الحركة الشيوعيّة في فلسطين: إشكاليّات جوهريّة منذ التأسيس
15-12-2017

 

عندما كان الشيوعيّ الحيفاويّ إميل توما محرِّرًا للصحيفة الناطقة باسم "عصبة التحرّر،" حزبِ الشيوعيّين العرب حتى أوائل العام 1948، كتب معارضًا قرارَ التقسيم، الذي دافع عنه الاتّحادُ السوفييتيّ باستماتة، فقال:

"صداقتُنا للاتحاد السوفييتيّ، كدولةٍ غيرِ إمبرياليّةٍ مؤيّدةٍ لحريّة الشعوب، لا تعني أنّنا مرتبطون بسياسة خارجيّة غربيّة. فنحن، وكلُّ الديمقراطيّين، نتّخذ سياسةً مستقلّةً، لا ترتبط بسياسة الاتحاد السوفييتيّ، أو أيِّ تنظيمٍ آخر، لأنّ سياستنا تصبو إلى هدف الحريّة والعدالة لشعبنا."

لكنّ توما عاد واعتذر عن موقفه هذا، تحت ضغط "العصبة." ومع ذلك عوقب باستبعاده من قيادة الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ (ماكي) حتى بداية الستينيّات. وللتاريخ نسجِّل أنّ القائد الشيوعيّ النقابيّ بولس فرح استمرّ في موقفه الوطنيّ الرافضِ للتقسيم، فظلّ مُستبعَدًا من صفوف الحزب.[1]

يحيلنا هذا الاقتباسُ، بما يعكسه من خلافٍ بين الشيوعيّين العرب منذ العام 1948 حول قرار التقسيم، على إحدى الإشكاليّات الرئيسة التي واكبتْ مسارَ الشيوعيّين الفلسطينيّين، منذ تأسيس الحزب الشيوعيّ في فلسطين مطلعَ القرن الماضي،[2] وحتّى انهيار الاتّحاد السوفييتيّ وبلدانِ المنظومة الاشتراكيّة مطلع التسعينيّات؛ ونعني بها إشكاليّةَ التبعيّة للموقف السوفييتيّ. أمّا الإشكاليّتان البارزتان الأخريان فهما: تأسيسُ الحزب من قِبَل المستوطنين اليهود، وتغليبُ منطق الصراع الطبقيّ في النظر إلى المسألة الكولونياليّة في فلسطين على منطق الصراع القوميّ.

              (إميل توما)

العلاقة مع الاتحاد السوفييتيّ: الموقف من تقسيم فلسطين

لم تبخل الكتاباتُ العربيّةُ بالإشارة إلى دور السوفييت في دعم إقامة الكيان الصهيونيّ ليكون بمثابة رهانٍ نظريٍّ على "إسرائيل" المستقبليّة كدولةٍ "اشتراكيّة." وقد دعّم السوفييتُ هذا الرهانَ النظريّ بإسناد الكيبوتسات الزراعيّة الإسرائيليّة بكميّةٍ لا بأسَ بها من المستوطنين "الماركسيّين" المهاجرين من أوروبّا الشرقيّة، من دون أدنى ملاحظة للطابع الكولونياليّ للاستيطان اليهوديّ كعدوٍّ قوميٍّ للعرب وللفلسطينيّين. وكان قسطنطين زريق وموسى العلمي وجورج حنّا من أوائل من أشاروا إلى ذلك.[3] [4]

لاحقًا، لم يكتفِ السوفييت بتقديم الدعم السياسيّ في الأمم المتّحدة لإقامة الكيان الصهيونيّ، بل تجاوزوا ذلك إلى الدعم العسكريّ، وذلك عبر الصفقة المعروفة تاريخيًّا بـ"صفقة السلاح التشيكيّ" التي أدّت دورًا مهمًّا في تعزيز قدرة العصابات الصهيونيّة على ارتكاب المجازر والتطهير العرقيّ ضدّ الفلسطينيّين. وهذا ما لم يأتِ على ذكره الشيوعيّون طوال تاريخهم بعد العام 1948.[5]

وكانت "عصبةُ التحرّر الوطنيّ،" شأنها شأن كافّة الأحزاب الشيوعيّة حتى انهيار الاتّحاد السوفييتيّ، تنظِّم علاقتَها بالسوفييت على قاعدة التبعيّة الكاملة، من دون أدنى حدٍّ من الاستقلاليّة في القرار. وإذا كان ذلك "مفهومًا" حتى حلّ الكومنتيرن سنة 1943، باعتبار الأخير حزبًا شيوعيًّا "عالميًّا" تُشكِّل الأحزابُ الشيوعيّةُ المحلّيّةُ فروعًا له، فإنّ استمرار هذا الواقع بعد حلّ الكومنتيرن كان غريبًا.

إذن، ثمّة استدارةٌ كاملةٌ قام بها الشيوعيّون إزاء قرار التقسيم خلال أقلّ من أربعة شهور: من اعتباره "اقتراحًا كولونياليًّا تمّ التحضيرُ له منذ اليوم الذي وطئ فيه الاستعمارُ البريطانيّ أرضَ فلسطين" (كما كتبت الاتّحاد في أكتوبر 1947)، إلى المطالبة "بتطبيق قرار التقسيم" (على ما نقلتْ صحيفةُ الحزب العبريّة كوله هعام عن أندريه غروميكو في شباط 1948). ولا يمكن فهمُ هذا التحوّل السريع إلّا باعتباره تبعيّةً كاملةً للموقف السوفييتيّ، وذلك على النقيض من الموقف الوطنيّ الذي عَدَّ قرارَ التقسيم شرعنةً دوليّةً لاغتصاب فلسطين ولتأسيس الكيان الصهيونيّ.

أمّا التبرير الكلاسيكيّ للموقف الشيوعيّ الذي يردّده الأشهبان، نعيم وعودة، للموافقة على قرار التقسيم، فهو لا يشير بطبيعة الحال إلى التذيّل للموقف السوفييتيّ، بل يعتبره "أهونَ الشرور" لكون الصراع محضَ "احتراب عربيّ ــــ يهوديّ" تُغذّيه الإمبرياليّةُ البريطانيّة. فكأنّنا، بحسب هذا التوصيف، إزاء صراعٍ بين إخوة البيت الواحد، لا إزاء صراعٍ قوميّ ضدّ مشروعٍ صهيونيّ استعماريّ![6] اللّافت أنّ نعيم الأشهب بعد عام فقط، أيْ في العامْ 2009، رأى أنّ فؤاد نصّار، سكرتيرَ "العصبة" آنذاك، "بالغ في تأكيده على الصراع الطبقيّ أيّامَ الحرب وأهمل الجانبَ القوميّ للصراع في فلسطين."[7] فكيف يتّفق ما قاله عام 2008 مع ما قاله عام 2009؟

وأمّا ما يعنيه الأشهب بـ"الصراع الطبقيّ أيّامَ الحرب،" فهو يشير إلى دور فؤاد نصّار الذي وزّع منشوراتٍ في غزّة على الجنود المصريّين المقاتلين ضدّ الصهاينة يدعوهم فيها إلى الرجوع إلى بلادهم وتوجيهِ نيرانهم إلى "صدور المستعمِرين وأذنابِهم،" وذلك في دعمٍ "شيوعيّ" صريحٍ للمجهود الحربيّ الصهيونيّ ضدّ الفلسطينيين![8]

كثيرةٌ هي الاقتباسات التي يوردها عادل منّاع، في دراسته الموثّقة عن دور الشيوعيّين بعد قبولهم قرارَ التقسيم: سواءٌ لجهة دعمهم المجهودَ الحربيّ الصهيونيّ من خلال صفقة الأسلحة التشيكيّة؛ أو لجهة دعوتهم الجنودَ العربَ إلى عدم قتال الصهاينة؛ أو لجهة اشتراكهم المحموم في النظام الصهيونيّ بعيْد النكبة عبر اشتراكهم في انتخابات الكنيست الصهيونيّ وتوقيعِ ممثِّلهم اليهوديّ، مئير فلنر (الذي غدا في الثمانينيّات سكرتيرَ عامّ الحزب)، على وثيقة استقلال "دولة إسرائيل"؛ أو لجهة دعمهم "تحريرَ" الجليل من "الغزاة العرب" ــــ ويعنون بهم الجيوشَ العربيّة، وعلى رأسهم القائد العسكريّ فوزي القاوقجي، علمًا أنّ الجليل بحسب قرار التقسيم كان مخصَّصًا للدولة الفلسطينيّة![9]

لقد بقيَ الشيوعيّون الفلسطينيّون بعد النكبة، مثلما كانوا قبلها، "مخْلصين" لتبعيّتهم التي وَسمتْ موقفَهم السياسيّ،[10] بحيث تَحدّد هذا الأخيرُ على ضوء موقف السوفييت، لا على ضوء تحليلهم الملموس لمتطلّبات الصراع مع المشروع الصهيونيّ في فلسطين. هكذا يمكن "فهمُ" اعترافهم بـ"حقّ تقرير اليهود لمصيرهم في فلسطين،" ورفضِهم لشعار "تحرير فلسطين"؛ وعلى هذا الأساس أيضًا يمكن "فهمُ" تبنّيهم لشعار "إزالة آثار العدوان" بعد العام 1967.

أمّا في خصوص موقف الشيوعيين من انطلاق الثورة الفلسطينيّة، فيمكن الرجوعُ إلى تصريحات أبرز قياديّي الحزب آنذاك، ومنهم إميل حبيبي، الرافضُ كليًّا للكفاح المسلّح، بل المعادي له أيضًا! فقد استخدم حبيبي وحزبُه منذ العام 1965 كلماتٍ مثل "تطرّف" و"إرهاب" و"إجرام" و"مرتزقة" و"مخرِّبون..." في مواقع رسميّة إسرائيليّة كالكنيست، في وصف العمل الفدائيّ والفدائيين.[11] وكان هذا موقفًا ينسجم مع انخراط الشيوعيّين الفلسطينيّين داخل الكيان الصهيونيّ في المؤسّسة الصهيونيّة عبر اندماجهم في الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ والتخلّي عن تنظيمهم الوطنيّ، "عصبة التحرّر." وكان ينسجم أيضًا مع الموقف السوفييتيّ الذي كان يتوجّس، حتى مطلع السبعينيّات، من المقاومة المسلّحة.

 

إشكاليّة التأسيس

من المعروف أنّ الحزب تأسّس سنة 1919 من قِبل المستوطنين الصهاينة الوافدين من أوروبا الشرقيّة وروسيا، والمتأثّرين بالأفكار الماركسيّة. وفي التأسيس ذاته تكمن الأزمة: مستوطنون، يُعَدّون المادّةَ البشريّةَ لمشروع استعماريّ استيطانيّ ترحيليّ، يقومون بتأسيس حزب "شيوعيّ" بالاستناد إلى الماركسيّة اللينينيّة، التي رَفضتْ (على لسان منظِّريها ــــ ماركس ولينين تحديدًا) فكرةَ حلّ المسألة اليهوديّة خارج إطار الصراع الطبقيّ في البلدان التي يعيش فيها اليهودُ مجموعاتٍ مُضطهَدةً. هذا التزاوجُ المصطنعُ بين الشيوعيّة والاستيطان اليهوديّ أدار الظهرَ للتناقض الرئيس، القوميِّ في الدرجة الأولى، بين المستعمِرين اليهود (مدعومين من الإمبرياليّة البريطانيّة) والشعبِ الفلسطينيّ، من أجل أن يُعْلي من شأن التناقض الطبقيّ. غير أنّه بات أيضًا مصدرَ أزمةٍ استمرّت إلى ما بعد العام 1948.

اليوم قد يبدو غريبًا أن نقرأ أنّ حزبًا شيوعيًّا، ضمّ لاحقًا أعضاءً عربًا على قلّتهم، قد رأى الصراعَ عند تأسيسه في العام 1921 صراعًا طبقيًّا يخوضه العمّالُ العربُ واليهودُ المستوطنون معًا ضدّ الرأسماليّة اليهوديّة والأفنديّة العرب، بحيث يخاطب العمّالَ العربَ بالقول: "... [اليهود] لم يأتوا لاضطهادكم، بل لكي يعيشوا معكم. وهم مستعدّون للجهاد إلى جانبكم ضدّ هؤلاء الأعداء الماليّين من اليهود والعرب والإنجليز."[12] لكنّ ذلك مفهومٌ من الزاويتيْن النظريّة والتاريخيّة.

فنظريًّا، لا بدّ من أنّ يهودًا هَجروا بلدانَهم للاستيطان على حساب الغير وأعلنوا ماركسيّتَهم لن يفكّروا قوميًّا لأنّ مجرّد طرح ذلك سيعني إدانةَ استيطانهم لفلسطين لا غير!

أمّا من الزاوية التاريخيّة، فتأسيسُ الحزب من قِبل المستوطنين اليهود، وتربُّعُهم على عرشه سنواتٍ طوالًا، على الرغم من قرار تعريب الحزب من قِبل الكومنتيرن، سيترك تأثيراتِه في موقف الحزب الذي أدار ظهرَه أصلًا، كما قلنا، للمسألة القوميّة، وأعلى، بشكلٍ مصطنعٍ، من شأن المسألة الطبقيّة. وفي العام 1947 أعلنت "العصبة" في بيانٍ لها أنّها "تفْصل عمليًّا بين الصهيونيّة، صنيعةِ الاستعمار، وبين السكّان اليهود المضلَّلين..."[13] علمًا أنّ هؤلاء "المضلَّلين" هم المستوطنون الصهاينة، بالمفهوم الوطنيّ الفلسطينيّ، ويستوطنون الأرضَ الفلسطينيّة على حساب الشعب الفلسطينيّ!

هذا البيان، على محدوديّة كلماته، يلخِّص الإشكاليّة المستمرّة منذ تأسيس الحزب إلى ما بعد انفصال الشيوعيّين الفلسطينيّين عن الحزب الشيوعيّ الإسرائيلي وتأسيس إطار قوميّ للشيوعيّين الفلسطينيين باسم "عصبة التحرّر." وهذه ليست إشكاليّةً في التأسيس فحسب، بل تعكس أيضًا بقاءَ التأثير الصهيونيّ في موقف الشيوعيّين، الأمرُ الذي يحيلنا على الإشكاليّة الثالثة.

 

إشكاليّة الطبقيّ والقوميّ

افتراضُ الشيوعيين الفلسطينيين أنّ المستوطنين اليهود "مضلَّلون" يعني "جرّ"َ هؤلاء من شرك الصهاينة إلى التحالف معهم، ضدّ طرفيْن، مدعوميْن من الإمبرياليّة البريطانيّة، هما الرأسماليّون الصهاينة والبرجوازيّون العرب. وعليه، فإنّ المسألة بالنسبة إلى الشيوعيين الفلسطينيين ليست صراعًا قوميًّا بل صراعٌ طبقيّ، يخوضه العمّالُ والفلّاحون العرب إلى جانب "رفاقهم" اليهود ضدّ الرأسماليّين العرب واليهود من أجل استقلال فلسطين عن الاستعمار البريطانيّ. وحتّى بعد استقلال الشيوعيّين الفلسطينيّين في حزبٍ فلسطينيّ (هو "العصبة")؛ وبعد اتّضاح أنّ "اليهود المضلَّلين" هم مادّةُ المشروع الاستعماريّ لكونهم مستوطِنين يستوطنون الأرضَ على حساب الفلّاحين الفلسطينيّين، بل جنودًا في العصابات الصهيونيّة المسلّحة لطرد العرب وتثبيت المشروع الصهيونيّ...؛ حتى بعد كلّ هذا، بقي الشيوعيّون الفلسطينيون يروْن في المستوطنين (العمّال أساسًا) حليفًا ينبغي جذبُه إليهم، ويَعْتبون على القيادة القوميّة لأنّها لا تولي تلك المسألةَ الأهميّةَ المناسبةَ، كما ورد في البيان المذكور أعلاه.

أمّا حين بلغت المجازرُ في العام 1948 أشدَّها وشملتْ ربوعَ الوطن كلِّه، فقد نشط الشيوعيّون الفلسطينيون في توزيع المنشورات الرافضة لدخول الجيوش العربيّة التي يسمّونها "غزاة"![14] وثارت الشبهاتُ حول مشاركة بعضهم، كإميل حبيبي، في تزويد العصابات الصهيونيّة، كالهاغاناه، بالسلاح التشيكيّ، كما ورد سابقًا.[15]

لقد كان الأشهب في نقده لمواقف فؤاد نصّار، عبر الاقتباس الذي أوردناه أعلاه، أكثرَ من مُجامل. ذلك لأنّه لم يرَ سوى مبالغة في موقف نصّار من إعلاء الطبقيّ على حساب القوميّ، ولم يصل في نقده إلى النهاية. غير أنّ هذه "المبالغة" حوّلتْ بعضَ الشيوعيين الفلسطينيين، عمليًّا، إلى خدمٍ للمشروع الصهيونيّ.

إنّ هذه الإشكاليّة الثالثة سببُها الإشكاليّةُ الثانيةُ أساسًا، أيْ إشكاليّةُ التبعيّة للموقف السوفييتيّ، لا الفقرُ النظريّ العاجز عن رؤية التناقض الرئيس، أو فقرُ الإحساس بالموقف الشعبيّ الفلسطينيّ الرافض بشكل كاسح للوجود الصهيونيّ في فلسطين. ودليلُنا على ذلك ما أوردناه في المقدّمة من رفض "العصبة،" ورفضِ قياديين شيوعيين فلسطينيين، كتوما وفرح، لقرار التقسيم سنة 1947، بما يشير إلى قدرةٍ نظريّةٍ لدى هؤلاء على رصد التناقض الرئيس.

                                                                (معين بسيسو)

هويّة الشيوعيّين الفلسطينيّين

بعد العام 1948 تخلّى الشيوعيّون الفلسطينيون الذين ظلّوا في الكيان الصهيونيّ عن تنظيمهم الفلسطينيّ (عصبة التحرّر الوطنيّ) وانخرطوا في الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، انسجامًا مع اعترافهم بشرعيّة دولة "إسرائيل" وانخراطِهم في مؤسّساتها المختلفة. أمّا مَنْ تبقّى منهم في الضفّة الغربيّة فقد أسّسوا الحزبَ الشيوعيّ الأردنيّ في العام 1951. وفي غزّة تأسّس الحزبُ الشيوعيّ الفلسطينيّ، وكان الشاعرُ الراحل معين بسيسو من أبرز قياداته. وبعد العام 1967 ووقوعِ فلسطين كاملةً تحت الاستعمار الصهيونيّ، استمرّ الشيوعيّون الفلسطينيّون بالعمل في الحزب الشيوعيّ الأردنيّ حتى العام 1982.

لكنْ، ما الذي برّر بقاءَ الشيوعيّين الفلسطينيّين من دون إطارٍ وطنيّ فلسطينيّ للشيوعيّين حتى العام 1982؟

فالمعلوم أنّ منظمة التّحرير الفلسطينية تشكّلتْ في العام 1964 بقرارٍ عربيّ. وعلى الرغم من ملابسات التأسيس المتعلّقة بمواقف الأنظمة، وتحديدًا رغبة الرئيس جمال عبد الناصر في احتواء النضال الفلسطينيّ، إلّا أنّ تأسيسَها وإعلانَها الميثاقَ القوميّ كانا إشهارًا لاستقلاليّة الهويّة الفلسطينيّة ولتجسيدِها في إطارٍ جامعٍ مؤسّساتيّ/ تنظيميّ. وفي العام 1974 وقف عرفات ممثِّلًا لمنظّمة التحرير وللشعب الفلسطينيّ في الأمم المتّحدة، ما شكّل اعترافًا دوليًّا صريحًا بمكانة هذه المنظّمة. وقبيْل ذلك كانت جامعةُ الدول العربيّة قد اعترفتْ بالمنظّمة ممثّلًا شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطينيّ. وقبل ذلك وبعده فرضت المقاومةُ الفلسطينيّة حضورَها السياسيّ والشعبيّ على المستويات المحليّة والعربيّة والدوليّة. ومع ذلك كلّه استمرّ الشيوعيّون الفلسطينيّون حتى العام 1982 يعملون ضمن الحزب الأردنيّ.

الجدير ذكرُه أنّه جرت محاولتان لإعلان حزب شيوعيّ فلسطينيّ، بمعنى الانفصال عن الحزب الشيوعيّ الأردنيّ. الأولى سنة 1974، وقام بها شيوعيّون فلسطينيّون، على رأسهم الشهيد محمد قطامش وأبو عمر، فوأدَتها قيادة الحزب الشيوعيّ الأردنيّ سريعًا، وفصلت الرفيقيْن. والثانية عندما أُعلن عن تأسيس حزب شيوعيّ فلسطينيّ، من أبرز قياداته فؤاد قسّيس، وكان يقود ــــ مع فهمي السلفيتي ورشدي شاهين منذ العام 1971 ــــ فريقًا انفصل عن الحزب الشيوعيّ الأردنيّ وأسّس ما سُمّي حينه بـ"الكادر اللينينيّ،" ولاحقًا (منذ العامْ 1977) بالحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ.

ما يسوقه بيانُ التأسيس أسبابًا "موضوعيّةً وذاتيّةً" وراء إعلان تأسيس الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ في العام 1982 لا يصمد أمام التحليل، ولا يجيب عن السؤال: "لماذا تأخّر هذا الإعلان؟" فالبيان يقول إنّ إعلان التأسيس ينسجم مع "التطوّرات الموضوعيّة والذاتيّة، وفي مقدّمتها الحاجةُ لتأكيد الالتزام بالهدف الوطنيّ المباشر [أي الدولة الفلسطينيّة المستقلّة] ورسوخ وحدة الشعب الفلسطينيّ حول هذا الهدف، واتساع الاعتراف الدوليّ به كحقٍّ مشروع..." وألحق البيانَ ذلك بجملٍ مكرّرةٍ في كلّ البيانات الشيوعيّة حول تعاظم دور الطبقة العاملة وجماهير الكادحين.

لكنّ واقع الأمر هو أنّ "الالتزامَ بالهدف الوطنيّ" شأنٌ قديمٌ، وهو ليس ــــ كما يحدّده البيان ــــ "الدولة الفلسطينيّة المستقلّة،" بل تحرير كامل فلسطين. أمّا "الاعتراف الدوليّ،" الشعبيّ قبل الرسميّ أيضًا، فيَسبق العام 1982؛ إذ إنّ منظّمة التحرير كانت قد غدت قبل ذلك العام كيانًا سياسيًّا جامعًا للشعب الفلسطينيّ. فلماذا هذا التأخير في تأكيد الهويّة الوطنيّة للشيوعيّين الفلسطينيّين؟ لماذا لم يحافظ الشيوعيّون داخل الكيان الصهيونيّ على تنظيمهم الفلسطينيّ بعد النكبة؟ لماذا لم يشكّل الشيوعيّون في الضفّة وغزّة تنظيمهم الفلسطينيّ المستقلّ بعد النكبة؟

كلُّها أسئلةٌ تتعمّد كتاباتُ الشيوعيّين إهمالَها. أما نحن فنعتقد أنّ الإشكاليّة تكمن في ذلك النزوع المزمن إلى الاستسلام للمتغيِّرات السياسيّة بسرعةٍ فائقةٍ من دون مواجهتها وتحدّيها: أعلن السوفييت قبولهم قرارَ التقسيم فأعلن الحزبُ قبوله؛ نجحت الصهيونيّةُ في بناء كيانها فانخرط الشيوعيون الفلسطينيون فيه وصاروا جزءًا من الحزب الشيوعي الإسرائيليّ؛ سيطر الأردن على الضفّة فانخرطوا في الحزب الأردنيّ؛ "وحّد" الاستعمارُ الصهيونيّ فلسطينَ تحت هيمنته في العام 1967 فظلّوا تحت المسمَّيان الأردنيّ والإسرائيليّ. وها نحن أمام إشكاليّةٍ رابعة في تاريخ الشيوعيّين الفلسطينيّين: إشكاليّة تأكيد هويّتهم المستقلّة.

القاهرة

[1] - ورد الاقتباس نقلًا  عن صحيفة الاتحاد، في كتاب عادل منّاع، نكبة وبقاء ــــ حكايةُ فلسطينيين ظلّوا في حيفا والجليل: 1948 ــــ 1956 (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2016)، ص 159.

[2] - تأسّس الحزبُ الشيوعيّ الفلسطينيّ في العام 1919 حين بادر "عددٌ من العمّال التقدّميين اليهود المهاجرين من أوروبا إلى فلسطين" بتأسيس حزب العمّال الاشتراكيّ، الذي غيّر اسمَه إلى "الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ" في العام 1921، وانضمّ إلى الكومنترن في العام 1924 (المعلومات من كرّاس: عشر سنوات على إعادة تأسيس الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ 1977 ــــ 1987). وتنبغي الإشارة إلى ملاحظتين: الأولى أنّ هذا الحزب هو امتدادٌ لجماعة الكادر اللينينيّ التي انشقّت عن الحزب الشيوعيّ الأردنيّ مطلعَ السبعينيّات ولم تحظَ بـ"الشرعيّة السياسيّة" من قِبل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. الملاحظة الثانية هي أنّ هذه الجماعة كانت، حتى العام 1987، ما تزال ترى في المستوطنين اليهود "عمّالًا تقدّميين يهودًا مهاجرين" شأن أيّة مجموعة مهاجرة من بلدها الأصليّ إلى بلدٍ ثانٍ!

[3] - تمكنكم مراجعة قسطنطين زريق، معنى النكبة (بيروت: دار العلم للملايين، 1948)؛ وموسى العلمي، عبرة فلسطين (بيروت: دار الكشّاف، 1949)؛ وجورج حنّا، طريق الخلاص: تحليل وضعيّ لمحنة فلسطين (بيروت: دار الأحد، 1948).

[4] شرح نعيم الأشهب الموقفَ السوفيتي بأنّه نتاجُ "أوهام غير قليلة حول سرعة تحوّل إسرائيل إلى دولة اشتراكيّة حتى لدى قادة الكرملين، بمن فيهم ستالين ومَن حوله." وتابع يقول إنّ تلك التحليلات "سطحيّة وخاطئة وخاسرة!" ومع ذلك، لم يوردْ كلمةً عن تبعيّة الشيوعيين الفلسطينيين لتلك التحليلات، بل قدّم تبريراتٍ سنسوقها لاحقًا. ورد لدى: عادل مناع، المصدر السابق، ص 168.

[5] - معلومات وافية عن الصفقة، وعمّا أشيع عن مشاركة إميل حبيبي في عقدها، موجودة في المصدر السابق، عادل مناع، ص 145 ــــ 196.

[6] -  عودة الأشهب ونعيم الأشهب، اليسار العربيّ الفلسطينيّ 1943 ــــ 1948 (المركز الفلسطينيّ لقضايا السلام والديموقراطيّة، دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع،  2008).

[7] - كما ورد لدى عادل مناع، ص 168.

[8] - للوقوف على موقف الأشهب وتفاصيل المنشور وموقف الصهاينة والشيوعيين، يمكن العودة إلى عادل مناع، ص 145 ــــ 195.

[9] - مناع، مصدر سابق.

[10] - لم ينفرد الشيوعيون في فلسطين بذلك، بل هي سمةٌ طبعت الحركةَ الشيوعيّة العالميّة. ومَنْ تمرّد على بيت الطاعة السوفييتيّ جوبه بالفتور في الحدّ الأدنى، وبالنبذ والتشهير في الحد الأقصى.

[11] -  أنظر جورج كرزم، الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ بين التناقض والممارسة (1948 ــــ 1981) (القدس: إصدارات الشعلة، ط 1، 1993)، ص 108؛ ومحمود محارب، الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ والقضيّة الفلسطينيّة (1948 ــــ 1981)، (القدس 1989)، ص 118 و 138 ــــ 129.

[12] - موسى البديري، شيوعيون في فلسطين: شظايا تاريخٍ منسيّ (رام الله: المؤسّسة الفلسطينيّة لدراسة الديموقراطيّة، 2013)، ص 256.

[13] - المصدر السابق، ص 362.

[14] راجع جريدة كول هعام، جريدة الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ ــــ ماكي باللغة العبريّة، 16/11/ 1948. وتعبير "الغزاة" كان يُقصد به الجيشان الأردنيّ والمصريّ. وتمْكن أيضًا مراجعة الاتحاد، جريدة الحزب باللغة العربيّة في 8 /11/1948، وهي تتحدّث أيضًا عن "الغزاة،" لكنّ الإشارة هذه المرة هي إلى "قطعان" القائد العربيّ فوزي القاوقجي في وجه "رجال عصبة التحرّر في الجليل الأعلى."

[15] يذكر الأشهب ترتيبات سفر إميل حبيبي في: عودة الأشهب، تذكّرات عودة الأشهب ــــ سيرة ذاتيّة (بيرزيت: جامعة بيرزيت، 1999)، ص 120-121. وفي الطرف "الآخر" يمكن مراجعة مقالة آريه ديان في جريدة هآرتس الإسرائيليّة بعنوان "الشيوعيون الذين أنقذوا الدولة" (9/5/2006).

وسام الرفيدي

باحث ومحاضر متفرغ في دائرة العلوم الاجتماعية في جامعة بيت لحم- فلسطين، عمل سابقاً كمحاضر غير متفرغ في جامعة بيرزيت لعلم الاجتماع والدراسات الثقافية. حاصل على شهادتي ماجيستير من جامعة بيرزيت، الأولى في علم الاجتماع عن رسالته، التحولات على مكانة المرأة في الرواية الفلسطينية المعاصرة، ما قبل وبعد أوسلو، والثانية في الدراسات العربية المعاصرة.

يحاضر الرفيدي منذ سنوات في مساقات عدة منها النظرية الاجتماعية، الحركات الاجتماعية، الإعلام والاتصال، السكان، والعائلة، كما يساهم حالياً مع زملائه في الدائرة تطوير مساقات إضافية في التاريخ الاجتماعي الفلسطيني وعلم اجتماع الدين. للباحث رواية منشورة (الاقانيم الثلاثة) بطبعتين في رام الله ودمشق، وكتاب صدر عن الفارابي حول المرأة والرواية الفلسطينية بين زمنين: أوسلو والمقاومة، وكتاب ثاني صدر في رام الله حول صناعة الكتاب في فلسطين قُدِم لمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب، كما وله العديد من الدراسات المنشورة في مجلات وكتب، منها دراسات في الهوية الفلسطينية بعد أوسلو، القومية المتخيلة والعنف في النص التوراتي، والخطاب الفكري للمنظمات.

 تتعدد اهتمامات الباحث معرفياً فإضافة لحقول العلوم الاجتماعية، تحظى قضايا مثل نظرية الرواية والنص الديني والفكر السياسي باهتمام خاص من قبله.