الندم
27-03-2019

 

 

القصّة في اللغة الإنكليزيّة لـ: كيت شوبان* وقد انتهت من كتابتها  سنة 1894.

 

كانت الآنسة أوريلي ذاتَ بنيةٍ قويّةٍ، وخدّيْن متورّديْن، وشعرٍ بدأ لونُه في التحوّل من البنّيّ إلى الرماديّ، وعينيْن حازمتيْن. وكانت تعتمر قبّعةً رجاليّةً عند وجودها في المزرعة. وعندما يصبح الطقسُ باردًا، كانت ترتدي معطفًا عسكريًّا قديمًا أزرق، وتنتعل جزمةً أحيانًا.

لم تفكّر الآنسة أوريلي في الزواج مطلقًا. كما أنّها لم تقع في الحبّ قطّ. عندما كانت في العشرين تلقّت عرضًا للزواج، ورفضتْه على الفور. وهي اليوم، في الخمسين، لم تندمْ على رفضها ذاك.

إذًا، كانت وحيدةً تمامًا في هذا العالم... عدا عن كلبها بونتو، والزنوج الذين كانوا يعيشون في أكواخها ويزرعون لها المحاصيل؛ بالإضافة إلى بعض الدواجن، والأبقار، والبغال، ومسدّسها الذي كانت تستخدمه في إطلاق النار على الطيور التي تحاول اقتناصَ دجاجاتها؛ وكذلك عدا عن إيمانها.

في أحد الصباحات كانت الآنسة أوريلي تقف على شرفتها الخارجيّة، تتأمّل - ويداها على خاصرتيْها – مجموعةً صغيرةً من الأطفال الصغار جدًّا، وقد  ظهروا أمامها فجأةً وكأنّهم سقطوا من الغيوم. كان حضورُهم مباغتًا، ومربكًا، وغيرَ مرحَّب به على الإطلاق. كانوا أطفالَ جارتها الأقرب إلى مزرعتها، أوديل، التي لم تكن بالتأكيد مقرَّبةً منها  في خاتمة المطاف.

كانت المرأة الشابّة قد ظهرتْ أمامها منذ خمس دقائق فقط بصحبة أطفالها الأربعة هؤلاء.  كانت تحمل صغيرتَها إيلودي بين ذراعيْها، وتجرّ "تي نوم" عنوةً من ذراعه، بينما كانت تتبعُها مارسيلين ومارسيليت بخطواتٍ متردّدة. وكان وجهُ المرأة محمرًّا، مشوَّهًا من أثر الدموع والاضطراب، إذ كان قد استُدعيتْ على عجل إلى الأبرشية المجاورة بسبب مرض والدتها الخطير. وكان زوجُها قد غادر إلى تكساس (التي بدت لها وكأنّها تبعد ملايينَ الأميال). أما فالسين فكان ينتظرها داخل عربته التي تقودها البغالُ كي يُقلّها إلى المحطّة.

"هذا أمرٌ غيرُ قابل للنقاش، يا آنسة أوريلي. عليكِ أن تعتني بهؤلاء الأطفال حتى أعود. يعلم اللهُ أنّني لم أكن لأزعجَكِ بهم لو أنني وجدتُ حلًّا أفضل! آنسة أوريلي، أرجوكِ أن تعتبريهم أطفالَكِ، وأن تعتني بهم. أمّا أنا فأكاد أفقد عقلي بين أطفالي، وبين ليون الذي هو خارج البيت، وبين احتمالِ أن لا أجدَ الماما المسكينة على قيد الحياة" - - وهذا الاحتمال الأخير معذّبٌ إلى درجةٍ دفعتْ أوديل إلى اتخاذ قرار عاجل وحاسم  بمغادرة عائلتها المفطورةِ القلب.

تركتهم محشورين في الشريطِ الضيِّق من الظلّ، على شرفة المنزل الطويل المنخفض. كانت أشعّةُ الشمس البيضاء تضرب ألواحَ الخشب البيضاء القديمة. وكانت بعضُ الدجاجات تخربش العشبَ عند أسفل الدرج، وقد امتلكتْ إحداها الجرأةَ على صعود الدرجات، وأخذتْ تمشي بتثاقل وهيبةٍ على غير هدًى عبر الرواق. كانت ثمّة رائحةُ قرنفلٍ عذبةٌ في الهواء، وتقاطرتْ ضحكاتُ الزنوج عبر حقل القطن المزهر.

وقفت الآنسة أوريلي تتأمّل الأطفال. نظرتْ بعينٍ فاحصةٍ إلى مرسيلين، التي تُركتْ مترنّحةً تحت ثِقل إيلودي المكتنزة. تفحّصتْ، بالتفكّر نفسه، مارسيليت التي خالطتْ دموعُها الصامتة حزنَ "تي نوم" وتمرّدَه الصاخبيْن. خلال تلك اللحظات التأمّليّة كانت تستجمع قوّتَها، لتقرّرَ خطّةَ عملٍ ينبغي أن تنسجمَ مع واجباتها. وبدأتْ بإطعام الأطفال.

لو أنّ مسؤوليّاتِ الآنسة أوريلي ابتدأتْ وانتهت بإطعام الأطفال، لصُرف النظرُ عنها بسهولة؛ ذلك أنّ غرفةَ مؤونتها كانت ممتلئةً بوفرةٍ تحسّبًا لأيّ طارئٍ من هذا النوع. لكنّ الأطفال ليسوا خنازيرَ صغيرةً، وإنّما يحتاجون إلى اهتمامٍ لم يكن في حسبان الآنسة أوريلي على الإطلاق؛ اهتمامٍ لم تكن مهيّأةً جيّدًا لمنحِه.

لقد كانت، بالفعل، شخصًا غيرَ كفؤٍ أبدًا في التعامل مع أطفال أوديل خلال الأيّام الأولى. وكيف كان لها أن تعْلم أنّ مارسيليت تبكي دائمًا إذا خوطِبتْ بنبرةٍ مرتفعةٍ آمرة (وتلك كانت سمةً مميّزةً لمارسيليت)؟ والآنسة أوريلي لم تتأقلم مع شغف "تي نوم" بالأزهار إلّا بعد أن قَطَفَ أفضلَ أزهار الغاردينيا و القرنفل، وذلك بهدفٍ يبدو أنّه القيامُ بدراسةٍ نقديّةٍ لبنيتها النباتيّة.

 

كيت شوبان

 

"لا يكفي أن تخبريه فقط، يا آنسة أوريلي،" قالت مارسيلين شارحةً لها. "عليكِ أن تُوثِقيه إلى كرسيّ. هذا ما كانت تفعله الماما عندما يتصرّف بشقاوة. كانت تُوثقه إلى كرسيّ." وكان الكرسيّ الذي أوثقتْ به الآنسة أوريلي "تي نوم" واسعًا ومريحًا؛ ولمّا كانت فترةُ الظهيرة دافئةً فقد كان يقتنص الفرصةَ لأخذ قيلولةٍ عليه.

ليلًا، عندما أمرتْهم جميعًا بالذهاب إلى النوم، بالطريقة التي تهشّ بها الدجاجَ إلى داخل القنّ، بقوا واقفين أمامها، غيرَ مدركين ما يجب فعلُه. فماذا عن ملابس النوم الصغيرة البيضاء التي يجب إخراجُها من كيس المخدّة الذي أحضروها في داخله، ثمّ نفضُها بيدٍ قويّةٍ حتى تفرقعَ مثلَ سياط الثيران؟ وماذا عن حوض الماء الذي يجب إحضارُه إلى وسط الغرفة من أجل غسل الأرجل الصغيرة، المتعبة، التي لفحتْها الشمسُ، كي تعودَ جميلةً ونظيفة؟ وقد ضحكتْ مارسيلين ومارسيليت بمرحٍ لاعتقاد الآنسة أوريلي، للحظةٍ، أنّ "تي نوم" يمكن أن ينام من دون أن تُقَصَّ عليه قصةُ البعبع  (Croque-mitaine) أو المستذئب (Loup-garou) أو كلتاهما؛ أو أنّ إيلودي يمكن أن تنامَ من دون أن يُهَزَّ سريرُها أو يُغَنّى لها.

"دعيني أخبركِ يا خالتي روبي،" قالت الآنسة أوريلي لطبّاختها بثقة "أفضَّل شخصيًّا أن أدير اثنتيْ عشرة مزرعةً على العناية بأربعة أطفال. إنه شيء قاتل! الرحمة يا إلهي! لا تحدّثيني عن الأطفال!"

"آنسة أوريلي، من غير المتوقّع أن تعرفي أيَّ شيء عنهم. أيقنتُ ذلك بوضوح البارحةَ عندما رأيتُ ذلك الصغيرَ يلهو بسلّة مفاتيحِكِ. ألا تعرفين أنّ ما يجعل الأطفالَ يكبرون ليصبحوا صعبي المراس هو أن يلعبوا بالمفاتيح؟ هذا ما يجعل أسنانَهم قاسية بحيث يصبح من الصعب عليهم النظر في المرآة. هذه هي الأشياء التي يَلزم أن تعرفيها عند تنشئة الأطفال وتدبيرهم."

بالتأكيد لم تَدَّعِ الآنسة أوريلي أو تتطلعْ إلى معرفة دقيقة وبعيدة الأثر بالموضوع، كتلك التي تملكها الخالةُ روبي، التي "ربّت خمسة أطفال ودفنت ستة" في شبابها. كانت سعيدةً بما يكفي لأن تتعلّم بعضَ حِيل الأمّهات التي تخدم حاجتها الراهنة.

أصابعُ "تي نوم" اللزجة دفعتْها إلى نبش مراييلَ بيضاءَ لم ترتدْها لسنوات عديدة، وكان عليها أن تعوِّد نفسَها على قبلاته الرطبة التي كانت طريقتُه للتعبير عن طبيعته المحبّة المليئة بالحيويّة. أنزلتْ سلّةَ الحياكة، التي قلّما استخدمتْها، من أعلى رفٍّ في الخزانة، وجعلتها في متناول يدها من أجل إصلاح القمصان الداخليّة الممزّقة أو الصدار الذي فُقدتْ أزرارُه. واستغرقها الأمرُ عدة أيّام كي تعتادَ الضحكَ والبكاءَ والثرثرة التي يتردّد صداها في المنزل وحوله طوال اليوم. لم تكن تلك هي الليلة الأولى أو الثانية التي لم تتمكن فيها من النوم بارتياح، إذ كان جسدُ إيلودي الصغير الدافئ الغض ملتصقًا بها، ونفَسُها الدافئ يلفح خدَّها كرفرفة جناحِ عصفور.

لكنْ، بعد مضيّ أسبوعين، اعتادت الآنسة أوريلي كلَّ هذه الأشياء، ولم تعد تتذمر.

وبعد مرور أسبوعين أيضًا، عندما كانت الآنسة أوريلي تنظر بعيدًا باتجاه المعلف حيث كانت الماشية تُعلَف، رأت عربةَ فالسين الزرقاء تستدير من وراء المنحنى. كانت أوديل تجلس إلى جانب السائق الخلاسيّ، معتدلةً ومتأهّبة. عند اقترابهما أظهر وجهُ المرأة الشابّة المشرِق أنّ عودتها كانت عودةً سعيدة.

غير أنّ هذه العودة، غيرَ المعلنة وغيرَ المتوقّعة، دفعت الآنسة أوريلي إلى اضطرابٍ أقربَ ما يكون إلى الهيجان. كان يجب جمعُ الأطفال. أين "تي نوم"؟ هناك، في السقيفة، يشحذ سكّينَه بالمشحذ.[1] أين مارسيلين ومارسيليت؟ ها هما في الزواية تقصّان وتصمّمان ثيابَ الدمية. أمّا بالنسبة إلى إيلودي فقد كانت في أمان تامّ بين ذراعَي الآنسة أوريلي، وصرختْ بفرحٍ عند رؤية العربة الزرقاء المألوفة التي أعادت أمَّها إليها.

انتهت الإثارةُ تمامًا، ورحلت أوديل والسائق. ما أشدَّ سكونَ المكانِ بعد رحيلهما! وقفت الآنسة أوريلي في الرواق تنظر وتستمع. لم تعد تستطيع رؤيةَ العربة؛ فالغروبُ الأحمر والغسقُ الرماديّ المزرقّ كانا قد أرخيا سحابةً أرجوانيّةً على الحقول، وعلى الطريق الذي أخفى العربةَ عن ناظريْها. لم تعد تستطيع سماعَ أزيز عجلاتها وصريرِها. ولكنّها كانت ما تزال تستطيع، بشكلٍ طفيف، سماعَ أصوات الأطفال السعيدة المجلجلة.

دخلت المنزل. كان في انتظارها الكثيرُ لتفعله، إذ كان الأطفالُ قد خَلّفوا وراءهم فوضى محزنة. غير أنّها لم تباشرْ ترتيبَ تلك الفوضى على الفور. بل جلستْ قرب الطاولة، وأجالت نظرةً بطيئةً على الغرفة، التي كانت ظلالُ المساء قد بدأتْ تزحف إليها وتتغلغل في بنيتها المنعزلة. تركتْ رأسَها يرتمي على ذراعها المطويّة، وبدأتْ بالبكاء. وآهٍ كم بكت! لم تبكِ بصوتٍ خافتٍ كما تفعل النساءُ عادةً. بكت كما يبكي الرجلُ، بنشيجٍ بدا وكأنّه  يمزّق روحَها. ولم تلحظْ بونتو وهو يلعق يدَها.

مسقط

*كاتبة قصص قصيرة وروائية أمريكية، كانت من رواد الأدب الأنثوي في القرن العشرين. 

[1] المقصود: يحدّد أسنانَه بالمفاتيح (المُترجمة)

 

لينا إبراهيم
من سوريا، حائزة شهادة الدكتوراة في الأدب الإنكليزيّ من جواهر آل نهرو / نيودلهي. تعمل حاليًّا رئيسة قسم الأدب الإنكليزيّ في كليّة البيان / مسقط في سلطنة عُمان.