لستُ القاتل!
13-11-2016

 

تعود إلى المنزل بعد ساعات عملٍ إضافيّة، محمَّلًا بأوجاع المدينة. تتنقّل داخل الغرف الفارغة. تصدح لعناتُك ــــ كطفلٍ يبكي آلامَ لقاحه الثاني ــــ حين تصحو فجأةً على غياب الكهرباء منذ أكثر من شهر. يحتضنك حزنُ بُعْدِ العائلةِ عنكَ، فتتذكّر إصرارَكَ حينها على مواجهة محاولاتهم البقاءَ إلى جواركَ:

"سأكون مشغولًا أغلبَ الوقت، ولن أحتمل أن تطولَكم أظافرُ الحرب، بينما تنهمك أصابعي برتق جراح ضحايا الحرب."

يشتمّ أنفُك هواءً لا روائحَ بارود فيه. تتزاحم صورُ ضحايا اليوم أمام عينيك. ترخي أهدابك على راحة نجاة أيٍّ منهم. "على الأقلّ هم في أمانٍ الآن،" تتمتم، وأنت تجترّ مشهدًا تلو الآخر، يحكي قصّةَ أجسادٍ حوَّلها الانفجارُ أشلاءً.

بين وجعٍ مدهونٍ بأجسادٍ تمتلئ بها ثلّاجاتُ المدينة ومقابرُها، وآخرَ يهزُّكَ مجرّدُ رؤيةِ احتماله: ماذا لو كان قريبٌ لكَ مِن بينهم؟

تقف مع دموعكَ عاريًا وسط الصالة. تنسدل غصّةٌ مريرةٌ فوق وجنتيْك. تُقرِّب اللحظةَ بتلك التي كانت بالأمس: تجدُكَ تمشي فوق طريقٍ مغبرّ. وكلُّ ما يركض صوبك من ليلةٍ ملؤُها الجنونُ مع أصدقائك هو ما ادّخرتَه من شرابٍ، منتهزًا ارتقاءَ ثملهم إلى السماء. تهرع إلى الخزانة بمشاعرَ لم تعد تتبيّنُ ماهيّتَها. تمسك بأصابعَ مرتجفةٍ قارورةً لم تصلْ إليها يدُ أصدقائك. تبحلق في نوعيّة الكونياك الذي لن يجلبَه غيرُكَ في ظروفٍ كهذه. تغمض عينيْك، ممتنًّا لزميل عملك الأجنبيّ. فتستقبلك أشلاءٌ من صورِ أبرياء مزّقها متعجّلون إلى "لقاء الله." تتخلّى عن عادة التأنّي في ارتشاف نخبك، وأصابعُكَ تتّجه إلى فتح القارورة.

يغيب وعيُكَ من دون تحذير اعتدتَ عليه. تسمع نشيجَكَ كأمٍّ تنزف سَقْطَها مع آلامِ قلبِها. يرعبك الدمُ النازفُ من رأسك. تنظر حولك بتثاقلِ عربةٍ عالقةٍ في حفرةٍ وسط الطريق. تستفيق أهدابُكَ على حمرة على حافة السرير. تتسلّل أصابعُكَ إلى موطئ الجرح. تتحسّس مغارةً محفورة.

تشاهد عودتكَ إليكَ مع مُغادرة الثمل لجسدك. ينهض وجعُكَ متّكئًا على عكّاز شتائمك. تصرخ في خواء منزلك:

"أيّها السفلة، لكنّني لست القاتل!"

اليمن

بلال طاهر

كاتب من اليمن