نجاح واكيم: اتفاق 17 أيّار 1983 : كيف أُسقِط وكيف نَحُول دون تكراره؟
01-06-2021

 

(ندوة رقميّة من تنظيم: حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان)

 

بتاريخ 16/5/2021 عقدتْ حملةُ مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان ندوةَ رقميّةً استضافت فيها الأستاذ نجاح واكيم، وذلك عشيّة الذكرى 38 لاتفاق العار بين الحكومة اللبنانيّة والعدوّ الإسرائيليّ. أدارت الحوارَ د. رانية المصري ورجاء جعفر من حملة المقاطعة. وبعد توجيه التحيّة إلى "أبطالنا في غزّة والقدس وكلِّ بقعة داخل الوطن المحتلّ،" وإلى "أهلنا الذين قهروا اليأسَ والنسيان،" أعطت المصري الكلمة لجعفر.

***

* رجاء جعفر: في حزيران 1982 شنّ العدوّ الإسرائيليّ حربًا شاملةً على لبنان، متذرّعًا بمحاولة اغتيال سفيره في لندن. وبعد حرب طويلة استطاع العدوُّ إجبارَ قوّات منظّمة التحرير على الخروج من لبنان، وهيّأ لانتخاب رئيسٍ لبنانيٍّ مُوالٍ له، هو بشير الجميّل، الذي اغتيل قبل أن يمارسَ مهامَّه في الرئاسة.

اتفاق 17 أيّار هو اتفاقُ "سلام" جرى التوصّلُ إليه في 17 أيّار (مايو) 1983 بين الحكومة اللبنانيّة والعدوّ. وقد جاء نتيجةً لمفاوضات بدأتْ بينهما بعيْد مجازر صبرا وشاتيلا، وتحديدًا في 28/9/1982، في منطقة خلدة، ثم في مستوطنة كريات شمونة شماليَّ فلسطين المحتلّة. ومن أبرز بنوده: 1) إلغاء حالة الحرب بين البلديْن. 2) الانسحاب الإسرائيليّ الكامل من لبنان خلال ثلاثة شهور. 3) إنشاء منطقة أمنيّة داخل الأراضي اللبنانيّة تتعهّد الحكومةُ اللبنانيّةُ بأن تنفِّذ ضمنَها ترتيباتٍ أمنيّةً متَّفقًا عليها في ملحقٍ خاصّ. 4) تكوين مكاتب اتصال بين البلديْن والتفاوض لعقد اتفاقيّاتٍ تجاريّة. 5) امتناع البلديْن كليْهما عن الدعاية المعادية للآخر. 6) إلغاء جميع المعاهدات التي تمنع تنفيذ أيّ بند في الاتفاق.

اجتمع المجلس النيابيّ يوميْ 13 و14 حزيران 1983 للنظر في الاتفاق، وذلك في حضور 72 نائبًا وغياب 19. وجاء التصويت كالآتي: 65 مع الاتفاق، 3 امتنعوا، واحد تحفّظ عنه، و2 عارضاه.

ترافقتْ هذه المفاوضات مع انتفاضةٍ شعبيّة، ومع مقاومةٍ وطنيّةٍ عسكريّةٍ كادت إحدى عمليّاتها أن تطولَ جولةً من جولات المفاوضات. آنذاك تمسّك رئيسُ الجمهورية، أمين الجميّل، وحكومتُه، بالاتفاق. ورفضتْه، في المقابل، "جبهةُ الإنقاذ الوطنيّ،" المدعومةُ من الحكم في سوريا ومن قوى المعارضة الفلسطينيّة.

في تلك الفترة أيضًا استُهدفت قواتُ المارينز الأميركيّة وقوّاتُ المظلّيّين الفرنسيّين، التي فقدت العشراتِ من جنودها. وتحت ضغط الرفض الشعبيّ والعمليّات العسكريّة، ألغى مجلسُ النوّاب اللبنانيّ الاتفاقَ بعد أقلّ من سنة على اعتماده، وبالتحديد في 5/3/1984.

اليوم ضيفُنا الأستاذ نجاح واكيم، أحدُ نائبيْن اثنيْن فقط عارضا الاتفاقَ المذكور. الأخ نجاح بقي نائبًا في البرلمان اللبنانيّ بين العاميْن 1972 و2000، ثم أسّس مع آخرين حركةَ الشعب، وهو اليوم رئيسُها. سنطرح عليه بعض الأسئلة عن اتفاق 17 أيّار، وكيف نَحُول دون تكراره، وسنتلقّى أسئلتَكم على الزووم وعلى صفحتيْ حملة المقاطعة وحركة الشعب.

***

* أستاذ نجاح، اتّفاق 17 أيّار نال موافقة 65 نائبًا. ولم يقتصر هؤلاء الموافقون على طائفةٍ دون أخرى. فما دلالةُ ذلك برأيك؟ وهل هناك علاقةٌ بين الطائفيّة السياسيّة والاستسلام للرعاية الأميركيّة؟

- بدايةً أتوجّه بالتحيّة إلى كلّ شعبنا في فلسطين: للرجال الذين يَقصفون بالصواريخ، للأطفال الذين يَضربون بالحجارة، للأمّهات والشابّات، للفتيان والشيوخ، ولكلّ فردٍ في فلسطين ينتفض الآن ضدّ العدوّ الصهيونيّ. أيضًا أوجّه تحيّةً إلى كلّ العرب، وإلى الشباب العربيّ خصوصًا، الذين ينظِّمون في مختلف الأقطار تحرّكاتٍ وأنشطةً دعمًا لشعبنا الفلسطينيّ.

في الردّ على الشقّ الأوّل من السؤال أقول: أصلًا لم تكن المفاوضاتُ بين لبنان و"إسرائيل،" بل بين الوفد الإسرائيليّ والوفد الأميركيّ. أما عن الوفد اللبنانيّ، فبعض أعضائه (...) كانوا موظّفين لدى المخابرات الأميركيّة. لم يُعتمد في تشكيل الوفد أيُّ توزيع طائفيّ، لكنّ أعضاءه جميعَهم كانوا يمثّلون الجانبَ الأميركيّ ويعملون بتوجيهات فيليب حبيب.

أمّا عن الشقّ الثاني من السؤال، فالجواب نعم. ذلك لأنّ هناك علاقةً قويّةً بين الطائفيّة السياسيّة وتمزيقِ المجتمع وإضعافِه وإضعافِ [الروح] الوطنيّة فيه، خصوصًا أنّ الجهةَ المهيمنة في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة، التي نظّمتْ ذلك العدوانَ الإسرائيليَّ سنة 1982، بمواكبة قوًى إقليميّةٍ عدّة. وأنا أذكر أنّه عندما حاولنا تنظيمَ أكبرِ عددٍ من النوّاب ليصوِّتوا ضدّ اتفاق 17 أيّار، كان مِن ضمن مَن حاورتُهم حوارًا شديدًا المرحوم صائب سلام، فتبيّن لي أنّه سيصوِّت معه لأنّ المملكةَ العربيّة السعوديّة كانت مع إبرامه!

* علامَ راهنتُما، أنت وزاهر الخطيب، حين عارضتما الاتفاق؟ هل كان عملُكما "انتحاريًّا،" علمًا أنّ المقاومة الوطنيّة لم تكن حتى ذلك التاريخ (أيّار/مايو 83) قد اقتربتْ ولو قليلًا من النصر، على الرغم من طردها العدوَّ من بيروت في أيلول 1982؟

- في الحقيقة أنّنا كنّا فقط نسجّل رفضًا، نقول "لا،" في الوقت الذي كانت تبدو فيه الصورةُ وكأنّ هناك عصرًا إسرائيليًّا بدأ ولن ينتهي. كان موقفُنا في مجلس النوّاب مشابهًا لموقف المقاومة في لحظاتها الأولى. هل يُسأَل الشبابُ والشابّاتُ الذين قاموا بعمليّاتٍ ضدّ "إسرائيل" في حينه: "علامَ راهنتم؟!" كانوا يقولون "لا" ويدفعون دمَهم ثمنًا لهذه الـ"لا،" ونحن أيضًا كنّا على استعدادٍ لندفع دمَنا ثمنًا لهذا الرفض. لم يكن لدينا رهانٌ على شيء. وكي أكون صادقًا لم تكن لدينا حساباتٌ تفيد أنّ "موازينَ القوى" ستتغيّر. كنّا، فقط، نرفض تكريسَ استسلام وطننا. ربّما كان رهانُنا الوحيد هو أنّ شعبَنا لن يقبل بجعل لبنان في قبضة "إسرائيل" وتحت إمرتها.

* اليوم، كيف يمكننا أن نؤسِّس على الاحتجاجات الشعبيّة المؤيِّدة لفلسطين من أجل تشكيل خطّةٍ سياسيّةٍ داخل لبنان؟ كيف نبني قدراتِنا الداخليّةَ في لبنان لنتفادى 17 أيّار جديدًا، وفي الوقت عينه كيف نستطيع جعلَ لبنان أقوى لنتمكّنَ من الدفاع عن أنفسنا ضدّ الصهيونيّة ولنتمكّنَ من الوقوف مع فلسطين بغية تحريرها كاملةً؟

- إذا نظرنا إلى السلطات القائمة في لبنان وفلسطين والوطن العربيّ، نسأل: هل هذه السلطات نابعةٌ من إرادة الشعب، أم أنّها تستند بوجودها إلى الاستعمار، وتحديدًا الولاايات المتحدة؟ التغيير في لبنان أو في فلسطين يجب أن يتخطّى الإطارَ المحلّيّ لأنّ معركتنا معركةُ تحرّرٍ قوميّ.

طبعًا هذا لا يعني أن "ننتظر" كي تشملَ عمليّةُ التغيير كلَّ الوطن العربيّ، بل علينا أن نفكّر كيف يُمْكننا استثمارُ رفض شعبنا للاستعمار ولكلِّ ما يمزِّق هذا الشعبَ من طائفيّةٍ وتخلّفٍ وسيطرةِ قوًى عميلة، ثمّ نغيّر هذه الأنظمة. إلامَ يستند محمود عبّاس؟ هل يستند إلى إرادة الشعب الفلسطينيّ؟ الحقيقة أنّ هذا الشعب في مقلب، وعبّاس في مقلبٍ آخر. التحدّي الآن هو أن يغيّر هذا الزخمُ الشعبيُّ الرائعُ هذه السلطةَ الفلسطينيّة، أن يعيدَ بناءَ منظّمة التحرير الفلسطينيّة كجزءٍ من حركة تحرّرٍ عربيّة. وهذا عمل يتطلّب جهدًا وفكرًا واسعيْن، ومثابرةً أيضًا.

 

نحن اليوم ذاهبون إلى ما هو أسوأ من 17 أيّار: الخضوع الكامل للولايات المتحدة!

 

أمّا في لبنان، فليست لدينا ضمانةٌ سوى أن يكون لدينا نظامٌ قويّ، لا نظامٌ يستند إلى موازين قوًى خارجيّة. نحن اليوم ذاهبون إلى ما هو أسوأ من 17 أيّار: الخضوع الكامل للولايات المتحدة. إذًا يجب أن نعمل من أجل التغيير في لبنان لبناء نظامٍ وطنيّ، ولتفعيل طاقات الشعب اللبنانيّ لجعل وطننا قويًّا.

لبنان في حالةٍ لا توصف من الضعف. الأخطار المحيقة به كثيرة. كلُّ مفاصل لبنان في قبضة أميركا: من جيش، وقطاعٍ مصرفيّ، وإدارةٍ، وهيئاتِ مجتمعٍ مدنيّ، وقضاءٍ، وسلطة. في السلطة طرفٌ واحدٌ فقط يقول لا [لأميركا]، هو حزبُ الله.

الخلاصة: علينا في لبنان أن نعملَ من أجل قيام سلطةٍ وطنيّةٍ تؤمِّن رغيفَ الخبز للمواطن، وتحرِّر لبنانَ من الإفلاس والارتهان لأيّ قوّةٍ خارجيّة قد تضعنا تحت الهيمنة الإسرائيليّة كما جرى قبل 17 أيّار.

* كيف تنظر الى ترسيم الحدود بين الدولة اللبنانيّة وكيانِ العدوّ اليوم؟ هل تعتقد أنّه تمهيدٌ لاتفاق سلام برعايةٍ أميركيّةٍ جديدة؟ وهل ترى أنّ على لبنان خوضَ هذا المجال لكي يحفظَ حقَّه، أمْ أنّ ما يجري هو بمثابة تهديدٍ أميركيٍّ للسياسيّين الحاكمين لإلزامهم بالتفاوض وإلّا حُجزتْ أموالُهم في الخارج وفُضِحوا؟

- تريد أميركا اليومَ أن تكرِّر مفاوضات 17 أيّار، أيْ تريد هي نفسُها أن تفاوضَ "إسرائيل"! الغاية من هذه المفاوضات، في جانبٍ منها، أنّ أميركا تريدها مدخلًا إلى مفاوضاتٍ أشمل مع لبنان. ومَن يعلم ما دار في الكواليس، من تشكيل الوفد اللبنانيّ وغيرِ ذلك، يعلم أنّ الأميركيّين هذه المرّةَ أيضًا يسعوْن إلى 17 أيّار جديد. السؤال: هل يجب أن نفاوض؟

في رأيي يجب أن نبني قوّتَنا. وما زلتُ مستغربًا لماذا لم يوقّعْ رئيسُ الجمهورية المرسوم 6433. أظنّ أنّ هناك استعدادًا [لبنانيًّا رسميًّا] للتنازل [أمام العدوّ]. ليس لديّ تفسيرٌ آخر. لكنّنا لا نستطيع أن نفاوضَ العدوّ بطبقةٍ سياسيّةٍ مرتهَنةٍ للولايات المتحدة ثمّ نتوخّى بعد ذلك نتائجَ لمصلحة وطننا! يجب أن نبني القوّة، ونفكّر كيف نوحِّد بلدَنا وكيف نُخرجُه من أزمته، مِن غرقِه في الديون والفقر والتمزّق. نحن الآن ذاهبون إلى التفاوض مع العدوّ ونحن ضعفاء. عندما تستطيع السلطة أن تستعيدَ أموالَ الناس المنهوبة وأن تقبضَ على اللصوص، فسأستطيع القولَ عندها إنّ هناك إعادةَ بناءٍ للقوّة اللبنانيّة، وبعد ذلك نرى إنْ كان من الأفضل لنا أن نفاوض.

من الملاحَظ أنّ الداعين إلى التفاوض هم الذين يَدْعون إلى إسقاط المقاومة. هؤلاء لا يريدون المقاومة، ويريدون التفاوضَ مع "إسرائيل." غير أنّ التفاوض بين الدول يتمّ وفقًا لموازين قوًى [متكافئة]. فكيف نُسقط المقاومةَ التي تشكل القوّةَ الرادعةَ للعدو، ثمّ نطالِبُ بالتفاوض؟! أنا لستُ مع التفاوض في أيٍّ من المجالات؛ لكنْ في ما يتعلّق بموضوع النفط تحديدًا فإنّي لا أثق بالأميركان. المسألة تحتاج مقاربةً مختلفةً في موضوع ترسيم الحدود. أكرّر: المسألة تبدأ ببناء القوّة في لبنان لنكون قادرين على مفاوضة العدوّ.

* لكنْ كيف نبني قوّتنا في لبنان، أستاذ نجاح؟ وما هو دورُنا كمواطنين غاضبين ممّا يحدث لكي نتمكّن من أن نكون قوّةً تردع العدوّ، بل تحمي فلسطينَ منه أيضًا؟

- في لبنان سقط النظامُ السياسيّ، ومؤسّساتُ الدولة الدستوريّة ماتت، والبلدُ على شفير الموت. من هنا، فإنّنا في "تجمّع نداء لبنان،" مع حلفاءَ لنا من أحزابٍ وشخصيّاتٍ وفعّاليّات، سنعقد مؤتمرًا [تعليق الآداب: عُقد فعلًا يومَ الأحد في 30 أيّار] نعلن فيه قيامَ جبهةٍ وطنيّةٍ لإعادة بناء المجتمع والدولة في لبنان.

لا شكّ في أنّنا شهدنا في السنتيْن الأخيرتيْن فورةَ النقمة لدى الناس. غير أنّ هذه الفورة تتبدّد لأنّها أدّت غرضَها وكانت تعبيرًا عن الرفض. لكنّ مشاكل الناس لم تُحلّ. إذًا، كي لا تتحوّلَ هذه النقمةُ إلى تمزّقٍ أو ضياع، يجب أن تُصبَّ كطاقةٍ في إعادة إنتاج نظام سياسيّ وطنيّ لاطائفيّ جديد، يُعاد من خلاله بناءُ مؤسّسات الدولة. عندها نصبح أقوياء. لذلك أتمنّى مواكبتَنا في مؤتمر الإعلان عن الجبهة التي تخوض مشروعَ إعادة بناء الدولة في لبنان.

أخيرًا أقول: نستطيع أن نكون أقوياء. فبقسمٍ صغيرٍ من شعبنا اللبنانيّ، وبمقاومةٍ ذاتِ قدراتٍ أقلّ بكثيرٍ من قدرات الدولة، استطعنا أن نردعَ "إسرائيل." وها هو الشعبُ الفلسطينيّ العظيم يحقِّق الإنجازات، على الرغم من الفارق الهائل في ميزان القوى مع العدوّ الصهيونيّ. اذا سلكنا السلوكَ السليمَ لإنتاج دولةٍ وطنيّةٍ حديثة، فسنكون أقوياء. وساعتئذٍ لا "إسرائيل" ولا أميركا ولا غيرها سيَقْدر علينا. فلنأخذْ نموذجَ كوبا: سقط العالم وظلّت كوبا على مرمى حجر من شرقيّ التنّين الأميركيّ، ولم يستطيعوا إسقاطها.

* ما هي قراءتك لمواقف القوى السياسيّة في لبنان من ترسيم الحدود، وضمنَها تصريحُ السيّد حسن نصر الله الأخير؟

- في لبنان كثيرٌ من القوى والتشكيلات، وأنا عبّرتُ في ما ذكرتُ سابقًا عن موقفنا في "حركة الشعب." أمّا عن موقف السيّد نصر الله، ففي اعتقادي أنّه تكلّم بطريقةٍ ذكيّةٍ جدًّا، حين قال إنّ مَن يحدِّد مسألةَ ترسيم الحدود هو الدولة، وإنّ [المقاومة] ستحمي ما تتوصّل إليه الدولة، ولكنّه لم يقل - وأمرٌ طبيعيٌّ أن لا يقول – إنّ المقاومة موجودة أيضًا لكي تمنعَ الدولةَ (بقواها السياسيّة الحاليّة) من "البصم" على أيّ شي. [المقاومة] تمنع [الدولةَ] من الاستسلام والانهيار. كان كلامُه دقيقًا ومدروسًا؛ فلو قال إنّ المقاومة هي مَن يقرِّر، لقامت قيامةُ خصومه. كلامُه دقيق، لكنّه لا يعبّر عن كامل موقفه.

* سؤال أخير من حملة المقاطعة: إذا نظرنا إلى التطبيع مِن حولنا، خصوصًا من قِبل دول الخليج، فكيف ينعكس علينا ذلك في لبنان؟ كيف باستطاعتنا تفاديه وبناءُ وضوحٍ أقوى في العداء مع العدوّ؟ هناك من يقول إنّ ما بيننا وبين هذا العدوّ ليس عداءً "إيديولوجيًّا،" بل يقتصر على احتلال جزءٍ من الأرض.

- أحيّي جهودَ حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان. عملُكم رائعٌ جدًّا، ويؤثِّر في مسار الأحداث أكثرَ ممّا قد تظنّون أنتم أنفسُكم.

السلطات القائمة في الإمارات وفلسطين ولبنان وكثير من الأقطار الأخرى لا تقوم على إرادة شعبها، وإنّما على التبعيّة للولايات المتحدة. الرئيس ترامب نفسُه قال لملك السعوديّة: "أيّها الملك، نحن نحميكَ. قد لا تبقى [في الحُكم] أسبوعيْن من دوننا..."[1] وفي رأيي أنّ ما يقوله ترامب صحيح، بل قد يسقط ذلك الملكُ في أقلّ من أسبوعيْن من دون الدعم الأميركيّ؛ وهذا الأمر عينُه ينطبق على حكّام الإمارات وغيرِها.

في موضوع التطبيع تحديدًا، أميركا و"إسرائيل" تعملان بقوّةٍ وجهدٍ وذكاءٍ على إدخال الأخيرة في نسيج المنطقة. ولذلك تعملان على تحويل الدول الوطنيّة إلى دولٍ إثنيّةٍ وطائفيّة. من هنا عندما يُحكى عن حربٍ أهليّةٍ في لبنان، وعن حربٍ كونيّةٍ على سوريا، فالهدف تمزيقُ كلّ المنطقة. إدخالُ "إسرائيل" لتكون مقبولةً لدى الشعب العربيّ: هذا ما يسمّونه تطبيعًا. لكنْ، كما تعرفون، حين حصلتْ أوّلُ عمليّة "سلام" في مصر، صفّق أناسٌ لها، وظنّوا أنّها ستَحقن الدماء، وأنّها ستؤدّي إلى التنمية بدلًا من صرف المال على شراء السلاح. ثم تبيّن لهؤلاء، بسرعة، أنّ تلك العمليّة أدّت إلى إضعاف مصر، وفاقمتْ في إفقار شعب مصر. مع مصر لم ينجح التطبيع.

أمّا اتفاق 17 أيّار فكان هناك متحمِّسون له، ولكنّه لم ينجح هو الآخر. حتى مشروع "صفقة القرن" لن ينجح، لأنّ الشعب الفلسطينيّ يرفضه. إذًا، لا يكفي قبولُ السلطات بالتطبيع كي ينجح، بل يجب أن يتقبّلَه الشعب. وهنا تكمن أهمّيّةُ مقاومة التطبيع في لبنان. وجميع المنظّمات المشابهة لحملتكم في لبنان لا يقتصر دورُها على الجوانب التجاريّة [المقصود مقاطعة الشركات الداعمة للكيان الصهيونيّ]، وإنّما يتعدّاه إلى خلق وعيٍ لدى شعبنا لرفض التطبيع.

انا أرى أنْ لا أثرَ للتطبيع مع الشعب المصريّ، على الرغم من معاهدة "السلام" في مصر. وأتوقّع أن يحدث الأمرُ عينُه في باقي الدول. وهنا ألفتُ النظرَ إلى موقف نقابة أطبّاء مصر، وإلى مظاهرات الأردن. وكلُّ ذلك يبيّن أنّ السلطات في وادٍ، والشعوبَ في وادٍ آخر. وهذا ما يحصل في فلسطين أيضًا.

* سؤال من ابتسام سلام: نحن [في لبنان] متّجهون نحو الظلام التامّ...

- ما وصلنا إليه في لبنان بدأ التخطيطُ له منذ العام 1992، وأعني الاستدانة من أجل إيصاله إلى الإفلاس. مؤسّسة الكهرباء، مثلًا، كانت مؤسّسةً رابحة، ثم أُغرقتْ بالفساد. هذه كلّها ضغوطٌ على الشعب اللبنانيّ من أجل الإذعان. الآن يضعنا الأميركان أمام خياريْن: إمّا التفاوض مع "إسرائيل" وسحبُ سلاح المقاومة، وإمّا العتمةُ والجوع! وهناك مَن يروّج ذلك. ولهؤلاء أقول إنّ أكثر ما يضرُّ لبنان هو التوقيعُ مع "إسرائيل." هذا الأمر سيزيل لبنان.

لدينا سبلٌ كثيرةٌ لتحسين أوضاعنا لو لم نكن تحت الضغط الأميركيّ المستمرّ والتهديد بهدف دفعنا إلى الرضوخ. من هنا لا نستغرب عجزَ الدولة عن محاربة الفساد. فهل يُعقل أنّ الدولة برمّتها لا تستطيع عزلَ [حاكم مصرف لبنان] رياض سلامة؟ سلامة هو الذي هندس فسادَ [الحكّام]، والسفيرة الأمريكية تهدّدهم بكلّ الملفات. أميركا تقول لنا إمّا أن نميتَكم جوعًا أو تنتحروا. دعونا نرفض ذلك. فلنقلْ لأميركا: لا نريد أن نموتَ جوعًا ولا أن ننتحر! علينا هنا أن نقيمَ مشروعَنا الوطنيّ في مواجهة المشروع الأميركيّ-الصهيونيّ-السعوديّ، وذلك بالتكامل مع سوريا. مَن فَرض الإغلاقَ على سوريا، فقد فرضه على لبنان بالدرجة الأولى.

* سؤال من مصطفى حاج حسن: ما هي الجبهة التي تحدّثتَ عنها؟ وما رؤيتُها لتقوية لبنان من الداخل ولتمكيننا من تحرير فلسطين؟

- غالبُ أطراف الجبهة شخصيّاتٌ وطنيّة، ومثقّفون، ونقابيّون. أمّا عن الأحزاب، فمعنا الرفاقُ في الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ. الأسماء ستعلن في المؤتمر يوم الأحد [تعليق الآداب: تحدّث في المؤتمر حسن مقلّد، وغسّان الشامي، وفادي الأعور، وعدنان السيّد حسين، وعبد الرحمن البزري، وتمّوز قنيزح، وهاني فيّاض، وآخرون].

عدنان فقيه يسأل: ما هي المعادلة التي فرضتْها المقاومةُ الفلسطينيّةُ في الجولة الحاليّة من الحرب القائمة ضدّ العدوّ الصهيونيّ؟

- لو أردنا أن نسمعَ ما قيل عن عدوان لبنان عام 2006 لسمعنا أنّنا "خسرنا الكثيرَ من البنى التحتيّة" وأنّ "الإنجازات التي حقّقناها في حينه لا تُقاس بالخسائر التي تكبّدناها." هذه المقولات عند الأبرياء تُعتبر غباءً، ولكنّها عند المغْرضين تُعدّ نجاسةً! المقاومة في رأيي حقّقتْ أهمَّ إنجازٍ لها في حرب تمّوز 2006، وهو سلبُ العدوّ قدرتَه على شنّ الحرب من جديد.

إذا راجعنا التاريخَ وجدنا أنّه كلّما قامت ظاهرةٌ وطنيّةٌ في الوطن العربيّ - وأبرزُ هذه الظواهر جمال عبد الناصر - كانت وظيفةُ "إسرائيل" لدى الغرب الاستعماريّ أن تشنّ حربًا وتكسرَها. في عدوان 2006 فشلت الآلةُ العسكريّةُ الإسرائيليّة، ولم تعد قدرةُ "إسرائيل" على شنّ الحرب وتحقيقِ نتائج سياسيّة أمرًا متاحًا. في فلسطين، وعد العدوُّ الصهيونيّ المستوطنين بالاستقرار والأمان والرفاهية، فأخفق في تحقيق وعده. ثمّ ظنّ أنّه، بالتنسيق الأمنيّ مع محمود عبّاس، سيوفّر ذلك، فأخفق هنا أيضًا، على ما تجلّى في الأيّام الأخيرة.

أمّا مقارنةُ عدد قتلى العدوّ بعدد شهداءِ فلسطين، فغيرُ مجْدية. في الحرب العالميّة الثانية تكبّد الاتحادُ السوفياتيّ ضحايا تفوق ضحايا ألمانيا عددًا، ومع ذلك فقد كان هو الذي انتصر.

* أحمد حمود يسأل: هل الانكماش الاقتصاديّ في أميركا، وسحبُ قواتها من مناطق الصراع، ومشاكلُها الداخلية، تبشِّر جميعُها بانحدار قوّتها وانحسارِ دورها الخارجيّ؟ وهل يمكن أن تتخلّى أميركا عن "إسرائيل" بسبب إصرار الأخيرة على التصعيد في المنطقة؟

- أميركا لن تتخلّى عن "إسرائيل." لا شيء اسمُه "إسرائيل،" بل احتلالٌ أميركيٌّ في هذه المنطقة لبقعةٍ استراتيجيّةٍ اسمُها "إسرائيل." وسوف يستمرّ دعمُ أميركا لها في المدى المنظور.

عند انهيار الاتحاد السوفياتيّ، وضعت الولاياتُ المتحدة هدفًا استراتيجيًّا للسيطرة على العالم، وحدّدتْ لنفسها ثلاثةَ ميادين، لكلّ ميدانٍ مهلةُ عشر سنوات.

الميدان الأول شرق أوروبا، وقد انتهى العملُ عليه سنة 2002. ففي قضيّة كوسوفو دخلت الولاياتُ المتحدة شرقَ أوروبا بسلاسة، كما تدخل السكّينُ في الجبنة.

الميدان الثاني، أثناء السنوات العشر الثانية، كان الشرقَ الأوسط. بدأ العملُ فيه بغزو العراق [سنة 2003] وتدميرِه. ثم انتقل إلى سوريا، ولبنان، وليبيا، والسودان، واليمن، فإيران. هذه الخطة حقّقتْ نجاحاتٍ كثيرة، لكنّها "علِقتْ" في موضوع سوريا، التي كانت في الحرب الكونيّة التي شُنّت عليها بمثابة ستالينغراد في الحرب العالميّة الثانية. في موضوع الشرق الأوسط، كان تقديرُ الأميركان أنّهم سينتهون مِن خطّتهم فيه سنة 2012، لكنّهم لم ينجحوا، وها قد أصبحنا في سنة 2021، وأميركا مستعجلة على بحر الصين والشرق الأقصى. ارتباكُها في الشرق الأوسط أتاح انتعاشَ قوّتيْن عالميّتيْن: روسيا التي خرجتْ من خلف الستارة الحديديّة إلى العالميّة عبر البوّابة السوريّة، والصين. في هذا الوقت، الحلف الصينيّ-الروسيّ استراتيجيّ، وهو حلفٌ عسكريّ، لا اقتصاديّ وسياسيّ فحسب.

سنة 2008 نشبت الأزمةُ الاقتصاديّةُ للرأسماليّة العالميّة، فعمدتْ أميركا إلى حلّها عن طريق عائداتها في جنوب شرق آسيا. وهنا نأتي إلى الميدان الثالث. الصين الآن تهدِّد هذه الاستثمارات، وأميركا باتت مجبَرةً على خوض الصراع في الشرق الأقصى. فما الذي سوف يحصل؟ تمنّياتي يعرفها الجميع. أمّا عن توقعاتي، فالقرن الحادي والعشرون لن يكون قرنًا أميركيًّا، وسوف يكون هناك تراجعٌ دراماتيكيّ في مكانة الولايات المتحدة عالميًّا. دعونا ننظر باتجاه قوّتين كُبرييْن من مصلحتنا أن يكون لدينا تعاونٌ معهما: روسيا والصين. ويجب ألّا ننسى إيران.

يجب أن تكون لدينا سلطاتٌ قادرةٌ على أخذ قراراتها الوطنيّة بنفسها. لكنّنا نفتقد إلى مثل هذه السلطات في الوطن العربيّ.

* "في لبنان لا إجماعٌ في مسألة العدوّ الصهيونيّ، ولا تاريخٌ موحّد." يسأل أنيس جرماني: "كيف يمْكننا خلقُ هذا الاجماع لدى الشعب بوجودنا وفعّاليتنا وآرائنا؟"

- ليس مفاجئًا أن يكون في لبنان أشخاصٌ مع العدوّ، ولكنّنا غيرُ مسلِّمين بهذا الشيء. عندما احتّلت ألمانيا فرنسا، كانت هناك قطاعاتٌ واسعةٌ من الشعب والقوى السياسيّة في فرنسا مع الألمان. لا مكان في العالم يُجْمع فيه كلُّ الناس على المقاومة. لا أجد غيابَ الإجماع أمرًا مخيفًا. إنّه أمرٌ مؤلم، لكنّه غيرُ مخيف. في لبنان تشويهٌ للوعي. تاريخُنا مليء بالأكاذيب. "أبطال الاستقلال" تاريخُهم معيب. أمّا الابطال الحقيقيّون فلا أحدَ يعرفهم. أنصح هنا بقراءة كتاب اسمه المتاهة اللبنانيّة.[2] يتكلّم هذا الكتاب عن زعماءِ لبنان وعلاقتِهم بالحركة الصهيونيّة. ستعرفون عن هؤلاء حقائقَ مرعبة من هذا الكتاب. أمّا أبطالٌ كأنطون سعادة، فلا يأتي ذكرُهم [بين الأبطال]؛ يقولون إنّه "قام بانقلاب،" ولا يذكرون أنّه كان يقف في وجه سايكس-بيكو. أنطون سعادة، في نظري، وهو ميّت، ما يزال حيًّا أكثرَ من جميع زعماء لبنان الذين يَذْكرهم "التاريخ."

علينا أن نعمل على توعية شعبنا ومدِّه بالحقائق. الإعلام يلعب دورًا سيّئًا في هذا المجال، وكذلك تفعل كتبُ التاريخ أيضًا. بقدرِ ما نستطيع خلقَ وعيٍ بديلٍ لدى شعبنا، نستطيع أن نقوّي موقعَنا في مجابهة العدو ونسلبَ هؤلاء الزعماء َالتافهين عدّةَ الفتنة التي يملكونها، ألا وهي التعصّبُ عند الناس.

* سؤال من إيلي مراد: ألا تظن أنّ جمال عبد الناصر كان هدفُه مثلَ هدف ياسر عرفات في لبنان؟ وسؤال ثانٍ: أليس حزبُ الله وحركة أمل من رموز مقاومة العدوّ الصهيونيّ، فلماذا قبلا بترسيم الحدود [البحريّة مع الكيان الصهيونيّ]؟

- في ما يتعلق بالسؤال الأول، حرامٌ ذكرُ هذيْن الاسميْن مقترنيْن! بالنسبة إليّ، كلّما أردتُ اتِّخاذَ موقفٍ من مسألةٍ معيّنة، أطرحُ على نفسي سؤالًا: "كيف كان جمال عبد الناصر سيتصرّف؟" ثم أتّخذُ الموقفَ الذي أعتقد أنّه كان سيتّخذه. أمّا ياسر عرفات، فرأيي فيه لا يختلف كثيرًا عن رأيي في محمود عبّاس!

عن السؤال الثاني أجيب: لماذا لا يوجَّه هذا السؤالُ إلى حزب الله؟ هل قبِل بالتنازلات؟ لا أستطيع أن أقولَ ذلك ما لم يحصلْ هذا التنازلُ فعلًا. حزبُ الله ترك الأمرَ في يد الدولة، وأرى أنّه يناور في السياسة، وأثِقُ بمناورته في هذه المسألة.

* سؤال من أستاذ ستان عن لبنان في أوائل الثمانينيّات، ما هي الكتب والأفلام الوثائقيّة التي تنصح بقراءتها لمعرفة الحقائق عن تلك المرحلة؟

- في الحقيقة لستُ بقارئٍ نهم، وإنْ قرأتُ الكثير من الكتب عن هذه المرحلة. الدكتور سماح إدريس يمكن أن يفيدَكم أكثرَ منّي في هذا المجال. لكنْ أقول: صدرتْ كتبٌ كثيرةٌ عن تلك المرحلة؛ مثلًا كتاب الضوء الأصفر لعبدالله بوحبيب. ومقدّمة كتابي الأيادي السود تأتي على هذه المرحلة بشكلٍ دقيق، وأنصح بقراءتها. قرأتُ كتبًا كثيرة نسيتُ عناوينها، لذا لا أستطيع تقديمَ النصح الكثير في هذا المجال.

* د. ماهر فقيه يسأل: ما سرّ نجاح المقاومة الإسلاميّة في لبنان وفي فلسطين من وجهة نظركم؟ وكيف نقوم بواجبنا في دعم محور المقاومة مدنيًّا؟ وكيف تقوِّم تجربة حملة المقاطعة في لبنان؟

- حقّقت المقاومةُ الإسلاميّة نجاحاتٍ أشرتُ إليها مرارًا: من التحرير عام 2000، إلى صدّ عدوان 2006. ولكنْ لنتذكّرْ قولًا للسيّد نصر الله: لا مقاومةَ تبدأ من فراغ أو تنتهي إلى فراغ. المقاومة الحاليّة قامت بعد مقاوماتٍ متعدّدةِ الأشكال والأسماء، حتى قبل العام 1967. والمقاومة واحدة في لبنان وفلسطين والدول العربيّة؛ لا بل نرى أنّ التعاون وتكاملَ الأداء بين كلّ حركات المقاومة ضدّ الإمبرياليّة في العالم من أسباب نجاح المقاومة الإسلاميّة. لا تستطيع أيُّ مقاومة تحقيقَ انتصارات من دون معرفة قراءة عالمها ومعرفة الجهات التي يمكن التعاونُ معها. وهنا نرى التكاملَ بين المقاومة الإسلاميّة في لبنان، وسوريا، والجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة. هذا التكامل كان عاملًا أساسيًّا جدًّا في تقوية المقاومة في لبنان.

نحن ننظر دائمًا إلى الجانب العسكريّ في المقاومة، وهو جانبٌ مهمٌّ بالتأكيد. ولكنْ لا تستطيع أيُّ مقاومة أن تنجح من دون احتضان شعبها لها، ومن دون أن تواكبَها "مقاوماتٌ" في مجالاتٍ أخرى، مثل مقاومة التطبيع والمقاومة بالكلمة والثقافة. وهذا ما تفعله حملةُ المقاطعة في لبنان.

* سؤال من نديم عبدالله: برأيك هل ثمّة احتمالٌ للعودة إلى الحرب الأهليّة في لبنان؟

- نعم للأسف يوجد هذا الاحتمال، وذلك لسببيْن: السبب الأوّل هو وجودُ قوًى دوليّةٍ ذاتِ مصلحةٍ في جرّ لبنان إلى هذه الحرب، وأبرزُ هذه القوى الدوليّة هي الولايات المتحدة. لكنّ أميركا لا تستطيع أن تفتعل حربًا أهليّةً ما لم يكن وضعُنا مأزومًا في الداخل أصلًا؛ وهذا هو السبب الثاني. الاصطفافات القائمة على العصبيّات، وطائفيّةُ النظام التي تتحوّل إلى طائفيّةِ شعب، والدورُ السيّئ الذي يلعبه معظمُ رجال الدين ومعظمُ المرجعيّات الروحيّة: كلُّها عواملُ تمكِّن أصحابَ المخطّط من استخدامها أدواتٍ تنفيذيّةً.

السؤال الآن: هل هذا محتوم؟ الجواب: لا. والسبب هو وجودُ قوًى في الداخل والخارج لا مصلحةَ لديها في أن تنشب حربٌ أهليّةٌ في لبنان. على سبيل المثال، أكثرَ من مرّة في العام 2020، تدخّلتْ روسيا بقوّةٍ من خلف الستار لتحذير أميركا من جرّ لبنان إلى حربٍ أهليّة. وفي الداخل توجد قوًى كثيرة ضد الانجرار إلى هذه الحرب. المهمّ الآن، ماذا نفعل نحن للحؤول دون نشوبها؟

هنا أرى أهميّةَ قيام الجبهة الوطنيّة التي تحدّثتُ عنها، وأهمّيّةُ حملِها مشروعًا وطنيًّا لبناء الدولة والمجتمع والوطن. بقدْرِ ما نسرِّع في وتيرة تأسيس هذه الجبهة، نُسهم في إبعاد لبنان عن الوقوع في الحرب الأهليّة. وبقدْرِ ما نجابه أميركا وأدواتِها ومشروعَها، نُبْطل إمكانيّة نشوبها.

* سؤال من جنى الاحمر: ألا تعتقد أنّ ما يجبر حزبَ الله على هذا النوع من "المناورات" هو غيابُ تبنّيه مشروعًا سياسيًّا واضحًا؟

- في العمل السياسيّ توجد استراتيجيّة، ويوجد تكتيكٌ أو ما يسمّونه "مناورة." ما يملي المناورةَ هو عدّةُ ظروف متشابكة. المسألة ليست غيابَ مشروع سياسيّ، ولا علاقة لها بذلك.

سؤال من باسمة قبيسي: هل تعتقد أنّ المقاومة الإسلاميّة في لبنان استطاعت أن تحقّقَ نجاحًا في كلّ المجالات الثقافيّة والإعلاميّة والفنّيّة والاجتماعيّة التي على أيّ حركةٍ تحرّريّةٍ أن تنجحَ فيها؟

- هناك مجالات كثيرة لم تنجح المقاومةُ الإسلاميّةُ فيها. نحن والإخوة في المقاومة حلفاء، وعندما نلتقي ينتقد بعضُنا بعضًا، وهذا طبيعيّ. إنّما نحن متّفقون في الموضوع الأساس: مواجهة المشروع الأميركيّ-الصهيونيّ.

في رأيي لا حركة تحرّر جدّيّة في العالم، بل لا دولة متقدّمة حقًّا، إلّا وتُقْدِم على مراجعة النجاحات والإخفاقات وتقويمِ مسيرتها. لا عمل من دون إخفاقات. وأستطيع أن أقول عن المجالات التي ذكرتْها السيّدة في السؤال: نعم توجد أخطاءٌ كثيرةٌ لدى المقاومة. مثلًا ألفت النظر إلى أنّ تعاطيَها مع مسألة 17 تشرين [انتفاضة الشارع اللبنانيّ في 17/10/2019] لم يكن موفّقًا. ولكنّ هذا لا يعني أنّ المقاومة ليست "جيّدة." المقاومة مستهدَفة لأنّها ضدّ المشروع الأميركيّ-الصهيونيّ، ولن نقفَ ضدّها مع أعدائها، الذين هم أعداؤنا أيضًا وأعداءُ وطننا، بسبب بعض الأخطاء. أرى أنّ المقاومة الإسلاميّة، وإن ارتكبتْ أخطاءً في مجالاتٍ عدّة، فإنّها لم ترتكب الخطيئة. المسألة، في رأيي، هي: إمّا إن نكونَ مع وطننا، وإمّا أن نكون مع المشروع الأميركيّ-الصهيونيّ. وفي هذه المسألة لا يستطيع أحدٌ "التعليمَ" [المزايدةَ] على المقاومة.

* توضيحًا للسؤال كان المقصود فقط التركيز على عدم وجود كفاءة لدى المقاومة في إدارة ملفّاتٍ أخرى، ثقافيّةٍ وإعلاميّةٍ وغيرِ ذلك. السؤال الآن من إيلي مراد: لماذا تَعتبر "إسرائيلَ" وحدها عدوّةَ لبنان، بينما هناك عددٌ من الدول المجاورة للبنان مثل سوريا وحتى فلسطين من خلال ياسر عرفات؟ ولماذا لا تعتبر السلاحَ الفلسطينيّ المتفلّت في لبنان إرهابيًّا ويجب أن يُلغى، مثلما ألغي الوجودُ الصهيونيُّ في لبنان؟

- مع احترامي للسيّد مراد الذي يقول إنّ "الوجود الصهيوني ألغي في لبنان" أقول إنني أشتمّ رائحةَ وجودٍ صهيونيٍّ في سؤاله بالذات! أرجو عدمَ المؤاخذة، ولكنْ كيف نحدِّد العدوّ؟ أقول للأستاذ مراد: سوريا كانت في لبنان بين العاميْن 1975 و2005، وكنتُ خلال كلّ تلك السنوات (30 سنة) معارضًا لسياساتها في لبنان، لا سرًّا وإنّما في العلن. ولكنّني لم أكن، ولن أكون، معارضًا للوطن السوريّ لأنّه وطنُنا! أمّا كل الذين يطالبون بـ"السيادة" اليوم، فقد كانوا مع سياسات سوريا في حينه.

أمّا في ما يتعلّق بالسلاح الفلسطينيّ، فما أقوله ينطبق على سلاح المقاومة [الوطنيّة اللبنانيّة]، وهو: قبل أن نَعتبرَ هذا السلاحَ علّةً، علينا أن نبحث عن أساس العلّة. فعندما تتخلّى الدولةُ عن أهمّ واجباتها، وهو الدفاعُ عن الوطن، فإنّها لا تستطيع منعَ الشعب من الدفاع عن نفسه.

هنا أذكّر بواقعةٍ حصلتْ في أوائل عهد الرئيس سليمان فرنجيّة. فقد ذهب إليه قادةٌ فلسطينيّون، وقالوا له إنّ شعبَهم يُقصف ويُقتل، فأجابهم بأنّ الدولة اللبنانيّة لا تستطيع الدفاعَ عنهم، ودعاهم إلى جلب السلاح والدفاع عن أنفسهم. المقاومة في لبنان، سواء كانت فلسطينيّةً أو لبنانيّة، وبكلّ مسمَّياتها، قامت وتكاثرتْ بسبب تخلّي الدولة اللبنانيّة عن واجب الدفاع عن الوطن. برأيكَ يا أستاذ مراد، أيُّ سلاح هو السلاح المتفلّت؟ قلّما نسمع حديثًا عن السلاح الذي يَظهر في الأعراس، واحتفالاتِ النجاح، والمشاكلِ الفرديّة. فقط نسمع حديثًا عن سلاح المقاومة، الذي يعتبرونه متفلّتًا، علمًا أنّه سلاحٌ غير مرئيّ؛ فهو ليس بندقيّةَ كلاشنكوف، وإنّما صواريخَ [مخبّأةً استعدادًا لمواجهة العدوّ].

أنا مع أن تحتكرَ الدولةُ قرارَ الحرب والسلم، ولكنْ يجب أن تكونَ هناك دولةٌ أوّلًا. في لبنان لا دولةَ لدينا. "الدولة" اللبنانيّة لا تملك الحقَّ في أن تجلبَ خرطوشًا للبواريد إلّا بإذنٍ أميركيّ. وعندما يُعرض على لبنان سلاحٌ من جهاتٍ أخرى في العالم، تَرفض "دولتُه" ذلك! حتى الهدايا ممنوعٌ قبولُها. وفي المقابل، عندما تَحْضر طائرةُ توكانو قديمةٌ ومهترئةٌ من أيّام الحرب العالميّة الثانية إلى مطار بيروت، تخرج "الدولةُ" برمّتها لاستقبالها، مع أنّها لا تصلح ولو لرشّ المبيدات!

روسيا عرضتْ هديّة على لبنان: 5 طائرات ميغ 29 متقدّمة. لكنّ "دولتنا" رفضتْها لأنّ ذلك ممنوعٌ عليها [أميركيًّا]. يمرّ الطيرانُ الإسرائيليُّ في الأجواء اللبنانيّة، ويعتدي على سوريا (تستطيع سوريا أن تقيمَ على لبنان دعوى في مجلس الأمن لأنّها تُقصف من عندنا)، ومع ذلك فـ"دولتُنا" لا تستطيع قبولَ سلاحٍ دفاعيّ، هو بطّاريّةُ صواريخ مضادّة للطائرات، عرضتْه إيرانُ علينا. عندما حصل اشتباكٌ بين الجيش اللبنانيّ والجيش الإسرائيليّ، ربّما عن طريق الخطأ، في بلدة العديْسة الجنوبيّة، وصل وفدٌ أميركيّ في اليوم التالي إلى مخازن الجيش للتحقّق من أنّ الجيش اللبنانيّ لم يَستخدمْ خرطوش م16 القادمَ من أميركا للدفاع عن نفسه!

إذًا، لدينا "دولة" لا تقوم بواجبها بالدفاع عن الوطن. وعندها يكون من الطبيعيّ أن يُقْدم الشعبُ على تأسيس مقاومته دفاعًا عن نفسه ووطنه.

* رانية المصري: أريد ان أشير إلى معلومة وصلتنا للتوّ. لقد حذفتْ إدارةُ فيسبوك الجزءَ الأوّلَ (الأساسَ) من هذه الندوة. هذا ليس غريبًا علينا؛ فنحن نعرف علاقةَ فايسبوك بالكيان الصهيونيّ. ونعرف أنّ وزيرَ الحرب لدى العدوّ، بيني غانتس، اجتمع قبل أياّمٍ مع مديرين من فايسبوك وتيكتوك. في هذا الاجتماع، تعهّد المتحدّثُ باسم فيسبوك بمواصلة "إزالة المحتوى الذي يَنتهك معاييرَ المجتمع لدينا، والذي لا يسمح بخطاب الكراهية أو التحريض على العنف."[3] لكنْ نطمئن الجميع إلى أنّ حوارنا هذا مسجّل، وسوف يُنشر مكتوبًا في مجلّة الآداب وموقع حملة المقاطعة في لبنان، ومهما حاولوا أن يسكتونا فلن نسكت. سنبقى هنا، وإنْ شاء لله قريبًا سنعود جميعنا إلى فلسطين المحتلّة.

- هذا الأمر برسم كلّ محبّي "الديمقراطيّة" الأميركيّة.

- رجاء جعفر: نشكر كلَّ مَن شارك في إنجاح هذه الندوة، ونشكر - بشكل خاصّ - الأستاذ نجاح واكيم لحلوله ضيفًا عزيزًا على حملة المقاطعة، وهو الذي أتاح لهذه الحملة منذ سنواتٍ طويلةٍ فرصةَ عقدِ اجتماعاتِها الأسبوعيّة في مقرّ حركة الشعب. وفي الخنام نقول إنّ المقاومة العسكريّة تقوم بأقصى ما يمكنها لقتال العدوّ، فلنقفْ إلى جانبها مقاومين مقاطعين معادين للتطبيع. تصبحون على وطن.

بيروت

 


نجاح واكيم

نائب سابق في البرلمان اللبنانيّ، ورئيس حركة الشعب. صدر له: الأيادي السود، والوهم والأمل.

كلمات مفتاحية