وداعًا سايكس ــ بيكو: متى يُشرق الهلالُ الخصيب؟
29-05-2016

 

"في قهقهة التاريخ المتقدّم عبر الإمكانات المتضاربة، يحتضر عالم بأكمله، ويتهيّأ للولادة آخر."

(مهدي عامل، من كتاب نقد الفكر اليومي، دار الفارابي، ص. ١٩)

 

في صيف العام ٢٠١٤، أعلن تنظيمُ داعش نهاية سايكس ـــ بيكو، وذلك بعد استيلائه على معابرَ حدوديّةٍ بين العراق وسوريا. ومع حلول الذكرى المئويّة للاتفاقيّة هذا الشهر، تستمرّ التحليلات التي تعزّز تلك المقولة، وتتواصل التحذيراتُ من سايكس ــــــ بيكو جديدة، ومن مشاريع متنوّعة لتفتيت المنطقة.

 

لم يكترث الكثيرُ من المعلّقين لحقيقةِ أنّ ما قام به داعش هو استعادةٌ لخطوط تقسيم سايكس ـــ بيكو، لا كسرٌ لها. فبحسب خريطة سايكس ــــ بيكو التي أُبرمتْ في أيّار عام ١٩١٦(أنظر الخريطة أدناه*) ، كان إقليمُ الموصل، الذي يسيطر عليه داعش حاليًّا، ضمن المنطقة (أ) الممتدّة إلى دمشق، لا تلك التابعة لبغداد. وكانت الاتّفاقيّة قد خَصّصت المنطقة (أ) لقيام دولة عربيّة، أو كونفدراليّة دُوَلٍ عربيّة، خاضعة لنفوذ فرنسا.(1)

لا ينفي ما تقدّم رمزيّةَ سايكس ــــ بيكو، ودورَها في وضع تصوّرٍ أوّليّ للتقسيم منذ قرن، ولِما يمكن أن يكون إعادةَ ترسيمٍ للحدود في يومنا هذا. إنّما الهدف ممّا تقدّم منعُ تحوّل هذه الرمزيّة إلى سرديّةٍ سطحيّةٍ لا تأبه بالحقائق التاريخيّة، بل تختزل مئةَ عامٍ من تاريخ المنطقة بقرارٍ استعماريٍّ واحد؛ أو منعُ تحوّلها إلى سرديّةٍ استشراقيّة، كتلك التي يرسمها حبيب فيّاض، تعزو التجزئة إلى وعيٍ عربيٍّ مُفترَض من "ماضٍ غابرٍ" لا يزال محكومًا طوال مائة عام بالغريزة والعشائريّة.(2)

فالحال أنّ الخريطة الحاليّة للمنطقة، على ما سيبيّن هذا المقال، ليست نتاجًا لاتّفاقٍ وُضع قبل مائة عام، ولا حصيلةً لعقليّةٍ لم تتغيّرْ منذ ذلك الحين، بل نتاجٌ لحركة صراعٍ تاريخيّةٍ، ولِما انبثق عنها من موازينِ قوًى في هذه المرحلة أو تلك. وما تَعدُّدُ الاتّفاقيات التي حلّت مكانَ سايكس ــــ بيكو، وعلى رأسها تلك المتعلّقة بتركيّا (سترِد أدناه)، إلّا دليلٌ على ذلك. إنّ الإصرار على تكرار السرديّات الآنفة الذكر لا ينافي الوقائعَ فحسب، بل يُعيد أيضًا إنتاجَ مستقبلٍ يؤبّد سرديّةَ الماضي تلك، بكلّ أزماتها وإحباطاتها، بدلًا من أن يتخطّاها.

 

خِداع الخرائط: عن رمال التاريخ المتحرّكة

كان ضمُّ الموصل إلى العراق بدلًا من ضمّه إلى سوريا، بعد الحرب العالميّة الأولى، أحدَ التعديلات الجذريّة التي طرأتْ على خريطة سايكس ــــ بيكو قبل رسم أيّ حدودٍ ثابتةٍ على أرض الواقع. وعلى ضوء هذه التعديلات يمكن القولُ إنّ اتّفاقيّة سايكس ــــ بيكو لم تُطبَّقْ قطّ، بل كانت أشبهَ بتصوّرٍ أوّليّ قبل أن تضع الحربُ أوزارَها. فالحقّ أنّ وعودًا ومعاهداتٍ أخرى، خلال الحرب وبعد انتهائها، كبلفور (١٩١٧) وسان ريمو (١٩٢٠) وسيفر (١٩٢٠) ولوزان (١٩٢٣)، أدّت دورًا أهمَّ وأكثرَ مفصليّةً في إعادة ترسيم حدودِ ما بعد سايكس ــــ بيكو. بل إنّ تلك الاتّفاقيّات الأخرى نفسَها لم تكن لها دومًا الكلمةُ الفصلُ؛ فالحدود في منطقة الهلال الخصيب بقيتْ محطَّ تجاذبٍ وتعديلٍ إلى ما بعد الحرب العالميّة الثانية، أيْ بعد عقديْن على انقضاء سايكس ـــــ بيكو. ولم تكن النتائجُ دومًا لصالح المستعمِر؛ وأبرزُ مثالٍ على ذلك اضطرارُ باريس، بسبب نضال السوريين، إلى الاعتراف بسوريا موحّدةً مع نهاية الثلاثينيّات من القرن الماضي، بعد أن كانت قد عمدتْ إلى تقسيمها في أوائل العشرينيّات إلى أربع دويْلات. وفي المقابل، أخفقت الدولةُ السوريّةُ الوليدة، سنة ١٩٢٠، في منع الفرنسيين من إعلان قيام دولة لبنان في غرب البلاد، ومُنحتْ تركيّا لواءَ الإسكندرون قُبيل اندلاع الحرب العالميّة الثانية. وكلا التعديلين، بالمناسبة، أخلّا، بدورهما، باتّفاقيّة سايكس ــــ بيكو، ولم يعكسا إرادةَ المستعمِر فحسب، بل جاءا أيضًا نتيجةً لجهود قوًى محلّيّةٍ وإقليميّةٍ، كالتي بذلها الرئيسُ التركيّ كمال أتاتورك، وشريحةٌ من النخبة السياسيّة المتعاونة مع فرنسا في جبل لبنان وبيروت.

في حالة تركيّا، قام الحلفاء، بعيْد انتصارهم في الحرب الكبرى سنة ١٩١٨، باعتماد تقسيم جغرافيّ لآسيا الصغرى (تركيّا المعاصرة) لا يقلّ إجحافًا وتفتيتًا عن مخطّطاتهم المتعلّقة بالهلال الخصيب (انظر الخريطة ب أدناه**). وقد وافق السلطانُ العثمانيّ على معاهدة سيفر، التي حاولتْ تكريسَ هذا التقسيم. لكنّ الحركة التركيّة الوطنيّة المنشقّة عن اسطنبول رفضت الإذعانَ، وشنّت بقيادة أتاتورك حربَ الاستقلال، وتمكّنتْ بعد سنوات من الحرب والمفاوضات من استعادة غالبيّة المناطق التي اقتُطعتْ. هكذا عَبَّرت اتّفاقيّةُ لوزان عن توازن القوّة الجديد؛ فحدود تركيّا اليوم، باستثناء لواء الإسكندرون، ما زالت هي التي اتُّفق عليها في لوزان، لا في سيفر.

وعلى الرغم من أنّ فرنسا وبريطانيا تمكّنتا من فرض إرادتيهما بشكلٍ أكبر في الهلال الخصيب، فإنّ ذلك جاء نتيجةً لتفاعل عدّة عناصر: منها ما هو موضوعيّ (كعدم وجود جيوش عربيّة مجهّزة ومدرّبة كنظيرتها التركيّة)، ومنها ما هو ذاتيّ (تخاذُل بعض الطبقة السياسيّة المحلّيّة، وبخاصّةٍ في جبل لبنان والحجاز). هذه العوامل رجّحتْ كفّة المستعمِر، لكنّها لم تُلغِ قوّة فعلِ المستعمَر (بشقّيه: المتواطئ والمُقاوم). فلماذا يُحصر الفعلُ التاريخيّ بالمستعمِر وحده، وفي لحظةٍ زمنيّةٍ محدّدة؟

 

 تسطيح الماضي لتأبيد المستقبل: تاريخ تقسيم حدود أم تقاسم سلطة؟

تَحمِل بعضُ التفاصيل التاريخيّة المُهمَلة، الخاصّةِ بتلك المرحلة، دلالاتٍ على دور تسطيح التاريخ في إغلاق باب الاجتهاد حول مستقبل الهلال الخصيب كوحدةٍ اجتماعيّةٍ مترابطة. من هذه التفاصيل: أنّ إعلان المؤتمر السوريّ، في العام ١٩٢٠، عن قيام دولة عربيّة في سوريا الكبرى تَضمَّن، مراعاةً لـ"أماني اللبنانيين،" اعترافًا بمنح جبل لبنان استقلالًا إداريًّا مثلما كان يتمتّع به أيّام المتصرفيّة.(3) وعليه، لم يكن ضمُّ لبنان عمليّةَ ابتلاعٍ، كما يحلو لمنظّري "الوطنيّة اللبنانيّة" تصويرُها.

وفي المقابل، كم من المندّدين بـ"خيانة" البطريرك المارونيّ إلياس الحويّك، بسبب مطالبته آنذاك بفصل لبنان عن سوريا، يذْكرون أنّ الزعيم البقاعيّ المسلم الشيعي صبري حمادة، وبحسب أحد المؤرّخين، أمدّ الفرنسيين سنة ١٩٢٦ بآلاف المقاتلين لقمع المطالبين بالانضمام إلى سوريا في منطقة الهرمل؟(4) وكم منهم يعلم أنّ أحدَ ألمع دعاة الدولة السوريّة هو الكاهن المارونيّ من بيروت حبيب اسطفان؛ وأنّ أخا البطريرك الحويك، سعد الله، كان من ضمن وفدٍ لنوّاب جبل لبنان اتّجه إلى دمشق لتأييد قيام الدولة العربيّة سنة ١٩٢٠، لكنّ القوّات الفرنسيّة أوقفته وسلّمته إلى المحكمة العسكريّة؟(5)

تسلّط هذه التفاصيل الضوءَ على خطورة السرديّات الإطلاقيّة التي تصوّر العلاقةَ بين سوريا ولبنان ماضيًا، ومن ثمّ مستقبلًا، كعلاقة مستحيلة ــــــ ينطبق ذلك على كامل الهلال الخصيب وعلى العلاقة بين مكوّناته المختلفة سواءً بسواء. وكأنّه يُراد للأجيال القادمة، أو من ينجو منها، أن توضع أمام خيارين غير عمليّيْن أو صحيحيْن: الذوبان الكامل أو الانسلاخ الكامل؛ الوحدة الكاملة (وتجاهُل الكيانات الموجودة وما خَلّفتْه من تفارقٍ هويَّاتيٍّ بين مواطنيها) أو تأبيد الحاضر القُطْريّ (وتناسي ما سبقه وما تلاه من تاريخ مشترك).

إنْ كان من ثابت في المئة عام التي تفصلنا عن سايكس ـــــ بيكو، فذلك ليس الحدودَ المرسومةَ على طول هذا الهلال وعرضه، بل وحدة مصير الشعوب التي تقطن ضمن هذه الحدود. وما يحدث اليوم على امتداد العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين يؤكّد ذلك، وإنْ كانت "وحدة المصير" اليوم هي في الضرّاء لا السرّاء. أمام هذه الحقيقة التاريخيّة، يحقّ لمن سيرث هذه الأرض، رغم قتامة الحاضر، أن يحلمَ بمستقبلٍ مغايرٍ للكابوس الذي يُفرض عليه بالنار والحديد والتاريخ المزيّف والإيديولوجيا المنفصلة عن حركة الواقع. يحقّ له أن يستنبط حُلمًا يمزج بين الرؤية المثاليّة والواقعيّة السياسيّة؛ أن يَستلهم الخطط والبرامجَ العمليّة من مشاريع الوحدة التي سبقتْ من دون تقديسها؛ أن يتعلّم من تجارب الكيانات السياسيّة الإقليميّة في أوروبا وأميركا اللاتينيّة وإفريقيا وشرق آسيا من دون استنساخها؛ أن يحاكي التحدّياتِ الراهنة لا المعضلات الموروثة التي واجهتْ أجيال سايكس ــــ بيكو أو ما تلاها.

في هذا الحُلم، تتحوّل مأساةُ نزوح ملايين اللاجئين بين أقطار الهلال الخصيب من مصْدرٍ لـ"عدم الاستقرار،" والرُهابِ الجماعيّ، إلى فرصةٍ تاريخيّةٍ لبناء وعيٍ جماعيٍّ مشترك. هنا ستتجسّد الفكرةُ "الوطنيّة" المنشودة في مفاهيم العدالة الاجتماعيّة، والإرادة الشعبيّة، والسيادة الاقتصاديّة، بغضّ النظر عن الترسيم الحدوديّ الذي يعيش المواطنون ضمنه. وسيصبح ضعفُ "الدولة" في كلّ كيان حافزًا لضرورة التشبيك بين الكيانات من أجل النهوض مجدّدًا، بل تماشيًا مع عالمٍ أصبح التعاضدُ الإقليميُّ فيه من بديهيّات التنمية والتقدّم والتنافس بين دولٍ يَفُوق بعضُها دولَ الهلال الخصيب مجتمعةً ــــ مساحةً وتعدادًا سكّانيًّا وثروات. ويتحوّل التقاتلُ على أساس إثنيّ أو طائفيّ إلى حجّة دامغة على الحاجة إلى تمكين الدولة المدنيّة الواحدة، بدلًا من أن يكون مبرِّرًا للإمعان في تقسيم المنطقة. وينقلب خطاب الكونفدراليّة من مشروع انعزاليّ ضمن القطْر الواحد إلى صيغة تقدّميّة بين الأقطار تحترم الخصوصيّات المحلّيّة من دون أن تَغفل عن فوائد التواصل بينها. وتتحوّل قضيّةُ فلسطين من ذريعةٍ للاستبداد، أو موعدٍ مؤجّل لمعارضات عميلة، إلى ساحة نضال لجيلٍ يَعي أنّ الاستعمار والاستبداد صنوان ويصبو إلى طرد الغزاة وإسقاط الطغاة في آن.

***

بين هذا الحلم والحقيقة المعيشة هُوّةٌ شاسعةٌ من دون قاع. لكنّ للضرورة التاريخيّة أحلامَها. إنّ انهيار الواقع دعوةٌ لبناء الحلم، بدلًا من البكاء على الأطلال. فالأحلام هي البداية بعد كلّ نهاية. ولئن بدت الأحلامُ مستحيلة اليوم، فقد تصبح مُتاحةً بعد عام،... بعد عاميْن وجيل.

هيوستن

* الخريطة (أ) من مقالة "جدلية" المذكورة في النص.

** الخريطة (ب) من: http://images.routledge-interactive.s3.amazonaws.com/9780415782449/5-3.jpg

1- تثير هذه النقطة الباحثةُ سارة بيرسلي في مقالها المعمّق عن سايكس ــــ بيكو. راجع سارا بيرسلي، "خطوط مرسومة على خريطة فارغة: حدود العراق وأسطورة الدولة المصطنعة،" جدليّة، ٢٦ حزيران، ٢٠١٥،  http://www.jadaliyya.com/pages/index/21946/%D8%AE%D8%B7%D9%88%D8%B7-%D9%85%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%85%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A9-%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%BA%D8%A9_%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%88%D8%A3%D8%B3%D8%B7%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84

http://goo.gl/zpj0Gy

https://ma-alamal.com/2015/06/07/%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A9-%D8%B3%D8%A7%D9%8A%D9%83%D8%B3-%D8%A8%D9%8A%D9%83%D9%88-%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82/

2- لا يأتي هذا الخطاب على ذكر دور الطبقة السياسيّة الحاكمة، وبخاصةٍ المستبدّة، في خلق مناخ مؤاتٍ للتجزئة، واستخدامِها فزّاعةً لمنع الإصلاح، الذي يساهم بدوره في تعزيز وحدة المجتمع. راجع، نموذجًا، حبيب فياض، "مئويّة سايكس بيكو،" جريدة السفير، ٢٣ نيسان ٢٠١٦.

3- راجع يوسف الحكيم، سورية والعهد الفيصلي (بيروت: دار النهار للنشر، ١٩٨٠ (١٩٦٦))، ص ١٤٠. في كتابٍ موجّهٍ إلى الملك فيصل، أقرّ المؤتمرون قيامَ حكومة ملكيّة مدنيّة "على أن تُدار مقاطعاتُها على طريقة اللامركزيّة الإداريّة وعلى أن تراعي أماني اللبنانيين في إدارة مقاطعتهم لبنان ضمن حدودهم المعروفة قبل الحرب، بشرط أن يكون بمعزل عن كلّ تأثير أجنبيّ."

4- راجع الحاشية رقم ١٦ في ص ٢٢٧، في:

 Rula Jurdi Abisaab and Malek Abisaab, The Shi’ites of Lebanon: Modernism, Communism, and Hizbullah’s Islamists (Syracuse, New York: Syracuse University Press, 2014).

5- راجع يوسف الحكيم، مصدر سابق، ص ٨٤ و١٦٤-١٦٥.

هشام صفيّ الدين

أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة بريتش كولومبيا، كندا. صدر له كتاب دولة المصارف: تاريخ لبنان الماليّ بالإنكليزيّة عن دار ستانفورد (2019) وبالعربيّة عن مركز دراسات الوحدة العربيّة (2021، ترجمة فيكتور سحاب). وحرّر وقدّم لكتاب الماركسيّة العربيّة والتحرّر الوطني: مختارات من كتابات مهدي عامل، ترجمة انجيلا جيورداني (بريل، 2020)، ونفير سورية (مع يانس هانسن، دار جامعة كاليفورنيا، 2019).