قبضوا عليّ ميّتًا في إحدى المغارات.
***
ارتفع صوتُ المؤذّن من صومعة الجامع معلنًا وفاتي وموعدَ إقامة الصلاة على جثماني. وسرى الخبرُ في المدينة: "ع مات." لم يكن الخبرُ مثيرًا. دعا لي كثيرون بالرّحمة، وعتب عليّ آخرون، وسبّني بعضُهم، بينما تقبّلت الأيدي الّتي تخبط الورقَ على طاولات المقاهي خبرَ وفاتي ببرودٍ معهود. لست عاتبًا على أحد، حتّى على مَن ذيّلوا الخبرَ بعبارات السّخط والحسد، واتّهموني بأنّني رشوتُ الموتَ كي أموت ميتةً مرفّهة.
كنت أدرك أنّ الفرق بين الحيّ والميّت في مدينتنا أنّ الأوّل ينادَى باسمه فقط، بينما يُذكر الثّاني مذيّلًا بعبارة "اللّه يرحمو" أو "لا تربّحو دنيا ولا آخرة" أو "مات ارتاح." لذلك لم يكن ما قيل عنّي لينغّص عليّ ميتةً لم يمتها أحد منذ أكثر من ثلاثمائة عام بالتّمام والكمال!
كنت أرقد تحت التّراب وأنا في أزهى لحظات حياتي. انتظرتُ طويلًا أن أُحرق، أو أن يُجزّ رأسي بسيف، أو أن أُلقى في البحر... ولكنّ الموت تسلّل إليّ ليلًا وأنا نائم والمدينة مقفرة غارقة في ظلامٍ دامس. طرق البابَ ففتحتُ له، واستقبلتُه هاشًّا باشًّا. أجلستُه على الأريكة. كنّا نتكلّم بصوت خفيض حتّى لا تتفطّن إلينا والدتي الّتي تنام في ردهة البيت. قال لي:
ــــ سأقبض روحك. حُسم الأمر. ودّع أشياءك وحياتك. فكّر في الأشياء الجميلة الّتي عشتَها واستمتعتَ بها.
أدهشتني نبرةُ المواساة على محيّا موتي وهو يخاطبني بلطفٍ عجيب. كان يحسب أنّني سأنزعج. ولكنْ، لو لم يكن الأمر ليثير والدتي النّائمة، لقفزتُ إلى الرّدهة راقصًا رافعًا الصّوت بالغناء.
ــــ أشياء جميلة؟! يا للتّهمة!
راجعتُ شريط أحداثي، فلم أعثر على لحظة سعادةٍ واحدة. لا شيء سوى الموت. قلت له والأسى يعصرُني:
ــــ أنا معدم. انتظرتكَ منذ زمن بعيد. فلِمَ أبطأت كلّ هذا العمر؟
ثمّ أضفت:
ــــ لقد قتلوني آلاف المرّات يا صاحبي. لا تكترثْ.
كان صامتًا. كان موتي صامتًا. وكنت أحدّق في الظّلمة. أسمعُ أنفاسَ والدتي. أراها تهتزّ وتنتفض لفقداني. تذرف الدمع. تندب. يتمزّق قلبها قِطعًا. تختلط في ذهنها الأشياء: هل تبكيني، أمْ تبكي وحدتها بعدي؟ أفكّر في ذلك فيدقّ قلبي، ويدبّ فيه ألمٌ غامض، يكاد يثنيني عن فرحتي بقدوم صاحبي. ولكنّني أتذكّر أنّني إنْ لم أستغلّ الفرصة هلكتُ بسيفٍ ينتظرني، أو ببندقيّةٍ تتعقّبني، فعقدتُ العزم على الموت، بل اعتبرتُ نفسي محظوظًا أكثر من أيّ وقت مضى، وفكّرتُ في أنّ ميتتي هذه ستكون العلامة المضيئة اليتيمة في سجلّ أيّامي. قلتُ له بلهجة واثقة:
ــــ أنا جاهز. هذا آخر كلامي.
***
من الغد، كنت جثّة هامدة. لا أذكر شيئًا ممّا فعل بي الموتُ. لم أتألّم أبدًا. كنت مبتهجًا. أفكّر: كيف يصير الإنسانُ ميّتا؟ أتلهّى بأعواد ثقاب، أشعلُها فتحترق زمنًا ثمّ تخبو نارُها. دخّنتُ السّجائر المتبقّية في العلبة، إلى أن أفاقت والدتي من النّوم لتصلّي الفجر. ثمّ أقبلتْ عليّ تناديني للفطور والشّاي. الحقّ أقول لكم: لو لم أكن ميّتًا لقمت إلى كأس الشاي! إنّها عادتي المقدّسة.
الموت هو مجرّد حرماننا من عاداتنا... لا أكثر.
نادتني والدتي طويلًا. كنتُ صامتًا. اقتربتْ منّي، فوجدتني بلا نفس. وضعتْ كفّها على جبيني، ففاجأتْها حبيْباتُ عرقٍ باردة تجمّعت على الجلد. حرّكتني فإذا أنا جثّة هامدة بلا حَراك ولا نبض.خرجتْ من البيت مولولة تنادي الخلق:
ــــ "ع" مات! يا ويلي! "ع" ماااااااااااات...
راحت تهتزّ وترتمي على الأرض. ولمّا التفّ حولها القوم حاولتْ أن ترمي بنفسها في الماجل أكثر من مرّة، والنّاس يصدّونها، ويلتمسون منها التعقّل والصّبر.
كانت جنازتي هادئة صامتة. لم يبكني أحد. ولكنّ ما هزّ هدوءَ المكان أنّني متّ ميتةً طبيعية.
سرى خبري في الأرجاء كالرّيح العاصفة. لا تسمع سوى:
ــــ "ع" مات موت ربّي!!
قالت الإنس:
ــــ لن نصدّق حتّى نرى بأعيننا!
وقالت الجنّ:
ــــ لا شكّ في أنّنا في آخر الزّمان! ميتة طبيعيّة؟! يا للعجب!
***
انتصف النّهار. انصبّت المدينةُ في بيتنا. جاء صحفيّون من كلّ بقاع الأرض. فرقُ تصويرٍ أوفدتها أضخمُ وكالات الأنباء العالميّة، ونصب مراسلوها معدّاتهم وبدأوا النّقل المباشر من باحة بيتنا. قالوا لوالدتي:
ــــ لقد اتّصلنا به مرارًا ولكنّ هاتفه لا يردّ. كنّا نريد منه تصريحًا حول موته لا أكثر.
صوّبت العدسات على والدتي وهي تجتهد، رغم تعكّر حالتها الصّحّية، كي تحدّثهم عن سرّ وفاتي بتلك الطريقة الغريبة. أعادت القصّة أكثر من سبعين مرّة:
ــــ نام باكرًا على غير عادته (تولول حينًا من الزّمن فيبدي لها الصّحفيّون تعاطفهم كي تواصل). كنتُ متعبة. اتّكأتُ فأخذني النومُ بعيدًا. ولمّا أفقتُ صباحًا ناديتُه فلم يجبْني (تعوّل وتخبط فخذيْها وخدّيْها فيواسونها). حرّكتُه فلم يتحرّك. أيقنتُ أنّه مات وتركني وحيدة.
وترفع الصّوت بالآهات ويغمى عليها فيرشّون وجهَها بالماء، فيعود إليها وعيها. تسألها إحداهنّ قدمت لتوّها فتعيد عليها القصّة بالتفصيل:
ــــ نام باكرًا على غير...
كان قلبُ والدتي يحترق. ربّما كانت آخرَ كائنٍ مستعدٍّ لذرف الدّموع من أجل كائنٍ كفّ عن الحياة في المدينة! تركها الصّحفيّون، وفي غفلة من الأعين، تسلّل فضولهم إلى البيت حيث أرقد وحيدًا أرفل في ثيابي البيضاء الجديدة الناعمة. لم ألبس مثلها يومًا في حياتي. كنتُ أشعر بالفخر والعزّة. وتدافعوا ليحصلوا على بعض التصريحات:
ــــ لا شكّ في أنّك أرضيتَ والديك حتّى تموت ميتة طبيعيّة كهذه.
ــــ ... (أيّها الأغبياء! لا فرق بينكم وبين أقدم عجوز في المدينة)
ــــ أنت مولود ليلة القدر.
ــــ ... (لم أمت كي أولد من جديد. فاتني هذا الشّرف!)
ــــ بم تشعر الآن؟
ــــ ... (أنا عصفور عكّرت السّماء صفوَه، فزقزق لها ومسح وجهها بكفّيه وراح يذرعها بجناحيه)
ــــ ماذا تقول للّذين بقوا بعدك؟
ــــ ... (مزِّقوا مدنَ الظّلام. زلزِلوا أركانَ البحر يأتِ إليكم. جرّبوا أن تموتوا يَمُتْ موتُكم يا أولاد الأفاعي)
كانت وكالاتُ الأنباء تنقل البثّ المباشر من أمام بيتنا، والمصوّرون يلتقطون لي صورًا وأنا أوزّع الابتساماتِ والتّحايا. وفي غفلةٍ من الجموع الغفيرة الّتي غصّت بها ساحةُ بيتنا القذرة، تسلّلتُ زحفًا إلى مغارة دافئة في بطن الجبل. نبشتُ التّراب واتّخذتُ لي خندقًا عميقًا. تخلّصتُ من البياض نهائيّا. صرتُ عاريًا تمامًا. ثمّ ردمتُني بتؤدة، ورقدتُ كما لم أرقد يومًا، حتّى كدتُ أحسد نفسي.
***
كان المغول في معركة في مدينة بعيدة. لا شكّ في أنّهم شاهدوا نشرات الأخبار الّتي نقلتْ خبرَ وفاتي، وإلاّ فما الّذي جعل حرسَهم يتوزّعون في كلّ شبر في المدينة باحثين عنّي؟ لقد ثارت ثائرتهم، فأعلنوا حالة الطّوارئ، وأخذوا يذرعون المدينة يطلبون جثّتي. خنقوا والدتي كي تخبرهم عن مكاني، فحلفتْ لهم بأغلظ الأيمان أنّها لا تعرف سرّ اختفائي. قتلوا خمسة وعشرين صحفيًّا، واتّهموهم بأنّهم سهّلوا هرب جثّتي إلى بلد مجاور. أدخلوا نصفَ سكّان المدينة إلى السّجون، وجلدوا النّصف الآخر في العراء بتهمة التّواطؤ.
وفي يوم، بينما كنت راقدًا في مغارتي أنعم بثقل التّراب على جثّتي إذ شعرتُ بوقع أقدام. وما إنْ بان لهم وجهي، وقد أخذت الديدانُ تغدو عليه وتروح، حتّى انهالوا عليه جلدًا بالعصيّ وركلًا بالجزمات الثّقيلة. جرّوني إلى وسط المدينة، وأخبروني بأنّني متّهمٌ بالموت خلسةً!
أحاط بي النّاس من كلّ جانب. كانت والدتي تنتحب. تضحك. ترقص. تندب خدّها. لم تعد تعرف: أتفرح للعثور على جثّتي أمْ تبكي لمصير مظلم ينتظرني وأنا بين أيدي المغول؟ كنت مشفقًا على الكائنات اللّطيفة الّتي فاضت بها جثّتي وحفرتْ ممرّاتها في لحمي وعظامي. كنتُ أراقبها مزهوّةً، فأبكي فرحًا من أجلها وهي تقتات من بقايا لحمي وتنعم برائحة الجيفة يعبق بها المكان.
ــــ كيف سوّلتْ لك نفسك أن تموت بلا استئذان، أيّها الأحمق؟
ــــ هل تصوّرت أنّك قادر على التخفّي، أيّها الأبله؟
كانت السّياط تجلد ما تبقّى منّي، والعصيّ تقرع جمجمتي وعظامي، والنّاس يتفرّجون. قال أحدهم:
ــــ اتركوه ما دام قد صار جثّة هامدة.
جزّ أحد المغول رأسه.
أوثقتْ والدتي إلى عمود وصُلبتْ على مرأًى منّي ومسمع. أمّا أنا فقد تدلّيتُ من حديد معقوف أدخلوه في كاحل قدمي اليسرى، وعلّقوني به في عمود كهرباء. أوقدوا نارًا عظيمةً تكفي لشيّ البشريّة جمعاء. أخذ أحدُهم ساطورًا ضخمًا، وجعل يهوي على جثّتي المعلّقة فيقطع منها الجزء فيرميه في النّار تأكله ولسانه يرطن: "هذه من أجل الموت خلسة، وهذه من أجل التّحيّل، وهذه من أجل الموت بلا استئذان، وهذه من أجل الفرار، وهذه من أجل..." إلى أن أتت النّارُ عليّ كلّي.
حملوا رمادي وراحوا بعيدًا.
تونس