عندما قرّرتُ أنْ أصبحَ مثــقّـــفًا، بالمفهوم الذي يعني الدخول إلى دائرة الضوء، ارتكبتُ بعض الحماقات التي تصلح لتصوير فيلم قصير سينجح حتمًا في إضحاك الجمهور. وقد كتبت السيناريو بالفعل، وأنا مستعدّ لتمثيل الدور الرئيس، باعتباري البطل الذي عايش الأحداث وأراد أنْ يبلغ هدفًا بدا في النهاية مستحيلًا.
المشهد الأوّل
وقفتُ أمام المرآة لأعدّل ربطة العنق وأتــثبّتَ من تناسق الألوان. سألتُ زوجتي مرّةً أخيرةً، فقالت لي: "أنيق، مثل المثقّفين الذين يظهرون على التلفزيون ويشاركون في المهرجانات. لا تنقصك إلّا السيجارة!"
شعرتُ أنّها تسخرُ منّي، ثمّ غيّرتُ رأيي واعتبرتُ كلامَها دعابة.
سألتني قبل أنْ أخرج: "لن تأخذ السيّارة إذًا. أمتأكّد من أنّ المواصلات متوفّرة؟"
أجبتُها: "طبعًا طبعًا... أين سأركنها في سيدي بوسعيد؟! أخشى أن أضيّع الوقت في البحث عن موقف فتضيع فرصةُ المشاركة في حفل القراءة".
المشهد الثاني
ركبتُ القطار المتوجّه إلى سيدي بوسعيد. من النافذة المحاذية، انتبهتُ إلى الغيوم المتآمرة وهي تتجمّع بكثافة وتنذر بعاصفة. لم أنس المظلّة لحسن الحظّ. أخرجتُ ورقة من جيبي وأخذت أقرأ النصّ. "سيعجبهم وسيصفّقون،" هكذا حدّثتُ نفسي. كلّ من قرأتُ عليهم هذا النصّ من أصدقائي أبدَوا إعجابه بطرافته... إلّا زوجتي، التي لم يعد يعجبها لأنّي قرأتُه عليها مرّاتٍ ومرّات: في المطبخ، وفي الصالون، وفي غرفة المكتب، وحتّى في غرفة النوم.
في القطار، قرأته للمرّة الأخيرة وكنتُ أبتسم بين الحين والآخر، حتّى إنّ الجالس بجانبي أخذ يتململُ ويحاولُ النظرَ في الورقة. وفجأةً بدأ المطر يضرب زجاج النافذة بقوّة. طويتُ الورقةَ وأعدْتُها إلى جيبي، وظللت أشاهد المطر بقلقٍ أفسد متعة القراءة والسفر.
المشهد الثالث
وصل القطار، والمطر يزدادُ غزارةً لا تنفع معها المظلّة. بقيتُ في المحطّة أنتظرُ حتّى يتوقّف أو يخفّ، من دون جدوى. وفي مثل هذا الطقس، لا يمكن العثور على سيّارة أجرة بسهولة؛ فاستسلمتُ لمصيري، وترجّلتُ صاعدًا نحو قصر النجمة الزهراء حيث تنعقد جلسة القراءة والنقاش. بلّل المطر البنطلون، وتسلّل إلى حذائي. أزعجتني خواطرُ عن نزلةِ بردٍ ستصيبُني في المساء، فلعنتُ الثقافةَ والمثقّفين.
لمحتُ شجرةً قريبةً فأسرعتُ لأحتمي تحتها. بدأتُ أفكّر في طريقة للوصول إلى أعلى هضبة سيدي بوسعيد بأخفّ الأضرار. مرّت قافلةُ سيّارات، فهممتُ بأن أستوقفها، ولكنّي تراجعتُ بسبب فخامتها. صرتُ وحيدًا تحت شجرة وحيدة في طريق خالية. تساءلتُ بمرارة: "هل سأظلّ عالقًا هنا؟ أمسيةٌ ثقافيّةٌ تحت المطر؟"
طال الانتظارُ وأنا واقفٌ أتأمّلُ الغيومَ التي قرأتْ نصوصَها على مسامعي. أيقظتني صاعقةٌ من تأمّلاتي، فلمحتُ شاحنةً صغيرةً قادمةً من بعيد. ابتعدتُ عن الشجرة قليلًا حتّى يراني السائق. أشرتُ إليه فتوقّف.
المشهد الرابع
ركبتُ السيّارة، وقد تنفّستُ الصعداء. نظر إليّ السائقُ وكان يلبس سترةً ملوّثةً بكلّ أنواع الدهان، فبادرتُه بالجواب عن سؤالٍ ظهر في عينيه: "أريد الوصولَ إلى قصر النجمة الزهراء.. هل تعرفُ العنوان؟"
قال السائق: "أنا أعرف المنطقة بيتًا بيتًا؛ فأنا أعمل مع شركة عقاريّة، نبني ونرمّم وندهن..."
قلت بلهجة تخفي تجاهلي: "جميل."
السائق: "انظر، هذا قصر المخلوع بن علي... لقد عملتُ فيه أيضًا."
ـــ أهو مغلق حاليًّا؟
ـــ لا أدري، الحراسة ما زالت موجودة.
بعد صمت قصير، سألني: "لماذا تريد الذهاب إلى النجمة الزهراء؟"
ـــ سأشاركُ في مهرجان الكلمة... سأقرأُ نصًّا مع كتّابٍ آخرين. وبعدها سنتجادل.
ضحك السائق وقال: "لأوّل مرّة أسمع بهذا المهرجان". ثمّ أوقف السيّارة وعلى وجهه ابتسامةٌ لا تخلو من سخرية. أشار بيده قائلًا: "تفضّل يا صديقي، هذا هو قصر النجمة الزهراء."
المشهد الخامس
في حديقة القصر، وجدتُ السيّارات الفاخرة التي مرّت من أمامي في موقفٍ يتّسع لغيرها، ولكنّي لم أندم على ترك سيّارتي الحقيرة الــ 205 بيجو في البيت. توجّهتُ إلى القاعة الكبيرة حيث يجلس المثقّفون أمام جمهور متعطّش. عندما دخلتُ، رماني الحاضرون بنظرات مستغربة؛ فقد وصلتُ مُبلّلًا ومتأخّرًا.. متأخّرا جدّا. لقد انتهى الحفل تقريبًا.
شعرتُ أنّ عرقًا تصبّب من جبيني، وبدأ النزول مع قطرات المطر التي تدحرجت من ملابسي واستقرّت تحت قدميّ. تحوّلتُ إلى غيمة كبيرة تمطرُ عرقًا وثقافةً وغضبًا، وأخذت أقرأ وأقرأ وأقرأ، حتّى تحوّل المكان إلى بحيرةٍ عصفت بالضيوف والكراسي وباقات الزهور. انقطع التيار الكهربائيُّ، وتكسّر زجاجُ النوافذ بريح عاتية، وتبلّل الجميع مثلي وتسلّلتْ رطوبةٌ خبيثةُ إلى أقدامهم، وعرفتُ أنّ نزلةَ بردٍ ستصيبهم في المساء.
المشهد السادس
هدأتْ عاصفةُ نفسي، فغادرتُ المكان. وعندما وصلتُ إلى باب الخروج، انتبهتُ إلى قائمة المشاركين في حفل القراءة. بحثتُ عن اسمي فلم أجده.
عرفتُ أنّ المشرفة على المهرجان كذبت عليّ؛ فقد وعدتني بالمشاركة، وقالت إنّها سجّلت طلبي، ولكنّها لم تفعل.
كنتُ مكتئبًا أثناء الخروج بخيبتي، ولكنّي رميتُ ذلك الشعور على مقربةٍ من السيّارات السوداء الفاخرة. رفعتُ رأسي إلى السماء، فلمحتُ الشمس تتسلّل من بين الغيوم، وتلقي بأشعّتها على البيوت ذات النوافذ والأبواب الزرقاء. كانت الطرقات مكتظّةً بالمتنزّهين. سرتُ معهم نحو السوق، واشتريتُ مثلهم فطيرةً ساخنةً مغموسةً في العسل. أكلتُها، ثم اشتريتُ فطيرةً ثانيةً، وثالثةً، ورابعة... لا أدري كمْ فطيرةً أكلتُ لأنسى مرارة الموقف.
أنا المثقّفُ الذي بلّله المطرُ، فأكل الفطائر، وعاد إلى بيته فرحًا مسرورًا.
تونس