لعبة الملائكة
باغتني سؤاله فجأةً، فور استيقاظه :
ــ بابا، هل جرّبت الطيران أو ساعدك أحدٌ عليه؟
هزّني السؤال، وبعث فيّ آثارًا وذكرى طفل غادرتني.
قلت:
ــ نعم، وأنا صغيرٌ كنت أحلّق وأطير كثيرًا في جلِّ اللحظات تقريبًا.
ردّ عليّ سريعًا :
- لا لا... أقصد وأنت كبير!
ألجمني استطراده وحثيثُ سؤاله.
- لا يا ولدي. مذّ كبرت لم أحلّق، فالكبار لا يصلحون للطيران. صار وزن أحمالهم ثقيلًا. حتّى طيران أحلامي، تلك التي كانت أمّي تخبرني عنه حين أقوم مندهشًا من أنّي طرت أو حلّقت من شاهقٍ، ثمّ وصلت إلى الأرض بسلام...
كانت تفرحني بقولها :
إنّها الملائكة يا بنيّ تزِنك، وتتفقّد كم ازداد وزنك مع مرور الأيّام.
كنتُ أبتهج للعبة الملائكة تلك، وأنتظرها برغم خوفي اللذيذ من مخاطر تلك اللعبة، إلّا أنّ نهايتها سعيدة ومفرحة كروح الملائكة تمامًا.
كنت أصحو فزعًا طربًا، وأنا قابضٌ على طرف البساط السحريّ للطيران. وأتنفّس بحذرٍ، على وقع آخر لحظةٍ للطيران، حين أهبط على أكفّ الملائكة .
حلّق يا بنيّ؛ فالملائكة ما زالت تزور أحلامك، وتأخذك بأكفّها لتعلّمك الطيران.
أمّا أبوك فقد هجرته أحلامُ الملائكة وهداياهم. ولم يعد في مناماتي إلّا شياطين عوراء تقدّم الهموم وصور الدماء.
طيراني اليوم إمعانٌ في الغرق، واِنغراس في القاع؛ قاع بشريّة لا تشي بالبهجة أبدًا. دهاليز انزلاقها معتمةٌ موحشة.
أصحو حزينًا في دهليز تصحو فيه ضباعٌ تحكمها غريزة القوت، تنهش لحمي وتلعق العظام... أستيقظ فزعًا لرؤية آلة عمياء لا تفقه لُعب الصغار، وقد باغتتهم بهداياها الفولاذيّة فصبغتهم بدخان ودم... فأجمع قواي المنهارة، وأتلمّس أحلامكم المحلّقة بجواري. فأَسعدُ حزينًا لأنّ هناك أجنحةً وأحلامًا سُلبت من أكفّ الملائكة، وقد كانوا في نصف تحليقة ومرح.
أحلم بيد طفل القوارير، ذي السبعة أعوام، وقد توسّعت شقوق شقائها حيث سقطتُ في إحداها. أصرخ مستغيثًا بذلك الطفل الكهل، فيضحك مقهقهًا، وعيناه دامعتان، والملائكة تحوم حوله تصارع أباليس الشقاء، وتريد أن ترجعَه ليحلّق في المساءات، التي تُسابق هزيعها الأخير، لينبشَ أفواه القمامات بحثًا عن قوارير التدوير، وبعض فتاتٍ يُسكت بها طفلٌ أمعاءَه الصارخة.
لم أعد أحلّق طائرًا يا ولدي. ويقضّ مضجع نومي حلم يفزعني؛ أراك وقد صرت طفل أفريقيا الأسمر، تناوشته الأمراض حتّى أثقلت جناحيه الضعيفين. والملائكة تحاول متألّمةً إسناد طيرانه. وحوله أبواه يسلّمان أجنحته المقلوعة لمخلّفات شركات الطمع الرأسماليّ، وينالهما منها سموم المخلفات... أهذي وأستطرد في انغراسي العميق في كبري، وأنت لا تفقه سوى لغة الطيران المحلّقة .
حبّات القمح ترعب أحلامي، شبح الخيام، ورياح الشتاء وصقيعه وهو يهب عطاياه بكرمٍ لمن سلبتهم الآلة العمياء المخلوقة من روح البشر أوطانهم. يهبهم وطنًا من برد، وأرضًا من رماد، وغدًا ملغومًا زرع الموت أرضه رصاصًا... فكيف ينبت القمح؟
تهبّ رياح إخالها صحراويّة، وكأنّي في ضيافة الجار الجاف كصحراء أرضه. فتغوي وتلغو بألسنتها المتعدّدة، وأُصاب بجنون الأرق بعيدًا عن منزلي الذي تناوله "ديناميت" العم نوبل الكريم... تتزاحم أوجاع انغراسي التي تزداد هولًا وأنا أُقارب عتبة دخولي العقد الثالث. يقطعها سيل هذيانيّ بنفَسِك الفزع الباسم وأنت تستيقظ من نومك ممسكًا بطرف بساطك الأبيض. عيناك تتبعان بسمة الملائكة وهي تودّعك فور انتهاء لعبتها معك... وتكرِّرُ سؤالك:
هل جرّبت الطيران أو ساعدك عليه أحد؟؟
لَعبٌ طَردِيّ
هذا الصباح تظهر الشمس على أطفال مدينتي يتسابقون بالعدّ والرهان على لعبتهم الجديدة.
عمر وغالب وعلي يتقدّمون السباق؛ العدد 2028 و 2015 و 2047. هذا هو الفارق الطفيف بين الأقران الثلاثة. لكنّ المفارقة أنّ أقلّ الأطفال جمعًا قد حصل على 1436 عبوّة رصاصة فارغة.
يجمعون في المساء العدد النهائيّ لسباقهم، فتمتلئ الأزقّة بصرير تلك اللعبة .
من بين اللاعبين وسيم (ابن طبيب الإغاثة في المدينة) الذي عاجلته رصاصة. ها هي عبوّتها الفارغة في يده الآن... مع فرحة وسيم بزيادة عدده في اللعب، حلّ الظلام مجلَّلًا بصرخات أمّه حال وداع مهيب للأب.
وكلّ صباح تفتح الشمسُ أبوابه، يزداد عدد لعبة الأطفال. وحين المساء، تفرّ الشمس من وجع النائحات، ويتناقص أفراد مدينتي.
اليمن