تعليقًا على مقال جنى نخّال عن تونس: للمأساة وجه آخر
10-10-2019

 

للمأساة في تونس اليوم وجهٌ آخر، غيرُ الذي ذكرتْه الكاتبة جنى نخّال في العدد الماضي من الآداب. والوجهُ الآخر يوجد في الجهة الأخرى من الوطن، في القصرين وجندوبة وسليانة وسيدي بوزيد، في أماكنَ قليلًا ما تزورها وسائلُ الإعلام أو تَشهد أحداثًا فنّيّةً أو ثقافيّة. هي أماكنُ بعيدةٌ، منسيّةٌ، لا شمسَ تشرق عليها. لا يتذكّرونها إلّا في الحملات الانتخابيّة، حيث تُلتقط الصورُ مع البؤساء الحفاة العراة لترويجها في "موسم الحنان" الذي يتكرّر كلَّ أربع سنوات أو خمس. يستغلّونهم "ماعون صنعة،" ثمّ يتركونهم لمصيرهم. الوعود تأخذها الرياح، والحلمُ ينقضي، فيصحو الغلابى على خيبةٍ لا تفارقهم. 

هناك، لا مَعامل، شأنَ ما نشأ في المدن حيث فرصُ العمل (وإنْ بسيطةً). لا بنية تحتيّة تخلق مواطنَ الشغل للنساء والرجال. الأماكن محاصرة بوعورة الطبيعة، يقسو عليها الشتاءُ والصيفُ على حدّ سواء. المدارس بعيدة. أمّا المراكز الصحيّة، فلا حبّة أسبرين فيها، ولا ضمادة، ولا مطهِّر للجراح.

المستثمِرون لا يقتربون من هذه المناطق القاسية والنائية، ولا يقامرون ببعث المشاريع وتحمّل أعباء أخرى تهدِّد أرباحَهم المنتظَرة. فهم، بعد الفوز بامتيازاتٍ كثيرةٍ تمنحهم إيّاها الدولة، ينتصبون قرب السواحل، وفي المناطق الناعمة مناخيًّا وتضاريسيًّا، للرفع من هامش أرباحهم. وهم يفعلون ذلك تحت أعين السلطة، التي لا تملك تصوّرًا للحدّ من ارتفاع عدد العاطلين عن العمل (يقدَّر عددُ هؤلاء من حاملي الشهادات العليا بما يفوق نصفَ المليون) إلّا بجلب استثماراتٍ أجنبيّة. غير أنّ هذه الاستثمارات تستغلّ اليدَ العاملةَ بكلفةٍ بسيطة، ولا تَستثمر أصلًا إلّا في المجال الصناعيّ (صناعات استهلاكيّة تتطلّب مهارات متوسّطة أو بسيطة).

هناك، في تلك الأماكن، يعيش إنسانٌ آخر، "حياةً" أخرى، ومأساةً أخرى. هناك، في الولايات البعيدة، حيث يغْلب النشاطُ الفلّاحيّ، تجد نساءً أخريات، لا يُشْبهن كثيرًا نساءَ المصانع والأحياءِ الشعبيّة: نساءً ينهضن عند الفجر أو قبله، ليرْكبنَ بالعشرات المجروراتِ الفلّاحيّةَ أو الشاحناتِ الصغيرةَ، كي يذهبن بعيدًا عن مواطنهنّ عشراتِ الكيلومترات، من أجل العمل في الحقول، تحت سياط الشمس القاسية، أو لسعاتِ البرد القاتل، "م الضّيْ للضّيْ" (أي من شروق الشمس أو قبيْله إلى الغروب أو بعيْده). يعملن بلا ضوابطَ قانونيّة، مقابلَ أجرٍ يوميٍّ بسيط لا يتجاوز 15 دينارًا تونسيًّا (5.4 دولار). أيّامَ العطل يعملنَ، وأيامَ الآحاد أيضًا، بلا تغطيةٍ اجتماعيّة، وبلا أدنى حقوق. عملُهنّ أساسًا موسميّ، مرتبطٌ بفصول الإنتاج: فالعاملة تعمل بمعدّل أسبوعٍ في الشهر، وهو ما يعني 84 يومًا في السنة، ببدلٍ لا يتجاوز 450 دولارًا. وهن معرّضاتٌ لخطر الموت في الطريق، صباحًا ومساءً، في مسالكَ فلّاحيّةٍ مهترئة، تفتقر إلى أدنى شروط السلامة. وقد ذهبتْ نساءٌ كثيراتٌ ضحايا لقمةِ عيشٍ بائسةٍ، يحصلن عليها بعد هدر كرامتهنّ وتذلّلهنّ وتعرّضهنّ لكلّ أنواع الإهانة.

 

تعمل العاملة بمعدّل أسبوعٍ في الشهر، وهو ما يعني 84 يومًا في السنة

***

الخبر الأوّل يقول: صباحَ اليوم 26/4/2019، في حدود الخامسة وخمسين دقيقة، انقلبتْ شاحنةٌ خفيفة، على متنها عاملاتُ فِلاحة، تتراوح أعمارُهنّ بين 15 و56 سنة. وقد أسفر الحادثُ عن إصابة عدد كبير منهنّ، جرى نقلُهنّ إلى المستشفى.

الخبر الثاني يقول: صباحَ اليوم 27/4/2019، جدَّ حادثُ مرورٍ خطير، في معتمديّة السبّالة من ولاية سيدي بوزيد، أسفر عن وفاة 12 عاملةً في المجال الفلاحيّ، وإصابة 11 أخريات تمّ نقلُهنّ إلى المستشفى.

تتهافت وسائلُ الإعلام. تُدار حلقاتُ النقاش. تتعالى الأصوات. اتهامات واتهامات مضادّة. وعود من السُّلطة. وتطبيل من الإعلاميين الموالين.

يُعقد مجلسٌ وزاريّ "مضيّق للنظر" في وضعيّة العاملات في المجال الفلاحيّ. الحكومة تقرّر تخصيصَ عربات مؤمّنة لنقل العاملات بأسعار "مدروسة" لمن يرغب في اقتنائها والعمل في هذا المجال.

رئيسُ الحكومة يزور عائلاتِ الضحايا، ويأمر الجهات المختصّة بـ"الإحاطة" بهنّ.

الحكومة تقرّر تعميمَ التغطية الصحّيّة والاجتماعيّة على كلّ العاملات في القطاع الفلاحيّ.

قراراتٌ تقرأها المذيعة في بداية نشرة الثامنة ليلًا. وتُشفَع بتدخّل مسؤولٍ سامٍ يؤكّدها بمشهدٍ مسرحيٍّ ركيك.

لا شيء يوحي بجدّيّة التعامل مع هذا الوضع البائس. والسلطة تدرك أنّ قراراتِها غيرُ قابلة للتنفيذ، وذلك لعدّة أسباب: فلا هي قادرةٌ على توفير العربات المزعومة، ولا هي تجد مَن يقوم بهذا العمل الموسميّ المُكلف، وهي تدرك أيضًا أنّ الحادثة "عابرة" لن تزعزع عرشَها. قليل من الصبر وستمرّ العاصفة ويصحو الجوّ، ثم تُنسى الحادثة، كأنّ شيئًا لم يكن.

يعود الحديث عن المفاوضات مع الاتحاد الأوروبيّ، وعن اتفاقيّة التبادل الحرّ والشامل والمعمَّق (الأليكا). هذه الاتفاقيّة تهدف إلى إدراج قطاعاتٍ أخرى في منطقة التبادل الحرّ، ومن بينها قطاعُ الفِلاحة، وتسمح للأوروبيين بالاستثمار في مجال الخدمات والسياحة والسوق الماليّة؛ كما تسمح بدخول كلّ أنواع المنتوجات الفلّاحيّة الأوروبيّة إلى السوق التونسيّة من دون قيودٍ جمركيّة. وهذا يعني القضاءَ على ما تبقّى من الفِلاحة في البلد، لأنّها - بكلّ بساطة - لا تستطيع منافسةَ الفِلاحة الأوروبيّة، بسواعدِ نساءٍ ورجالٍ يشْكون الخَصاصَةَ والاستغلالَ.

***

لنتحدّث قليلًا عن الفِلاحة،  فِلاحةِ الفقيرات والفقراء.

الفِلاحة في تونس هي، في واقع الأمر، بقايا فلِاحة. فالكثيرُ من الفلّاحين تخلّصوا من أراضيهم ببيعها، وذلك لارتفاع كلفة الإنتاج بارتفاع سعر البذور والأسمدةِ والأعلاف والمحروقات ثلاثَ مرّات في ظرف سنة واحدة (!)، ولتخلّي الدولة عن دورها في مساندة أولئك الفلّاحين ومساعدتهم بالدعم والإرشاد والتوجيه. زد على ذلك ما يعترضُ الفلّاحين من صعوباتٍ في ترويج منتوجهم أمام استشراء السمسرة والمضاربة والاحتكار.

تصوّروا أنّ مَن تخلّى عن أرضه يعود – وقد افتقر - ليعملَ أجيرًا فيها بعد أنْ تخيّل أنّه غادرها بلا رجعة! يقول عبد المجيد: "لقد تخلّوا عن المَثَل القائل: مَن باع أرضَه باع عِرضَه." ثمّ يضيف مستدركًا: "عندما كانت الأرضُ تصون كرامةَ صاحبها وتحميه من الخصاصة والذلّ، كانا يتبادلان الرعاية. والآن تخلّى كلّ واحد عن الآخر، وصارا غريبيْن!"  

إنّنا أمام مشهدٍ تغْلب عليه المفارقات: فِلاحة تقليديّة، تُدار بوسائلَ بدائيّة، ولكنْ يريد أصحابُ الشأن هنا أنْ يحشروها في منافسةٍ مع العملاق الأوروبيّ. فِلاحة فقيرة تعيش من سواعد الفقراء والفقيرات مهدّدة بالانقراض لأنّ أصحاب السلطة لا يريدون أن يكونوا عقبةً أمام مصالحِ مَن كان له فضلٌ عليهم وكان سببًا في وصولهم إلى السلطة.

***

نعود إلى الحديث عن مأساة العاملات؛ المأساة التي تتكرّر، ولكنّها لا تُحرّك سواكنَ المنظّمات والهيئات الحكوميّة وغير الحكوميّة والأحزاب والجمعيّات إلّا بمقدارِ ما يعود على هذه الأطراف من فائدة. فالكلّ مهتمّ بحركة التموقع السياسيّ والاصطفافات. والكلّ يخوض في السياسة والمؤامرات والدسائس والتحالفات والبيع والشراء، من دون الاهتمام بمآسي الفقراء، الذين يَصْحون باكرًا ليبدأوا رحلةً قد يعودون منها وقد لا يعودون.

تقول هادية: "أنا أمٌّ لثلاثة أطفال، كبيرُهم لم يتجاوز الثانيةَ عشرة. لي مطلبٌ: أنْ أعمل أيَّ عمل لأوفّر لهم الحاجيّات الدنيا. الدولة لا تتذكّرنا (ملاحظة: في الحقيقة، الدولة تتذكّرهم في المناسبات والأعياد الدينيّة، فتصرف لبعضهم ما يقارب أربعين دينارًا تونسيًّا، لا تكفي ثمنَ أدوية نزلة بردٍ بسيطة!)." وتضيف: "ما أتقاضاه من أجرٍ قد يكفي لنعيشَ على الخبز والماء، ولكنّه لا يكفي لتعليم أطفالٍ في سنّ أولادي ولرعايتهم."

 

الفقراء يَصْحون باكرًا ليبدأوا رحلةً قد يعودون منها وقد لا يعودون

 

وتقول الخالة صالحة: "لم أعد قادرةً على العمل. وزوجي مثلي، يتحرّك بعكّازيْن. ابنتي سقطتْ من عربة جرّار، وهي الآن طريحةُ الفراش. زارنا مسؤولٌ بعد الحادث بيوم، ثمّ ذاب كالملح. أعرف أنّه كاذب. وعوده كلّها كذب. مصيرُنا نواجهه بأنفسنا، ولا نثق بأيّ واحد منهم."

تقترب منّي سيّدة مسنّة، عندما رأتني ألتقط صورةً للشاحنة المنقلبة ولبعض الضحايا،  وتسألني: "هل أنت مسؤول؟" كدتُ أجيبها "نعم" لأرى ردّةَ فعلها، لكنّني لم أستطع. أضافت: "أنظرْ إلى هذا الرجل (كان محمولًا على نقّالة الإسعاف وهو يئنّ). لقد أصيب هو وزوجتُه في الحادث نفسه. زوجتُه ربما ماتت." ثمَّ تضرب كفًّا بكفٍّ وتبتعد.

***

الطبقة السياسيّة الحاكمة في تونس منذ العام 2011 لا تمتلك خياراتٍ واضحةً للنهوض بالفِلاحة - - وهي المجال الذي اعتَمد عليه الاقتصادُ الوطنيّ منذ الاستقلال على الرغم من محدوديّة مردوده. وهي لا تمتلك تصوّرًا لانتشال عائلاتٍ وتجمّعاتٍ سكنيّة كثيرة معزولة يقتصر نشاطُها على فِلاحةٍ تقليديّةٍ في أراضٍ جبليّةٍ صعبة المراس.

خيارات الطبقة الحاكمة تصبّ كلُّها في سلّة الليبراليّة المتوحّشة، التي أملتْها عليها القوى الاستعماريّةُ القديمةُ والجديدة. الطبقة الحاكمة في تونس مجرّدُ وكيلٍ للشركات العالميّة العملاقة، ومجرّدُ مستكتِبٍ عند دوائر المال العالميّة (التي حطّتْ الرحال بكلّ ثقلها في تونس بعد الثورة).

إنّ السياسة المتّبعة اليوم في تونس مملاةٌ من صندوق النقد الدوليّ، ومن البنك العالميّ، اللذين أغرقا ميزانيّةَ بلادنا بقروض ستبقى ديْنًا في عنق أحفاد أحفادنا. وهي قروض مقدَّمة بشروطٍ، أهمُّها بيعُ مؤسّسات الدولة إلى القطاع الخاصّ، ورفعُ الدعم عن كلّ الموادّ الاستهلاكيّة (وهي موادّ أساسيّة كالسكّر والفارينة والزيت النباتيّ)، وفتحُ المجال أمام الشريك الأروبيّ للعمل والاستثمار بشكل خاصّ.

لقد اعتمدتْ تونس في سياستها الاجتماعيّة منذ الاستقلال على سياسة الدولة الراعية التي تمتلك مؤسّساتٍ اقتصاديّةً حسّاسةً (شركة الكهرباء والغاز، الشركة الوطنيّة لاستغلال وتوزيع المياه، البريد التونسيّ،...). غير أنّ القائمين بأمور تونس الآن يريدون التخلّصَ من هذه المؤسّسات لأنّهم لا يؤمنون بسياسة شعبيّة تكون في خدمة المواطن، بل بسياسة الولاءات والاحتماء بالداعمين الخارجيين.     

فمنذ الثورة، سيطر على المشهد السياسيّ في تونس اليمينُ بشقَّيه: الليبراليّ الحداثيّ، والإسلاميّ المحافظ. وهما شقّان يتبنّيان مبادئَ الليبراليّة، ويروّجان لها، مقابل الحفاظ على مصالحهما والاستمرارِ في السلطة بدعم عديد الأطراف الأجنبيّة:

- فـ"حركة النهضة" تستمدّ دعمَها من أحد محورَي الخليج (قطر وتركيا).

- أمّا الليبراليّون (الذين يسمّون أنفسَهم "وسطيّين")، فدعمُهم يأتي من المحور الثاني (السعوديّة والإمارات).

وكلا المحوريْن يتلقّيان الدعمَ الفرنسيّ والأمريكيّ. والنتيجة هي تكريسُ سياسات ما قبل 2011 التي أدّت إلى الثورة.

***

أعود وأجلس مع بعض الرفاق في المقهى. يقول أحدُهم: "لا بدّ من ثورةٍ جديدة. لا بدّ من ثورة تبدأ وتتواصل لتكتمل. ثورتنا اختُطفتْ. اختطفها وكلاءُ المخابرات الغربيّة، وحوّلوا وجهتَها."

نعم، لا بدّ من ثورة جديدة تحمي نساءَنا ورجالَنا، وتعيد إليهم كرامتَهم المهدورة، وتمنع عنهم الاستغلال - - سواء في المصانع، أو الحقول، أو المتاجر، أو الإدارات. لقد حانت الساعة!

تونس


 

الحبيب بن عبد الله

مدرّس وناشط بالمجتمع المدنيّ، ومسؤول نقابيّ بالاتحاد العامّ التونسي للشغل.