الحالة السنية 
10-10-2019

 

تشكّل المذاهب الإسلاميّة أحد أهمّ تجليّات الفكر الدينيّ في الحضارة الإسلاميّة عبر التاريخ، فقد شهد العالم الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرم، الكثير من الارهاصات السياسيّة والفكريّة، التي أصّلت فيما بعد لظهور المذاهب، والفرق والنحل والطوائف، حتّى وجد المسلم نفسه أمام  جبريّة الانتماء وقدريّة التموقع في أحد المذاهب للأسف. وقد رعتْ الأنظمة السياسيّة فيما بعد حالة الانتماء الجبريّ هذه، مع ظهور مصطلح التكفير لمجرّد المخالفة. وقد ظهر المصطلح وترافق مع نشأة علم الكلام، ولم تتورّع الأنظمة المتعاقبة الأمويّة ولا العباسيّة في استعمال سلطة القوّة وقوّة الفقيه في حمل الناس على القول برأي السلطان جائرًا كان أم فاسقًا.

صحيح أنّ الكثير من هذه المذاهب قد أرستْ قواعد للفصل بين السلطات، لكنّنا في بعضها نجد أنّ ما ألحقه الفقيه بالسلطان من الحقّ في النصرة والبيعة والولاء دون شرط من علم أو نسب، قد تجاوز مداه. أمّا أئمة أهل السنة والجماعة بالإجمال (المالكيّة والشافعيّة والحنبليّة والحنفيّة) فقد حثّوا على طاعة وليّ الأمر وحرمة الخروج عليه ما لم يُظهر كفرًا بواحًا.

ورغم إدراكنا أنّ ذلك اجتهادًا من الائمة المذكورين لحقن دماء المسلمين المستباحة وحفظًا للاجماع، إلّا أنّها في نظرة اخرى تشكّل ردّ فعل موجّه ضدّ الساعين إلى تصحيح مسار الخلافة ووضعها حيث ينبغي أن تكون. أكثر من ذلك، شكّل الولاء للسلطان جزءًا من المسار التاريخيّ الاعتقاديّ عند أهل السنة والجماعة، ولم يشفع لاحقًا النتكيل بهم، ومنعهم حريّة ممارسة الدين دون وصاية السلطان. فقد كان سجن وتعذيب الإمام الأكبر مالك ابن أنس رحمه الله، مؤسّس المذهب المالكيّ، على يد أبو جعفر المنصور بواسطة عامله على المدينة المنوّرة، أكبر دليل على جبروت السلطان ونزوعه إلى الهيمنة على الفتوى والتدريس بما يتلائم مع حال السلطان وعامله. فقد أوّل علماء بلاط السلطان فتوى الإمام مالك ليس على مستكره يمين  بأنها تنصّلٌ من البيعة، وعذر يخدش في مصداقيّة بيعة العامة للسلطان تقيّة من بطشه فهي لا تلزم قياسًا على طلاق المكره، لهذا السبب عُذّب وسجن الامام مالك حتى شُلّت يده. وكانت محنة خلق القران قد ألقتْ بأحمد ابن حنبل في غياهب السجن، وأبو حنيفة استشهد مقيّد اليدين في سجن المنصور، والشافعي ذاق سجن العباسيين مرّات عديدة، لكنّ ذلك لم يمنع السنّة والجماعة من التمسُّك بوجوب الطاعة انطلاقًا من حديث العرباض ابن سارية،[1] الذي شكّل قاعدة الولاء والبراء في التعامل مع السلطان.

لقد ساهمت تلك الأحداث رغم مرارتها في تشكيل الفكر الإسلاميّ السنيّ القائم على وجوب نصب الإمام، وطاعته ولو كان مُغتصبًا واستقرَّ له الحكم، فلم تشهد الساحة السنيّة في العهود المتلاحقة، خلعًا لسلطان، أو خروجًا عليه. بل ساهم أكثر علماء السنّة في إرساء دعائم الحكم واقناع الناس بالبيعة وحرمة الخروج على السلطان، ولعلّ من ابرز الخلافات الفكريّة بين المذهب السنيّ والشيعيّ تكمن في تزكية الإمام، والتمكين له، على هذا درجت دولة المرابطين في شمال افريقيا والاندلس رغم كونها دولة أصوليّة نشأت في الصحراء، في بيئة لا حاكم فيها ولا سلطان، وسارت عليه دولة الموحّدين القائمة على فقه الفروع والاجتهاد، وهي إحدى تجلّيات دولة الفقيه في التاريخ الإسلاميّ السنيّ.

وهكذا أثّر التعاطي السلبيّ للسلاطين عبر العصور مع أئمّة السنّة،  رغم الاصطفاف الأزليّ إلى جانبهم، في ظهور الفرق المتصوّفة وحركة الزهد، في محاولة للقطيعة بين الحياة السياسيّة والعلم الشرعيّ، ورفضًا ضمنيًّا لتسخير العلماء وتوظيف الخطاب الدينيّ في إضفاء الشرعيّة على الحاكم، ولم يتأخّر ردّ فعل الحاكم في السجن والتنكيل طالت أبرز رموز المذهب السنيّ – إبن تيمية، إبن القيّم الجوزيّة، وابن حزم الظاهريّ، والعزّ ابن عبد السلام وغيرهم. إزاء ذلك انحسر دور السنة وتراجع حضورها في المشهد السياسيّ حتي ظهور حركة الوعي والصحوة الإسلامّية في الشام والحجاز وشمال افريقيا،[2] التي حاولت إعادة السنة كمذهب ومنهج إلى المشهد السياسيّ والاجتماعيّ للامة، بتحدّيات أكبر وأعمق على المستوى العقدي والتعبّديّ الذي تأثّر كثيرًا بسبب انتشار الخرافات والأحاديث المدسوسة وتفرّق الأئمّة إلى ملل ونحل لا تكاد تحصى، تختلف حتّى في ابسط القواعد الشرعيّة.

 

انحسر دور السنة في المشهد السياسيّ حتى ظهور حركة الصحوة في الشام والحجاز

 

ومع ظهور الدولة الحديثة كانت غالبية الدول العربيّة، على الأقل، تدين بالمذهب السنيّ، لأنّه أكثر المذاهب انفتاحًا على الواقع، فظهرتْ الطبقة السياسيّة والفقهيّة أكثر التصاقًا وتماهيًا مع السلطة الجديدة، بل ساهم فقهاء السنّة في تدعيم سلطان الدولة الحديثة، والإفتاء بحرمة الخروج ووجوب الطاعة، باستثناء بعض الحركات الإسلاميّة السنيّة التي عزفت عن بلاط السلطان نهائيًّا كالصوفيّة التيجانيّة وحركة الدعوة والتبليغ، أو حركة الاخوان المسلمين مرحليًّا. وهو ما أدّى إلى التحالف الشرس بين الحكّام الجدد وبعض الفقهاء[3] الذي أفضى بدوره إلى إعدام كثير من العلماء المجدّدين وبعض الأصوليّين.

ثمّ سرعان ما خرج من رحم فقهاء البلاط تيّارات مثّلتْ صراع الأصول والفروع، فخرجتْ بذلك من نفس الرحم "الأصوليّة الجهاديّة،" التي تبنّتْ تجديد الأحكام السلطانيّة،[4] وتأصيل الخروج على الحاكم وارتباط الطاعة والبيعة بتطبيق الشريعة الإسلاميّة.

إنّ ما تعج به الساحة السنيّة اليوم من اختلاف وخلاف، وضعف في مواجهة التحدّيات مردُّه في الأساس، غياب الرؤية الحاكمة عند كثير من الفقهاء، تلك الرؤية التي أريد لها أنْ تكون خادمة مطيعة في يد السلاطين، كما أريد لها أنْ تكون تبريريّة لأحقيّتهم في البيعة ولزومها في أعناق المسلمين. لذلك انحرفت الرؤية الصادقة وتعاورتْها أنظمة الاستبداد عبر العصور، ولا يختلف ذلك الواقع عمّا عليه الحال اليوم، إذا اخذنا التجلّيات الكبرى للنسق السياسيّ الذي انتظمتْ فيه الحركة الفقهيّة تحت كراسي الحكّام بدءًا من ظهور الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين الذي ظلّ لعقد من الزمن يمثّل الرابطة العالميّة الرسميّة لعلماء السنّة وصولًا إلى اللحظة التي تفجّر فيها الخلاف السعوديّ – الإماراتيّ مع قطر، والذي انتج علماء انتظموا في نسق موازي للاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين؛ وهو رابطة حكماء المسلمين الذي اتّخذ من الإمارات مقرًّا له في تجسيد مؤسف للخلاف بين الاشقّاء. وهكذا اهدرت الدماء وانتشر التكفير واستبيحت الشعوب المسلمة في (تمّ تكفير القذّافي بفتوى وإضفاء صفة المجاهدين على الخارجين عليه وجواز حمل السلاح والتبرع بالمال والنفس لإسقاط الأنظمة بفتاوي) وأكثر من ذلك اعتبار المقاومة اللبنانيّة غير شرعيّة بل إرهابيّة، فأين نحن اليوم ممّا يجري باسم الدين؟.

لقد كان حريّ أن نتجاوز الخلافات وأن ننمّي عوامل الوحدة والقوّة أكثر من التخندق خلف حكّام مهوسين بحب السلطة ورفض الآخر. خاصّة أنّ الذين روّجوا ردحًا من الزمن – ولا زالوا – للصراع المذهبيّ والفئويّ لا زالوا يعملون للدفع إلى الاقتتال، في لبنان وليبيا وسوريا والعراق واليمن.

تطالعنا اليوم خطابات تدعو للتجديد، لكنّ الإشكاليّة تكمن في أنّ تجديد الخطاب السنّي اليوم لا يعكس طموحات الشعوب المسلمة بل يدفع الحكام إلى مزيد من العنف والاستبداد. فالتجديد لم يأتِ إلى اليوم بغير انفلات للقواعد والأصول. وهو رهين اتجاهين غالبًا ما ينفيان المُرتجى من التجديد. واحد يميّع الهويّة الدينيّة تحت عنوان التجديد، وآخر يتسلّف بالعودة النكوصيّة للتراث. واقعًا، تشكّل التنظيمات السلفيّة الجهاديّة المسلّحة (القاعدة – داعش – النصرة – الجهاديون في نيجيريا - والصومال وشمال مالي - وجنوب الجزائر... ) في ظاهرها - رغم غلوّها واعتراضنا على منهجها - تجديدًا للخطاب الدينيّ أو على الأقل رفضًا للواقع، لكنّها بالمقابل أضافتْ تعقيدًا بنيويًّا للمشهد الإسلاميّ، فطبعته بالتكفير والإرهاب، بغض النظر عن المستهدف. هذا ما تؤكّده عشريّة الجزائر الدمويّة في نهاية القرن الماضي، وفشل دولة الفقيه في أفغانستان.

ولأنّ غياب الحوار والعجز عن التفريق بين الأصل الشرعيّ الجامع للأمّة وملمّات الأحداث التاريخيّة التي تسبّبتْ في تشرذم الأمّة وانفصام عراها، يشكّل سببًا مُضافًا لضعف الأمّة واختلافها، فإنّ قضايا من مثل قضيّة فلسطين ستبقى الغائب الأكبر عند كلّ دخول في متاهات التحيّز الفئويّ (طائفيًّا كان، أم فقهيًّا، أم تاريخيًّا، أم...). لا أريد نكأ الجراح ولا إثارة النعرات، وكشف المستور تحت ورقة التوت، لكنّ الحالة الراهنة للأمّة الإسلاميّة تستدعي الكثير من المكاشفة والحقيقة.  

نواكشوط


[1]  عن أبي نجيحٍ العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجلتْ منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنّها موعظة مودّعٍ، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبدٌ؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإنّ كلّ بدعةٍ ضلالةٌ؛ رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

[2]  ونقصد بحركة الصحوة تلك، حركة الإصلاح الوهابيّة، التي وإن اختلف الكثيرون حولها إلّا أنّها خرجت من رحم معاناة الواقع، وفي محاولة لإعادة تقويم ما فسد من الدين، بفعل الحركات الصوفية، والبدع التي ألمّت بالمسلمين. ثمّ حركة الإصلاح مع جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وغيرهم من علماء "النهضة الإسلاميّة الحديثة الأولى،" بحسب ما أُطلق عليها من تسمية.

[3]  كثر هم الفقهاء الذين قرنوا تجربتهم الدينيّة برضى السلطة السياسيّ، ويستحضرنا هنا مفتي الأزهر، محمد مصطفى المراغي، الذي سعى جاهدًا لاضفاء الشرعيّة على الملك فاروق في مصر، كخليفة للمسلمين، بعد أن غيّر من فتواه لتخفيض سن التكليف بالولاية لفاروق. ووصل الأمر به ليصرح  بأنّ "الله يبعث كل مائة عام للأمّة الإسلاميّة رجلًا يُصلح دينها ويجدد عقائدها ويوحّد صفوفها، وفاروق الأوّل هو المختار ليكون رجل المئة عام المقبلة." المفارقة أن مقتل المراغي كان على يد الملك فاروق لعدم موافقته على اصدار فتوى تحرّم الزواج من الملكة فريدة عقب طلاقها من الملك على غرار زوجات النبيّ.

[4]  تُعرف الأحكام السلطانيّة، في الحقبة المعاصرة، بمصطلح الفقه السياسيّ, وهو مصطلح يشير إلى شرائط وقواعد معرفة كل من الإمامة والوزارة والإمارة والقضاء والحسبة وغير ذلك، ويُحتاج إليها في تقليد وإعطاء المشروعيّة للملوك والأمراء والقضاة والمحتسبين ومن يجري مجراهم.

الحسين القاسم

خبير في مجال القانون الدوليّ