أن نتّفق أو لا نكون: قيادة وطنية موحّدة، واستراتيجية وطنية شاملة
05-02-2020

 

في رأينا أنّ خطّةَ تصفية القضيّة الفلسطينيّة التي أعلنها دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو في 28/1/2020، بحضور سفراء ثلاثِ دولٍ عربيّة، هي التطوّرُ الطبيعيُّ لمسار التسوية والسلام الزائف الذي بلغ ذروتَه في "إعلان المبادئ" (13/9/1993) وما تلاه من اتفاقاتٍ بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة و"إسرائيل" - - وهو إعلانٌ وصفه المفكّرُ الراحلُ إدوارد سعيد بأنّه "وثيقةُ استسلامٍ فلسطينيّة" أو "فرساي فلسطينيّة."[1]

قبل عدّة عقود كتب الشاعرُ الراحل محمود درويش: "إنّ مَن سلبَكَ كلَّ شيء لن يعطيَكَ أيَّ شيء، ولو أعطاكَ أهانكَ!"[2] وهذا ما يجبُ أنْ يتذكّرَه اليومَ كلُّ مَن راهن على مسار "التسوية والسلام،" وكلُّ مَن آمن بوهم تحقيق "الاستقلال الوطنيّ" على جزءٍ من أرض فلسطين المحتلّة من خلال المفاوضات مع العدوّ الصهيونيّ، وبـ"إشراف" حليفه الأمريكيّ، من دون الركون إلى استراتيجيّة مقاومة، وبالتزامن مع مسلسلٍ من التنازلات عن الحقوق الفلسطينيّة المشروعة.

إنّ النظر إلى خريطة المعازل العرقيّة التي يقترحها ترامب ونتنياهو لتكون "الدولةَ الفلسطينيّةَ" (المنزوعةَ السلاحِ والسيادة) يوضح أنّ حدودَ المعازل في الضفّة الغربيّة، بما فيها القدس، هي نفسُها حدودُ "جدار الضمّ والفصلِ العنصريّ" الذي شيَّده النظامُ الصهيونيّ وأبقاه قائمًا على الرغم من قرار محكمة العدل الدوليّة القاضي بتفكيكه في تمّوز 2004. هذا التطابقُ بين الوقائع الاستعماريّة على الأرض من جهة، والخططِ التي يقدِّمها العدوُّ الصهيونيُّ من خلال حليفه الأمريكيّ من جهةٍ ثانية، يشير إلى أنّ "صفقة القرن" ليست وليدةَ الصدفة، وليست خروجًا عن مسار الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ الجاري تحت غطاء "عمليّة السلام" الزائف الذي ما تزال القيادةُ الفلسطينيّةُ تجري خلف سرابه منذ أكثر من ثلاثين عامًا.

 

حدود المعازل في الضفّة الغربيّة هي حدودُ "جدار الضمّ والفصلِ العنصريّ"

 

إنّ الردّ الفلسطينيّ الأمثل لإفشال "الصفقة" يجب ألّا يقتصرَ على رفضها، وألّا ينحصرَ في خطبٍ عصماءَ وتهديداتٍ مكرَّرةٍ لم تتحوّلْ يومًا إلى أفعالٍ وتكتيكاتٍ تعرقل توسُّعَ المشروع الصهيونيّ. وربّما تشكِّل المقترحاتُ الآتية لَبِناتِ ردٍّ فلسطينيٍّ إستراتيجيٍّ حقيقيّ. وقد سبق أنْ قدَّمتْ بعضَها "اللجنةُ الوطنيّةُ الفلسطينيّة لمقاطعة إسرائيل" عندما بدأ ترامب حربَهُ المعلنةَ على الشعب الفلسطينيّ بنقل السفارة الأميركيّة إلى القدس والاعترافِ بالقدس عاصمةً للكيان الصهيونيّ. وقد يكون من الرومانسيّة تصوُّرُ تحقُّقها تلقائيًّا، إذ هي تحتاج إلى تحرّكٍ شعبيٍّ واسعٍ عابرٍ للحدود والتجمّعات. وهذه المقترحات هي:

أوّلًا: يجب أنْ نعود إلى جذور "الصفقة" لإفشالها. وهذا يعني الخروجَ الكاملَ من اتفاقيّات أوسلو وما تلاها، والتراجُعَ عن الخطأ التاريخيّ الذي عُرف بـ"رسائل الاعتراف المتبادل" - - الذي لم يكن، في حقيقة الأمر، إلّا اعترافَ المستعمَرِ بحقّ المستعمِر في إنشاء نظامه الاستعماريّ، وإقرارَ المستعمَر بنبذ حقّه الطبيعيّ في مقاومته. أمّا المطالبة بالعودة إلى مرجعيّات أوسلو و"مبادرة السلام العربيّة،" فهو ترسيخٌ لـ"الصفقة،" وتشجيعٌ لمسلسل التطبيع الرسميّ العربيّ - الصهيونيّ، الذي لم يكن ليحصلَ (بهذه الوقاحة) لولا وجودُ التطبيع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ، بل لولا وجودُ كامب ديفيد ووادي عربة قبله.

ثانيًا: إعادةُ بناء منظّمة التحرير الفلسطينيّة لتكونَ كيانًا سياسيًّا جامعًا لكلّ الشعب الفلسطينيّ في جميع أماكن وجوده، وممثّلًا شرعيًّا له، من أجل أن تَحملَ قيادتُها الجديدةُ تطلّعاتِ الشعب الفلسطينيّ وهمومَه كافّةً.

ثالثًا: فتحُ حوارٍ وطنيٍّ جامع، بسقفٍ زمنيّ، تشارك فيه شتّى أطياف شعبنا. وعلى هذا الحوار أن يَشملَ مراجعةَ السياسات التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة، ويُفضي بنا إلى تبنّي استراتيجيّة مقاومةٍ وطنيّةٍ شاملة، تَضْمن تعزيزَ صمود الناس وصونَ حريّاتهم الأساسيّة، وتمضي بالنضال الوطنيّ الفلسطينيّ نحو التحرّر والتحرير وعودةِ اللاجئين إلى ديارهم التي هجَّرتهم العصاباتُ الصهيونيّةُ و"إسرائيلُ" منها منذ ما قبل العام 1948 وحتى اليوم.

فعلى الرغم من التراجع الرسميّ الفلسطينيّ، واصل شعبُنا مقاومتَه الشعبيّةَ والمسلّحة لنظام الاستعمار الاستيطانيّ والاحتلال والأبارتهايد الصهيونيّ. وفي العام 2005 أنشأ المجتمعُ الفلسطينيّ "حركة مقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها" (BDS)، مستفيدًا من تجربة الشعب الفلسطينيّ في المقاطعة، ومن تجارب شعوبٍ أخرى مثل شعب جنوب إفريقيا. وباتت استراتيجيّاتُ الحركة الفلسطينيّة، بامتداداتها وتحالفاتِها العالميّة، تحدّيًا حقيقيًّا لنظام العدوّ الصهيونيّ حول العالم. وليس مفاجئًا أن تتضمّنَ "الصفقة" إدانةً واضحةً لحركة المقاطعة (BDS)، وطلبًا إلى الدول العربيّة برفضها وعدمِ التجاوب معها.[3] ذلك لأنّ هذه الحركة - - بنجاحاتها العالميّة المؤثِّرة، وبتعزيز التضامن المشترك بين شعبنا وحركاتِ العدالة (مثل حركة "حيواتُ السود مهمّة") - - أصبحتْ أفضلَ أسلوبٍ للتضامن الاستراتيجيّ مع الشعب الفلسطينيّ، ومن أشدّ أساليب المقاومة الشعبيّة فعّاليّةً في فلسطين المحتلّة.

لكنْ، على الرغم من أنّ المجلسيْن الوطنيّ والمركزيّ لمنظّمة التحرير اتّخذا قراراتٍ واضحةً - كان آخرها في يناير 2018 - بتبنّي حركة المقاطعة (BDS) و"وقفِ التنسيق الأمنيّ،" فإنّ السلطات التنفيذيّة في المنظّمة والسلطة لم تترجمْها إلى سياساتٍ فعليّةٍ كاملةٍ حتى الآن. وفي اعتقادي أنّ حركة BDS وباقي أشكال المقاومة يمكن أن تكونَ في قلب أيّ استراتيجيّةٍ وطنيّةٍ شاملةٍ يمكن الاتفاقُ عليها. وسيكون من شأن ذلك تعظيمُ آثار أشكال المقاومة المختلفة، وتحقيقُ التكامل بينها، وصولًا إلى انتزاع حقوقنا الوطنيّة الثابتة.

رابعًا: تبنّي موقف وطنيّ فلسطينيّ حاسم ضدَّ التطبيع الرسميّ العربيّ - الإسرائيليّ. ففي حين تتصدّى حركاتُ المقاطعة في فلسطين والدول العربيّة لتطبيع بعض الحكومات العربيّة، بل لتحالفها الواضح مع "إسرائيل،" يَشهد الحقلُ السياسيُّ الفلسطينيّ الرسميّ تبايناتٍ في تعاطيه مع هذه الحكومات. فعلى سبيل المثال، كشفتْ مصادرُ فرنسيّةٌ عن شراء المغرب مؤخّرًا ثلاثَ طائراتٍ إسرائيليّةٍ من دون طيّار؛[4] كما أُعلن عن مشاركة "إسرائيل" في معرض إكسبو دبي العالميّ الذي يبدأ في أكتوبر 2020 بمشاركة دولٍ عربيّة وإسلاميّة.[5]

يتطلّب الموقفُ الفلسطينيُّ المناهضُ التطبيع وقفَ "التنسيق الأمنيّ،" ووقفَ التطبيعِ الفلسطينيّ الرسميّ مع العدوّ الصهيونيّ، وحلَّ اللجان والمنظّمات الضالعة فيه - - وفي مقدّمتها "لجنةُ التواصل مع المجتمع الإسرائيليّ" التي يطالب شعبُنا منذ سنوات بإلغائها ومحاسبةِ المسؤولين عنها. كما يجب رفضُ الأموال التي تدفعها الحكوماتُ العربيّةُ المشارِكةُ في خطّة التصفية تحت ستار "دعم صمودنا"؛ فهذه الأموال تهدف في الحقيقة إلى تلميع صورة هذه الحكومات، وإلى حماية مصالح الاحتلال.

خامسًا، تمكن الاستفادةُ من القانون الدوليّ في نضالنا وحشدِ التضامن الدوليّ معنا. فليس كلُّ ما في هذا القانون سيِّئ، ولم يُحسن المستوى الرسميُّ استخدامَه، بل كانت المفاوضاتُ تجري دومًا خارج مظلّته. والواقع أنّ التشابهَ بين واقع المعازل العرقيّة التي يحاصَرُ فيها فلسطينيّو الأرض المحتلّة منذ العام 1967 (وترسِّخُها "الصفقةُ")، وبين البانتوستانات التي صنعها نظامُ الأبارتهايد في جنوب إفريقيا للسكّان الأصليين، يكشف للعالم طبيعةَ النظام الصهيونيّ كنظام استعمار استيطانيّ وأبارتهايد واحتلال عسكريّ. وهذا ما ينبغي أن يعيدَ إلى الواجهة تقريرَ لجنة الأمم المتّحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغربي آسيا (الإسكوا)، الذي أثبت ارتكابَ "إسرائيل" جريمةَ الأبارتهايد ضدَّ كلّ الشعب الفلسطينيّ.[6] إنّ الربط بين الوقائع تحت الاستعمار والأبارتهايد وفق القانون الدوليّ يعزِّز حملاتِ المقاطعة وسحبِ الاستثمارات، ويزيد من عزلة "إسرائيل" في العالم، ويفضح مِن يدعمها. وقد تنقلب "صفقةُ" ترامب ونتنياهو عليهما إذا نجحنا في ترميم الصفوف وبناء الإستراتيجيّات الصائبة؛ وشعبُنا قادر على ذلك.

غزّة


[1] إدوارد سعيد، غزّة - أريحا: سلام أميركيّ (القاهرة: دار المستقبل العربيّ)، 1994، ص 39.

[2] محمود درويش، يوميّات الحزن العاديّ (بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، 2008).

[3] White House, Peace to Prosperity, 2020, p 36. https://www.whitehouse.gov/peacetoprosperity

[4] "المغرب يشتري 3 طائرات مسيَّرة من إسرائيل،" موقع عرب 48، 2 فبراير 2020. https://bit.ly/2v9zcGH

[5]  اللجنة الوطنيّة للمقاطعة، "النظام الإماراتيّ تجاوز التطبيعَ ومتورّطٌ في محاولات تصفية القضيّة الفلسطينيّة،" 12 نوفمبر 2019. https://bit.ly/3964ZXV

[6] الممارسات الإسرائيليّة تجاه الشعب الفلسطينيّ ومسألة الأبارتايد، ترجمة المرصد الأورومتوسطيّ لحقوق الإنسان، 2018.

https://bit.ly/31riH4S

عبد الرحمن أبو نحل

منسّق "اللجنة الوطنيّة لمقاطعة إسرائيل ــــ قطاع غزّة." حاصل على بكالوريس في اللغة الإنجليزيّة وآدابها من جامعة الأزهر في غزّة. مقيم حاليًّا في مدينة غزّة، وينتمي إلى أسرة لاجئة من قرية "بربرة" التي "طهّرتْها" عرقيًّا العصاباتُ الصهيونيّةُ في العام 1948