولا يمتلك حلولًا من أصله، بل يدفع نحو الجهاديّات، التي تسيطر بالسلاح والمال، وستتراجع حالما يتوقّف تدفّقُهما إليها. المأساة لن تتوقّف ما لم تُرتّبْ شؤونُ المنطقة بأكملها، وهذا بدوره رهنٌ بما ينجم عن الصراع بين التحالفات الدوليّة، وبين حركة الشعوب. لا خيارات محدّدة مُسبّقًا لما يحدث. هناك يقينٌ فقط بأنّ الثورات ستتجدّد لم تستطع الشعوبُ تجاوز مشكلاتها.

تاريخُ الشعوب لا يمكن احتجازُه مجدّدًا. وأهدافُ الثورات لا يمكن الإجهازُ عليها. وما الخروجُ عن سياق الثورات إلّا توطئةٌ فاسدةٌ لتاريخٍ لا بدّ من أن يُنْصف التضحياتِ المهولةَ التي قدّمتها الشعوبُ وستقدّمها تباعًا؛ فقد تساوت الحياةُ والموتُ لديها، ولا بدّ من أن تسعى نحو تحقيق كلّ أسباب الحياة.

دمشق

عمّار ديوب
كاتب وصحفيّ سوريّ. نشر في العديد من المجلات (مجلة الجديد، دمشق..)، والصحف (الحياة والعربيّ الجديد وفي العرب اللندنيّة...)، كما في العديد من المواقع الإلكترونيّة  العربيّة.
مقيم في دمشق.