العِرق والطبقة الحاكمة والإمبرياليّة في الولايات المتحدة
18-06-2020

 

 

ندوة أدارها: إيّاد قيشاوي، وشارك فيها: توسَّن لوسيير وناڤيد (نويد) فارنيا.

هنا خلاصةُ حوارٍ أداره إيّاد قيشاوي ضمن ملفّ الآداب، "الولايات المتحدة من الداخل: الواقعُ والمواجهة" بعد قتل جورج فلويْد على يد رجال شرطةٍ أميركيّين. المشاركون هم:

1 - د. توسَّن لوسيير (Toussaint Losier): بروفيسور مساعد في كلّيّة W. E. B. Du Bois للدراسات الأفريقيَّة-الأميركيّة في جامعة ماساتشوسِتس في آمهرست. نائبُ الأمين العامّ السابق لـ "الحملة المضادّة للطرد المنزليّ" في مدينة شيكاغو. عمل باحثًا في مركز شارلز وارن في هارڤِرد. شارك، مع Dan Berger، في تأليف كتاب إعادة التفكير في حركة السجون الأمريكية (راوتليدج، 2017). حاليًّا يعمل على كتابٍ بعنوان: War for the City: Black Liberation and the Consolidation of the Carceral State

2 - د. ناڤيد (نويد) فارنيا (Navid Farnia): بروفيسور مساعد في كلّيّة التاريخ في جامعة وَيْك فورِسْت. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ولاية أوهايو (OSU) في الدراسات الأفريقيّة-الأمريكيّة والدراسات الأفريقيّة. بحثُه يركّز على علاقة الاضطهاد العرقيّ في الولايات المتحدة والإمبرياليّة الأمريكيّة. كتابُه، National Liberation in an Imperialist World: Race and the Modern US National Security State، يركّز على تطوّر دولة الأمن القوميّ للردّ على حركات التحرّر الداخليّة والعالميّة في الستينيّات والسبعينيّات.

3 - إيّاد قيشاوي: ناشط فلسطينيّ. عضو اللجنة التنسيقيّة في "تحالف حقّ العودة الفلسطينيّ." له عدّة مقالات في مجلّة الآداب الورقيّة والإلكترونيّة.

***

* إيّاد: شكرًا جزيلًا لوقتكما ولمشاركتكما في هذا الحوار المهمّ الذي يتزامن مع الحَراك الشعبيّ في أمريكا عقب إعدام الشرطة لجورج فلويْد في مدينة مِنياپولِس. سيُنشر هذا الحوار في مجلة الآداب، وهي مجلّة يساريّة أدبيّة فكريّة عربيّة-لبنانية، وتتمتّع بقرّاءٍ واسعي الاطّلاع على حركات التحرّر والمقاومة الوطنيّة والاجتماعيّة. السؤال الأوّل: ما هي المعطيات التي دفعتكما إلى هذا العمل وإلى الدراسات التي تقومون بها؟

- توسَّن: شكرًا لكَ ولمجلّة الآداب لاهتمامكما بهذه التطوّرات. هذه لحظة تاريخيّة، وهي لم تبلوِرْ مفاهيمَ جديدةً بعد. أنا من فيلادلفيا (ولاية بنسلفانيا)، وأعلِّم في جامعة ماساتشوسِتس في آمهرست. بدأتُ أتساءل منذ زمنٍ طويلٍ عن ديناميّات استعلاء الِبيض، والعدالةِ الجنائيّة، وما يُسمّى اليوم بـ "الرأسماليّة العرقيّة." وقد شرعتُ في طرح هذه التساؤلات حين كنتُ في المدرسة الثانويّة، وأكملتُها حين صرتُ طالبًا في الجامعة. عملتُ في جنوب أفريقيا بعد انتهاء حقبة الفصل العنصريّ (الأبارتهايد) في حركاتٍ تنادي بالعدالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وحاولتُ أن "أستورِدَ" هذا العملَ إلى مجتمعي هنا بالتركيز على قضايا مثل: الطرد المنزليّ، والحصولِ على الأساسيّات كالمياهِ الجارية والتعليمِ الجيّد.

- ناڤيد: حين كنتُ طالبًا جامعيًّا، استرعى انتباهي غيابُ العدالة العرقيّة. بدأتُ أساسًا دراسةَ الهندسة، ولكنْ بعد أن تسجّلتُ في صفوف الدراسات الأفريقيّة تعلّمتُ الكثيرَ عن تاريخ العنصريّة وتاريخِ الحركات السوداء في الولايات المتحدة والكاريبي. وكلّما زاد اطّلاعي على هذا المجال، ازدادت متابعتي له. إلى أن قرّرتُ أن أتخصّصَ فيه لدراساتي الجامعيّة العُليا. ومع مرور الوقت بدأتُ البحثَ في الاضطهاد العرقيّ المحلّيّ، والإمبرياليّة الأمريكيّة، وحركاتِ التحرّر.

* إيّاد: قبل الغوص في تفاصيل هذه المرحلة، أسألُكما: كيف تتقاطع، في الولايات المتحدة، السياساتُ العِرقيّة والطبقيّةُ والإمبرياليّة في هذه المرحلة، وتحديدًا في سياق تهديد جائحة الكورونا وإخفاقِ النظام في التعامل معها؟

- ناڤيد: ما نشهده الآن من طريقة تعامل الدولة الأميركيّة مع تاثيرات الجائحة، ومع الحَراك والتظاهرات الشعبيّة، يَكْشف الشقوقَ والتصدّعاتِ في بنية الطبقة الحاكمة، ويُظْهر تناقضاتِ النُّخَب السياسيّة ومؤسّساتِ الدولة والإعلامِ الشركاتيّ. كلُّ ما نراه هو فشلُ السياسيّين والشرطة في الخروج من قالب التفكير المتحجِّر والعنصريّة. كلُّ ما يقومون به أصبح قابلًا للانفضاح، ولهجوم الجماهير المحلّيّة والعالميّة. هذه أوّلُ مرّة منذ فترةٍ طويلة نرى فيها أنّ مناهضي الفاشيّة هم في موقفِ هجومٍ ومدٍّ، لا في مرحلة دفاعٍ وجَزْرٍ شأن المراحل السابقة. الفايروس أظهر هذه التصدّعات، والحراكُ الشعبيّ فضحَها أمام العالم. النظام الإمبرياليّ يتعامل مع هذه الأمور عادةً بطريقتيْن: 1) قمعُ التظاهرات الداخليّة بعنف. وعندما تمارس الدولةُ القمعَ، تتسيّس الحركةُ الشعبيّة، و"تتقطّر" بالراديكاليّة، وتتجنّب "الإصلاحات" الطفيفة. 2) شنُّ حربٍ استعماريّةٍ جديدة. فالحرب، تاريخيًّا، توحِّد الشرائحَ المتناحرةَ في الدولة الإمبرياليّة، و"تصدِّر" التناقضَ إلى الخارج ليصبح "قوميًّا" أو "حضاريًّا." وإذا نجح ترمب في الانتخابات الرئاسيّة القادمة، فقد نشهد حربًا جديدةً خلال العاميْن المقبليْن. وأتمنّى أن أكون مخطئًا. نحن نشهد بدايةَ نهاية الإمبراطوريّة الأمريكيّة. ونهايةُ الإمبرياليّات تكون دائمًا عنيفةً جدًّا. لم تمُتْ أيُّ إمبراطوريّةٍ بهدوءٍ وسلام!

- توسَّن : أوافق على تحليل ناڤيد. من أهم سِمات هذه المرحلة في سياق الجائحة والأزمة الاقتصاديّة التسريعُ في اتجاهاتٍ كانت تتفاقم سابقًا بوتائرَ مختلفة. وأحدُ هذه الاتجاهات هو أزمةُ "الشرعيّة" لدى الإمبرياليّة الأمريكيّة التي تحاول إدارةَ هذه الأزمة منذ زمنٍ غير وجيز. الإمبرياليّة الآن في حالة عجزٍ عن توزيع فائض الاستعمار الخارجيّ على مواطنيها. ولذا تلاشت الطبقةُ الوسطى (البورجوازيّة الصغيرة)، وتلاشى معها "الحلمُ الأمريكيّ."

لقد تفاقم انعدامُ المساواة بين الطبقات، إلى درجة أنّ الولايات المتحدة باتت أسوأَ الدول الصناعية من هذه الناحية. الدولة الأميركيّة تعاني رفضَ الشباب عدمَ المساواة ذاك. وهذه المعاناةُ ازدادت مع تزايد عجزِ هذه الدولة عن استخدام قوّتها العسكريّة، أو هيمنتِها الدبلوماسيّة، لتحقيق كاملِ أهدافِها. هذه الظاهرة بدأتْ منذ غزو العراق سنة 2003، ولكنّها استمرّت مع إدارة أوباما. ثمّ جاء انتخابُ ترمب ليكون بمثابة محاولةٍ من طرف الحركة الاستعلائيّة البيضاء لإنتاج نقيضٍ لطريقةِ تعامُل أوباما مع إدارة أزمة الشرعيّة الأمريكيّة، عالميًّا ومحلّيًّا.

وهناك أيضًا اختلافاتٌ داخل الطبقة الحاكمة إزاء طريقة إدارة التأثيرات الماليّة لأزمة الشرعيّة هذه. وقد تصاعدتْ هذه الاختلافاتُ مع جائحة الكورونا. المنتفِعون من الفايروس هم المستثمِرون، ومالكو رأس المال، والشركاتُ المَدينة، بعد أن وَزّعت وزارةُ الماليّة "المساعداتِ الإغاثيّة."

 

رفض الاستعلائيون البِيض الحَجْرَ لأنّه لم يكن للسُّود واللاتينيين بسبب حاجة هؤلاء إلى العمل

 

تمثّلت الديناميّاتُ العِرقيّة في رفض الاستعلائيين البِيض الحَجْرَ الصحّيَّ لأنه لم يكن في الأساس حجْرًا للسُّود واللاتينيين في البلد بسبب حاجة هؤلاء المستمرّة إلى العمل الخدماتيّ. فاستُنفر العنصريّون البِيض، وتظاهروا بأسلحتهم علنًا ضدّ هذا الحَجْر من أجل استعادة الحركة الاقتصاديّة؛ ذلك لأنّهم اعتبروا أنْ لا حاجةَ إلى وقف أعمالهم لأنّ الفايروس لا يهدِّدُهم ولا يهدِّد عائلاتِهم، بل يهدِّد الطبقةَ العاملةَ من اللاتينيين والسكًّان الأصليين والسود.

* إيّاد: لندخلْ في تفاصيل تبعات إعدام جورج فلويْد العلنيّ. هناك درجاتٌ في التعبير السياسيّ، تتراوح بين إجراء المقابلات (كهذه المقابلة)، والتعبيرِ الجماعيّ المكثَّف عبر المظاهرات والصدامِ مع السلطة. يتساءل الكثيرون عن هذه المرحلة، وما إذا كانت الولاياتُ المتحدة اليوم تشهد انتفاضةً ما؟

- توسّن: نعم، ولكنْ يَصعب أن تُقارَنَ بانتفاضاتٍ أخرى في العالم. نحن نشهد فعلًا انتفاضةً في الولايات المتحدة، ولكنْ يصْعب أن نَستنتج أنّها ستستمرّ بالتأكيد. قد تكون الانتفاضةُ الحاليّةُ آليّةً للتعبير الارتجاليّ عن الغضب الفرديّ ضدّ الدولة. من الصعب أن أتخيّلَ أن يعودَ المنتفِضون إلى التصدّي للسلطة في المستقبل، وقد تُستنفَد هذه الطاقةُ قبل أن يحدث تغييرٌ فعليّ في علاقة الدولة بالطبقة الحاكمة.

هناك الطبقة السوداء العاملة المتضرِّرة التي تصدّرت الحَراكَ الآن وفي انتفاضاتٍ سابقة (كاحتجاج رودني كينغ سنة 1992 في لوس أنجلس). ولكنْ هناك أيضًا الطبقةُ الوسطى التي تضرّرتْ جزئيًّا من ممارسات الدولة، وهي أيضًا تتصدّر الحراك. لذا يَصْعب أن نتنبّأ باستمرارٍ متماسكٍ لهذا الحراك.

- ناڤيد: هناك عاملان رئيسان في جريمة قتل فلويْد. أوّلًا، في خضمّ الأزمة الصحّيّة العامّة، كان من المتوقَّع أن يحدثَ شيءٌ ما؛ فالسياقُ فضح تناقضاتٍ أساسيّةً في المجتمع. ثانيًا، الذين شاهدوا إعدامَ الشرطة العلنيَّ لفلويد لاحظوا أنّ القتل لم يأتِ نتيجةً لقرارٍ "خاطئٍ" خلال ثوانٍ، وإنّما تمّ في غضون 9 دقائق كاملة، وبطريقةٍ متعمّدةٍ وبطيئة، بما يذكِّر باضطهاد السود والفقراء عبر العقود. الجرائم السابقة كانت تجري بذريعةِ "الخطأ" أو "الاشتباه" بوجود أسلحةٍ في أيدي "المشبوهين"؛ أمّا جريمة قتل فلويْد فتعبّر عن الموت البطيء الذي يثير اشمئزازَ الجميع، وعن التلاشي التدريجيّ لمجتمعات المضطهَدين في البلاد بسبب التقنين والحرمان اللذيْن فرضتهما السياساتُ النيولبراليّة.

انتخابُ ترمب فضح أيضًا تلاشي "واجهة" هذا المجتمع الليبراليّة [المزيَّفة]. من المستحيل تخبئةُ التناقضات على طريقة أوباما، بادّعاء وجودِ مجتمعٍ "خالٍ من التناقضات العرقيّة." حركةُ ترمب تمثِّل زوالَ المؤسّسة الليبراليّة وواجهتِها المزيَّفة. وفي غياب هذه الواجهة، قد يرى الجميعُ تناقضاتِ المجتمع العنيفةَ والمقيتةَ، داخليًّا وخارجيًّا.

كتب فرانز فانون في معذَّبو الأرض، في فقرة "عن الثقافة الوطنية" (On National Culture)، أنّ المثقف قد يتأخّر أو يتخلّف أحيانًا عن الاستجابة لمطالب الجماهير. ولكنّ عليه اليوم، في رأيي، أن يَدْعم التحرّكَ الشعبيّ نحو التحرّر بتوفير التحليل الذي يَشْحن الانتفاضاتِ ويَستنتج أبرزَ دروسها وعِبَرِها. أوافق على أنّ هذه انتفاضة، ومتفائلٌ باستمرار الحَراك. يَسْهل التنبّؤُ بتجاوب الدولة، لكنْ يَصْعب التنبّؤ بتطوّر الحركة الشعبيّة وتصرّف الجماهير.

* إيّاد: كثير من سكّان هذا البلد يدركون أسبابَ استهداف السود بالعنف. لكنْ كيف تفسِّران لقرّاء الآداب هذا الاستهداف؟ هل هو بسبب تاريخ الكفاح المسلّح الذي مارستْه بعضُ الحركات التحرريّة داخل الولايات المتحدة؟

- توسَّن: أعتقد أنّ هنالك خصوصيّاتٍ للولايات المتحدة كمجتمعٍ استعماريّ-استيطانيّ. هذه نقطةُ البداية للجواب عن سؤالكَ. هذا مجتمعٌ عنيف، وبُنِي على العنف. نوعيّةُ هذا الاستعمار الاستيطانيّ تتمثّل في أنّه حاول إبادةَ السكّان الأصليّين إبادةً تامّةً، ومن ثمّ عمل على أن يُحِلَّ مكانَهم شعبًا مخطوفًا ومسروقًا [من القارة الأفريقية] كي يُستعبَدَ ويَعملَ للمستعمِرين مجّانًا.[1] هذه الطبقة المستعبَدَة أَنتجتْ لمجتمع الاستعمار طبقةً عاملةً فريدة [لعملها المجانيّ].

منذ بداية التنسيق بين الحركة العاملة البيضاء والطبقة المستعبَدة لمواجهة تركيبة هذا المجتمع، استُخدِم العنفُ ضدّ الفئات التي تهدِّد هذه التركيبة، وتَرَكّز الانتباهُ على الأفارقة لأنّ المجتمعَ [الاستعلائيَّ الأبيض] اعتبرَهم الخطرَ الأوّلَ. أصبح العنفُ هو الوسيلةَ المفضَّلة لضرب التحالف بين الأعراق المختلفة، ولتجذير حُكم الطبقة المديرة للاستعمار والراعية لمؤسّسات العبوديّة. وقد استُعملتْ هذه المؤسّساتُ في حقباتٍ مختلفة، مثل حقبة ما بعد إعادة البناء (Reconstruction) ، خلافًا للحرب الأهليّة زمنَ الفصل العنصريّ في عهد جيم كرو،[2] وأنتجتْ إيديولوجيا استعلائيّةً بيضاء. هذه الإيديولوجيا بَنَتْ مؤسّساتِها بالاستيلاء على السلطة، وكانت أولى هذه المؤسّسات العملَ المجنزر (chain gangs) لمعاقبة السود. وقد عوقِب أيُّ شخصٍ أسود وُجِد في الشارع ولم يقدرْ أن يُثْبتَ أنّه كان يسير في طريقه إلى العمل أو المنزل، وقد يَخْضَع للأعمال الشاقّة الإجباريّة خدمةً لمصالحَ خاصّة.

ثمّ تطوّرتْ هذه المؤسّسات باتجاه "العدل الجنائيّ،" واستُعملتْ لقمع السود بعد نشوء حركات التحرّر و"القوّة السوداء" في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي. وبعدها تغيّرت القوانينُ والسياساتُ ليصبح تجريمُ العنصر الأسود شبهَ كامل. لاحقًا، في الثمانينيّات والتسعينيّات، تركّبَ المجتمعُ على المبادئ الرجعيّة لإسكات تلك الحركات.

الشرطة والسجن وجهان لمؤسّسةٍ واحدة. وقد تطوّرتْ أساليبُ القمع البوليسيّ في التعامل مع ذوي البشرة السمراء باستعمال فلسفة "مواجهة التمرّد" على الصعيد المحلّيّ. ولم يكن الدافعُ إلى ذلك قمعَ القوى السياسيّة فحسب، بل كسْر الفرد الأسود وفرض إرادة الطبقة الحاكمة البيضاء أيضًا.

- ناڤيد: أثنّي على ما قاله توسَّن. غرّدتْ وزارةُ الأمن العام في مينيسوتا بالإعلان عن حشد الحرس الوطنيّ وشرطةِ الولاية للتعامل مع شبكةٍ متخصّصةٍ في حرب الشوارع. نعم، "مواجهة التمرّد" (أو "الشغَب") هو أسلوبُ الدولة لمواجهة الشعْب. من الصفات المشتركة مع انتفاضات الستينيّات هو ردُّ السلطة في الحالتيْن بالاعتقال الإداريّ العامّ - - وهو ما يقوّي مؤسّسةَ السجن الجنائيّ. في انتفاضة واتس (1965)، قال نائبُ رئيس الشرطة إنّ عليهم اعتقالَ أكبر عددٍ ممكنٍ من المتظاهرين وتوجيهَ تهمٍ مثبتة. واعتُقِل، فعلًا، عددٌ هائلٌ من السُّود في لوس آنجلس. داريل غايتس أصبح رئيسَ الشرطة لاحقًا في لوس آنجلس، وكان قد أكّد أنّه قرأ بإمعانٍ طريقةَ عمل الجنود الأمريكيّين في فيتنام وأنّه تَواصلَ مع مجموعةٍ من المارينز ليؤسِّس فرقةً خاصّةً للتعامل مع مواجهة التمرّد (SWAT) - - وهي فرقةُ الأسلحة والتكتيكات الخاصّة، التي استَهْدفتْ فرعَ "الفهود السود" في لوس آنجلس سنة 1969.

إنّ العلاقة بين الاعتقال السياسيّ والجماعيّ مهمّة جدًّا. كلُّ الاعتقالات سياسيّةٌ إلى حدٍّ ما، وهدفُها الحفاظُ على تركيبة المجتمع الاستعماريّ. الاعتقال الجماعيّ هو اعتقالٌ سياسيّ "وقائيّ."

 

 سحبوا وِلْ براون من زنزانته، وشنقوه، وأطلقوا النارَ عليه، وأحرقوا جثّتَه، وهم يبتسمون

 

وبالعودة إلى موضوع العنف: السنة الماضية كانت الذكرى المئة للصيف الأحمر.[3] في ذلك الصيف، توثّقتْ قضيّةُ وِلْ براون، الذي كان قد اتُّهم باغتصاب فتاةٍ بيضاءَ في أوماها (نبراسكا) - - وهذه من أكثر التّهم الملفَّقة ضدّ السود. فقد غزت السجنَ مجموعةٌ من البيض ، وسحبوا براون من زنزانته، وشنقوه من جذع شجرة، وأطلقوا النارَ على جثّته ألفَ مرّة (ثمّة صورةٌ لجثّته وهي تلتهب في الشارع، وقد أحاطها الغوغاءُ من البيض وهم يبتسمون). هذا الإعدامَ شهده، أو مارسه، ما يقارب 15000 أبيض من الغوغاء. تخيّلْ أنّ من الممكن حشدَ هذا الجمع الهائل في إستاد رياضيّ! هذا تعبيرٌ سياسيٌّ في حدّ ذاته، وفحوى الرسالة: أنّ الاستعلائيّين البِيض يمكن أن يفعلوا ذلك لأيّ أسْود وإنْ كان بريئًا.

العنف في هذا البلد مَشهد (spectacle)، وهو وسيلةٌ عضويّةٌ ممنهجة لاضطهاد السُّود. من الضروريّ لقرّاء الآداب ممّن لا اطّلاعَ كاملًا لديهم على عنف الولايات المتحدة أن يُدركوا أنّ عنفَ "الإعدام الغوغائيّ" وعنفَ الشرطة الموجَّه ضدّ السود هما استمرارٌ منطقيٌّ للمؤسّسة نفسِها. الشرطة مؤسّسةٌ عنيفة، وقد وُجدتْ لتمارِسَ العنفَ. هذه المؤسّسة وغيرُها وُجدتْ لتعزيز إدارة الطبقة الحاكمة للاضطهاد العنصريّ من أجل إخضاع شرائح المجتمع كافّةً لإرادتها. الفصل العنصريّ وفقدانُ المساواة في التعليم هما وسيلتان أُخريان من وسائل مؤسسة الإخضاع.

استمرّ الإعدامُ الغوغائيّ حتى خمسينيّات القرن الماضي، ولم يوجد قانونٌ يحرِّمه حتى ذلك الوقت. ثم بدأ هذا الإعدامُ يَفقد شرعيّتَه بعد الحرب العالميّة الثانية، وتَصدّرَ عنفُ الشرطة الإعداماتِ التي تلت تلك المرحلة. الإعدامات الغوغائيّة، أكانت مدنيّةً أمْ على يد الشرطة، هي "تراثٌ أمريكيٌّ أصيل."

- توسَّن: لا يوجد قانون على مستوى التشريع العامّ في الولايات المتحدة ضدّ الإعدام الغوغائيّ حتى هذه اللحظة. ومجلس الشيوخ يتناول هذا الموضوع الآن! صحيح أنّ بعض القوانين المحلّيّة صُدِّقتْ في الخمسينيّات على مستوى الولايات، ولكنّ ذلك لم يصل إلى مستوى الدولة ككلّ حتى هذه اللحظة!

* إيّاد: كثير من القرّاء مطّلعون على حركات القوّة والتحرّر السوداء في الولايات المتحدة في الستينيّات والسبعينيّات. لكنْ ما هي قوى التحرّر الحاليّة، وما هي تطلّعاتُها الفكريّة، وما هي نقاطُ التقائها وصراعاتها؟ وأخيرًا، ما هي فرصُ التضامن وتقاطعها مع حركات تحرّرٍ أخرى في العالم؟

- ناڤيد: العلاقة بين التطوّرات داخل مدن الولايات المتحدة، والتطوّرات في الجنوب العالميّ عقب التحرّر من الاستعمار، واضحةٌ جدًّا - - وخصوصًا بعد صعود نهج النيوليبراليّة. في منتصف القرن الماضي، تصاعد عددُ الشركات التي غادرتْ عمقَ المدن الأمريكيّة هربًا من نفوذ النقابات العمّاليّة، ومعها هربَ عددٌ من البِيض بعد نهاية حقبة الفصل العنصريّ. شركاتُ تصنيع السيّارات، مثلًا، هاجرتْ من ديترويت إلى المراكز التي يتكاثر فيها البِيضُ، إلى الضواحي، إلى ولايات الجنوب الأمريكيّ، ومن ثم تعولمتْ: فهربتْ إلى دولِ ما بعد الاستعمار التي تهيمن عليها البورجوازيّاتُ الوطنيّةُ والكومبرادورُ الجديد، من أجل استغلال اليد العاملة والموارد والأراضي الرخيصة التي أُتيحتْ لها هناك. فقد اقترضتْ هذه الدولُ الديونَ من البنك الدوليّ وصندوقِ النقد الدوليّ مقابلَ خصخصة الموارد وتخفيضِ سعر العملة والإطاحة بحقوق نقابات العمّال لجلب الاستثمار الأجنبيّ.

ملأ الفراغَ الذي أحدثتْه هذه الشركاتُ في المدن الأمريكيّة الاقتصادُ الخدماتيُّ غيرُ المنتج، وأدواتُ قمع الدولة (أي الشرطة) خوفًا من ظهور شبح الثورة. لقد سبق أن كتب اميلكار كبرال عن إعادة تركيب العلاقات بين شرائح المجتمع، من الأفقيّ إلى العموديّ، بعد التحرّر من الاستعمار. وهنالك أيضًا توازٍ في التحوّل الطبقيّ من نموّ الطبقة البورجوازيّة الصغيرة في المجتمع الأسود داخل أمريكا، والهرميّة الطبقيّة التي أفرزتْها مجتمعاتُ الدول التي تحرّرتْ من الاستعمار. التوازي الهرميّ يتيح فرصةً للتضامن بين القوى المناهضة للنيوليبراليّة، هنا وفي الخارج. لذا سمعنا بحملات التضامن بين السود والفلسطينيين، وتبنّت "حركةُ حياة السود" مشروعَ مقاطعة الكيان الصهيونيّ [4] وسحب الاستثمارات منه وفرض العقوبات عليه (BDS).

هؤلاء السود يروْن أنّهم في خندقٍ واحدٍ مع حركات التحرّر المناهضة للصهيونيّة لأنّ أدواتِ القمع الأميركيّة، وبالتحديد الشرطة،[5] تذهب سنويًّا إلى فلسطين المحتلّة لتتعلّمَ أساليبَ مواجهة التمرّد. وهذا الأسلوب - الركوعُ على الرقاب - هو الذي أدّى إلى جريمة قتل جورج فلويْد.

- توسّن: التوازي بين الصراعات حقيقيّ، وأعني بين التبعيّة الخارجيّة والاستعمارِ الداخليّ، ضمن تطوّر الهرميّة الطبقيّة، وبناء طبقة الكومبرادور الجديدة في المجتمعات. البورجوازيّة الصغيرة الآن تدير صياغةَ "الاستعمار الجديد" داخل البلاد وخارجها.

فلمناضلي حركة تحرّر السُّود، أنتج القمعُ انقطاعًا بين الأجيال السابقة والحاليّة. هُزمت القياداتُ والتنظيماتُ القديمة انهزامًا حاسمًا، ما أتاح الفرصةَ لجيلٍ جديدٍ من أجل إعادة بناء هذه الحركات من دون قياداتٍ رسميّةٍ أو مؤهَّلة. وبعد إعدام تريفون مارتن في ولاية فلوريدا،[6] تكوّنتْ حركاتٌ وتجمّعاتٌ جديدة أدّت إلى حَراكٍ شعبيّ واسع. وبعضُ مكوّنات هذا الحراك يعمل على تطوير حركة الدفاع عن الشعب الأسود وتحويلها إلى حركة تحرّر.

هناك تنظيماتٌ ذاتُ مفاهيمَ وتطلّعاتٍ أمميّة، ومنها: "حركةُ مالكوم أكس الشعبيّة،" و"منظّمةُ الأفارقة الجدد" التي انتخبتْ شوقي لمومبا رئيسًا لبلديّة جاكسون (مسيسبّي)، و"حزبُ الشعب الأفريقيّ الاشتراكيّ" الذي حاول مواصلةَ النهج الثوريّ القوميّ. وهنالك الحركاتُ القوميّةُ الأفريقيّة، كـ"الحزب الثوريّ لجميع الأفارقة،" وهي تمارس فكرَ ستوكلي كارلمايكل. ونشأتْ أيضًا ظاهرةُ السياسة النسويّة الراديكاليّة منذ أول نشوء "حركة حياة السود." وبعد فيرغسون، نشأتْ "حركةُ الشبيبة السوداء" التي تتمتّع أيضًا بفكرٍ نسويّ. وكلُّ هذه الحركات ذاتُ مبادراتِ تضامنٍ مع نضال الشعب العربيّ عامةً، والفلسطينيّ خصوصًا. وهناك تجمّعاتٌ جديدة كـ"مُدافعي تمّوز" في ميامي، وهم عملوا على التضامن مع حركة التحرّر الفلسطينيّة؛ و"ائتلاف جاكسون" في مسيسبّي، وهو تحالفٌ أمميّ وتحرريّ ذو تطلّع اشتراكيّ. وهناك ظاهرة إعادة بناء للمفاهيم الماركسيّة ضمن حركات التحرّر السوداء.

* إيّاد: شكرًا جزيلًا لكرمكما ووقتكما.

- ناڤيد: أريد أن أضيف أنّ زوالَ المؤسّسة الليبراليّة غيّبتْ مبادراتِ "الإصلاح" [الجزئيّ] لصالح "التحوّل الجذريّ."

- توسّن: وهذا ما أسمعُه أنا أيضًا في التجمّعات المختلفة. الحركات الآن ارتجاليّة، مكوّنة من تلاميذ الثانويّات والمدارس المتوسّطة، وهي خارج تنسيق التنظيمات الموجودة، وتَعتبر القياداتِ "المترسّخة" ليبراليّةً وفاقدةً للفكر الثوريّ.

الولايات المتّحدة

 


[1]https://www.bl.uk/learning/histcitizen/campaignforabolition/abolitionbackground/abolitionintro

.html#:~:text=The%20slave%20trade%20refers%20to,the%20west%20coast%20of%20Africa.

بدأتْ تجارةُ العبيد الأوروبيّة في القرن السابع عشر، وامتدّت حتى سنة 1790. خلال هذه المدّة اختُطِف 480،000 إفريقيّ، وبِيعوا إلى أسواق العبوديّة في المستعمرات البريطانيّة.

[2]https://guides.ll.georgetown.edu/c.php?g=592919&p=4172697

ما بين العاميْن 1865 و1877، حَلّتْ حقبةُ "إعادة البناء" التي تلت الحربَ الأهليّة. فتقدّمتْ حقوقُ السود وأبناءِ العبيد المحرَّرين. تلت هذه المرحلةَ مأسسةٌ لإيديولوجيا الاستعلائيّة البيضاء بعد استيلاء العنصريّين البيض على السلطة في الولايات الجنوبيّة. واستمرّت هذه الحقبةُ حتى الحرب العالميّة الثانية، وطُبّقتْ أثناءها قوانينُ "جيم كرو" للفصل العنصريّ (نسبةً إلى ممثّل أبيض عنصريّ في العام 1830 كان يَسْخر من العبيد الافارقة ويصفهم بالحمقى، واخترع لقب جيم كرو للاستهزاء من هذه الحماقة).